fbpx

علي دوبا وأنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم، هو ذا يرحل، مثله مثل أي رجل من ضحاياه. لا علم يلف النعش، ولا عربة مدفع، لا مدفعية تطلق إحدى وعشرين طلقة. ورقة نعي عادية، مطبوعة في مطبعة تجارية رخيصة في اللاذقية، قالت إنه قضى حياته في الصلاح والتقوى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أغرب ما في خبر وفاة علي دوبا أنه كان لا يزال على قيد الحياة، فالرجل مختفٍ تماماً منذ قرابة العقدين، بعد أن كان مالئ الدنيا طولاً وعرضاً. قبل سنوات، نشرت له صورة على موقع للتواصل الاجتماعي، بدا فيها كقميصٍ عتيق، استخدم مراراً حتى اهترأ، فغسلته صاحبة البيت المدبرة، ووضعته في درج لاستخدامه لمسح الغبار.

في الصورة، بدا هو وشقيقه محمد وابن شقيقه المحامي أيمن دوبا، الذي نشر الصورة على صفحته الشخصية في “فيسبوك”، وكأنه يريد أن ينتقم منه. كان بقميص “تي شيرت” أصفر ويبدو أنه من النوع الثمين، ولكن فمه المفتوح، يكشف عن فم متهدّل، لعله خالٍ من الأسنان. كان يبدو رجلاً طاعناً في السن، طيباً، سمح الوجه، على شيء من الوسامة الغامضة، ولعل من يرَ أمام الصورة لا يفاجأ كثيراً بعبارة عارضة وردت في ورقة نعيه، تقول إن الرجل “لبى نداء ربه… عن عمر ناهز 89 عاماً قضاها في الصلاح والتقوى”. وقد أثارت العبارة سخرية من سخر، فمن يعرف الجنرال يعرف أن آخر ما كان يهتمّ له حين كان في مجده هو الصلاح والتقوى. ولكن هل مال في سني اعتكافه نحو بعض الصلاح وبعض التقوى؟

لعلّه فعل ذلك، حين سيق من مكتبه إلى بيته، وفرض عليه التقاعد الذي لم يكن يريده أو يفكر فيه، لكي لا يقف حجر عثرة في تفرد الأسد الصغير في السلطة عام 2000، بعد وفاة الأسد الكبير ومعلّم علي دوبا. 

بل لعلّه فعل ذلك إثر وفاة ابنه محمد بعد اختفائه الغامض في يوم من أواخر الربيع في عام 2012. يرجح أن يكون محمد قد خُطف على طريقة المافيات العريقة، نتيجة صراعات خاصة مع منافسين تجاريين. تساوى العجوز دوبا الذي كان يجلس في بيت العائلة في قريته النائية قرفيص، في الفقد مع أهل عبد العزيز الخير وخليل معتوق وكثر كثيرة من الأشخاص الذين اختفوا، بظروف أقل غموضاً، ولكننا لا نعرف شيئاً عنهم. ولكن محمد سيظهر بعد ذلك، جثةً هامدة، فيدفن، ويمنع الأب الكليم من تلقي العزاء فيه، إلا عن طريق “وسائط التواصل الاجتماعي،” كما كتب في ورقة النعي.

حين اغتصب حافظ الأسد السلطة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، كان ثمة رجل واحد يؤرّق منامه، هو اللواء محمد عمران، الضابط القوي والسياسي البراغماتي الذي كان الأسد وصلاح جديد، اعتقلاه صبيحة 23 شباط/ فبراير 1966، ثم أقصياه عن السلطة، فعاش في طرابلس شمال لبنان. 

يروى عن عمران أنه كان ذا يد نظيفة وسمعة اجتماعية جيدة، وكان براغماتياً غير متصلب برأيه، ميالاً إلى الاقتصاد المشترك ما بين القطاعين العام والخاص. ولكن ما كان يخيف الأسد هو تأثيره في عدد من الضباط الصغار الذين كانوا مرتبطين به، ويكنون له احتراماً كبيراً، ما جعله ذا نفوذ حتى بعد انقلاب الأسد. بين هؤلاء الضباط، كان علي دوبا، الذي لم يوالِ الأسد حتى قتل الأخير اللواء عمران في بيته في طرابلس، على يد مقاتلين من الصاعقة. 

بعد مقتل عمران، نقل علي دوبا ولاءه إلى القائد الجديد، وأخلص له، ما جعله يرتقي في معراج السلطة، وقد اكتسب ذلك اكتساباً، بجهده وكفاحهه وعدد الذين اعتقلهم وعذّبهم واغتصبهم وأخفاهم. من ابن شيخ قروي من قرية قرفيص في جبال اللاذقية إلى واحد من الخمسة الأقوياء الذين أحاطوا بدكتاتور سوريا حافظ الأسد، كان علي دوبا قد قطع رحلة طويلة ومعقّدة. وحين تسلّم رئاسة المخابرات العسكرية عام 1974، علم الجميع أن نجماً جديداً قد بدأ يعلو في سماء العنف السلطوي والفساد. بعد سنوات، سيستخدم حافظ الأسد علي دوبا مع زملائه علي حيدر وإبراهيم الصافي وشفيق فيّاض ضدّ طموحات شقيقه رفعت الأسد الانقلابية، قبل أن يدرك أن بسالته في مواجهة رفعت لم تكن ولاءً لحافظ وحسب، وإنما تمهيداً لبناء إمبراطورية مالية سيشرف عليها ابنه محمّد، الذي سيختفي في ظروف غامضة مطلع الثورة السورية. 

رأيتُ علي دوبا في حياتي مرتين. لم أره في الحقيقة في المرة الأولى، بل رأيت حذاءه. كنت معصوب العينين بعصابة جلدية، أقف في مكتبه في المزّة، ساعات بعد اعتقالي على الحدود اللبنانية قادماً من بيروت، بعد عقد المؤتمر الأول لحزب العمل الشيوعي.

أدخلني أحد العناصر إلى مكتب ما، وقال بصوت بدا لي خائفاً مثلي: “الموقوف سيدي”. 

“أحضر له كرسياً”. أمره صوت من الداخل، فترك العنصر ذراعي، وأحضر لي كرسياً معدنياً وضعه في منتصف الغرفة وأجلسني عليه. نظرت إلى الأرض، كانت تحت قدميّ سجّادة نظيفة فاخرة، فأدركت أنني في مكتب رجل مهم.

“انصرف أنت!” جاء أمرٌ ثانٍ، بصوت بدا مختلفاً عن الأول، فأدركت أن في الغرفة أكثر من شخص. 

“شو اسمك؟” جاء السؤال من رجل ثالث، صوت هادئ، واثق وغير انفعالي. أدركت أن السؤال موجّه لي، فأجبت بصوت مرتجف.

“وليد ل.”

لم أكن أرى الرجل الواقف أمامي. بدأ عدد من أزواج الأحذية يدور حول كرسي لم أحدد عددها بالضبط. وأخذ العرق اللزج يتسلل من تحت الطميشة، يدخل العينين فيحرقهما.

“شو اسمك؟” كرّر الرجل بصوت أفهمني أنه لم يصدّقني.

“وليد ل.” كرّرت، وأحسست باختناق في الحلق، فبدت الكلمات غريبة على مسمعي، وكأن الصوت لشخص آخر.

” ليك ولا.” انفجر الرجل الأول بصوت كالرعد، “ما عنا وقت. أنت أخوان، ولا؟”.

راعني سؤاله. وأحسست بالخوف والإهانة معاً. 

“لا!”.

“لكن شو؟”.

وصمت. كان من المعيب أن أجيب فوراً على أول سؤال يطرحه محقق في فرع للأمن. فجأة فُتح الباب، ودخل زوج جديد من الأحذية، واقترب نحوي ويبدو أنه كان يتأملني عن كثب، ثم فرقعت ضحكة عالية في سماء الغرفة.

” العمى بعيونك. ولك شو جابك لعنا. والله ما بدنا إياك”.

ثم خفتت الضحكة وسمعته يقدمني إلى رجل بدا أعلى منه رتبة:

“سيدي. هذا الرفيق وائل السواح”.

ساد صمت غريب لوهلة، كأن الموجودين يحاولون أن يتذكروا الاسم. فتابع الوافد الجديد:

“عضو الهيئة المركزية برابطة العمل، سيدي”. 

ساد بين الجميع ما يشبه خيبة الأمل وفي الوقت عينه انفراج في التوتّر. سأعرف لاحقاً أنهم كانوا يتوقّعون يومها دخول عدد من قيادات الإخوان بهويات مزوّرة، وحسبوا أنني واحد منهم. انقلبت الجلسة إلى حفلة تنكيت. وقال الرجل الأكثر أهمية بين الرجال في الغرفة:

“ولك ليش مسافر بهوية مزورة. سافر بهويتك، مين بدو إياك؟ ليش بتلبونا بحالكن؟” 

استخفّ بي طرب، فقلت محاولاً أن أمازحهم: “إذا ما بدكن إياني خلوني روح.” لم أعرف وقتها، ولا أعرف الآن أكانت تلك مشاركة في روح المرح التي سادت الغرفة، أم أنها تعلّة للنفس، ربما أدت إلى إخلاء سبيلي.

على أن المرح سرعان ما اختفى وبدأ الجد. 

سأعرف فيما بعد أن الرجل الذي عرفني هو المقدّم -وقتها- كمال يوسف، أما الرجال ثلاثة الآخرون الأعلى رتبة منه فكانا رئيس الفرع العقيد مظهر فارس والعميد الذي كان اسمه يسطع في سماء السلطة، آصف شوكت، وأخيراً – لا أحد آخر سوى – اللواء علي دوبا، رئيس شعبة المخابرات العسكرية. وسأعرف أن حُسن الحظّ وحده أوقعني مع المخابرات العسكرية وليس مع مخابرات أمن الدولة. لا تعرف شعبة المخابرات العسكرية الكثير عني، فملفّي موجود لدى أمن الدولة، ومحمد ناصيف لا يشرك في مملكته أحداً. وقد يكون من حسن حظي أيضاً أنني لم أعرف وقتها أن علي دوبا كان موجوداً في الغرفة، لأن ذلك كان سيزيد رعبي.

ستتاح لي رؤيته في ما بعد، كان وجهه وسيماً أقرب إلى الدعة منه إلى الغلظة، أبيض البشرة، بعينين فاتحتين، تنبعث منهما أحياناً سخرية خفيفة. أما مظهر فارس فكان جزاراً حقيقياً بكل ما في الكلمة من معنى. حين سيقرر دوبا بعد ساعة من الحوار تعذيبي، سيتولّى مظهر فارس نفسه دور الجلاد. كان لمظهر فارس هوايتان: التعذيب وزراعة الأزهار. حوّل حديقة فرع التحقيق العسكري إلى ما يشبه الجنّة، وكان يعاقب أي عسكري عنده يقطف زهرة أو يدوس عشبة، ثمّ جاء ذات يوم بنسر حقيقي، زيّن به حديقته، وكان يطعمه بنفسه كلّ يوم. لا أعرف أسرة مظهر فارس، ولكن لن يفاجئني إن كان في بيته زوجاً مثالياً، يحب زوجته ويدلّل أولاده. ورأيت آصف شوكت بعد ذلك في مكتبه مرتين. لم يخلّف لدي أبداً شعوراً بالكراهية أو الحقد. كان يبدو لي مسالماً، ذكياً، شديد الثقة بالنفس. وحين منعني علي دوبا بعد سنوات السجن العشرين من السفر، كان عليّ أن أنتظر وصول آصف شوكت إلى سدّة الحكم، لكي أحصل على جواز سفر. سيموت آصف شوكت في انفجار خلية الأزمة بعد أوّل لقاء بيننا بإحدى وثلاثين سنة. حين سمعت بخبر التفجير، قلت لزوجتي، وكنا نسمع الخبر سوية: “قتله بشار.”

حين عرف الجميع هويتي الحقيقية، بدأ التحقيق يأخذ مساراً آخر. كان علي دوبا الآن يريد شيئاً واحداً؛ رجلاً واحداً: فاتح جاموس. 

“نحن لا نريدك. في الحقيقة لا نريد أحداً. ألم نطلق سراح رفاقك السنة الماضية؟” قال لي بإغراء، وتابع: “أريد أن أجلس فقط مع فاتح جاموس ساعة واحدة، يخرج بعدها، وتخرج أنت، ولا تعود تحتاج إلى التخفي وحياة القرباط التي تعيشها”. 

صمتُّ. 

“شو؟” سألني.

حاولت أن أحرف النقاش نحو السياسة. ليس سهلاً أن تحاور في السياسة وأنت معصوب العينين، ولكنني حاولت أن أشرح له أن الرابطة غيّرت نهجها في تقرير آب، وأنها لم تعد تريد إسقاط النظام، بل إنها نقلت البندقية من كتف إلى كتف، وهي توجه سلاحها الآن ضدّ الإخوان المسلمين وإرهابهم. 

“سيدي،” قال الرجل الآخر الذي سأعرف لاحقاً أنه مظهر فارس، “هادا ما بيمشي معه اللطف.”

تجاهله المعلّم، وعاد يحدثني:

“أي بندقية وأي إسقاط سلطة؟ أنتم تستطيعون إسقاطنا؟ أنتم؟”

“أعني أننا جمّدنا شعار إسقاط النظام،” قلت.

فانتفض وسمعته ينهض عن كرسيه بعنف:

“ولك اللي خلقك ما بسقّطنا.” صاح بي مقلقلاً القاف بصوت مجلجل. ثمّ هدأ لحظة، واقترب مني وقال:

“ليك وائل. هلق أنا بترك الغرفة وبيجيك مساعد ما بيعرف ربّه”. كان التهديد واضحاً، لا لبس فيه.

“بتجبلنا فاتح، بتنام الليلة ببيتك”.

حسبت الوقت. ما بين التوقيف على الحدود ومسافة الطريق والزمن الذي مرّ ههنا، كانت قد مرّت ستّ ساعات على الأقل. كان العرف بين أعضاء لجنة العمل أن يمنح المعتقل الرفاق في الخارج ستّ ساعات عليه أن يصمد خلالها، ثمّ يحقّ له أن يعترف على بيته أو بيت المنظّمة. خلال هذه الساعات ينبغي على الرفاق إخلاء البيت من الأشخاص والوثائق ونقلها على مكان آخر لا يعرفه الرفيق المعتقل. 

“يا ريت بعرف وينه.”  

“ولك أنت عضو بالقيادة ولا خْروق؟”

صمتتُّ. فنهض غاضباً، وصاح بغضب: “اصطفل!” ثمّ سار إلى الباب خابطاً الأرض بقدميه، راقبت حذاءه يمشي صوب الباب. سمعت الباب يفتح ثم يغلق، ولكن الحذاء لم يغادر الغرفة. وصاح بي صوت:

“بدك تعترف ولا لأ يا حيوان؟”

قبل أن تبدأ حفلة السمر.

واليوم، هو ذا يرحل، مثله مثل أي رجل من ضحاياه. لا علم يلف النعش، ولا عربة مدفع، لا مدفعية تطلق إحدى وعشرين طلقة. ورقة نعي عادية، مطبوعة في مطبعة تجارية رخيصة في اللاذقية، قالت إنه قضى حياته في الصلاح والتقوى. لن يعزي به الأسد، رغم أنه كان من بين أعمدة نظام أبيه، فلا يعرف عن الأسد أنه يبادل الإخلاص بإخلاص ولا الولاء بولاء ولا المودة بمثلها. 

بعد تسعين سنة تقريباً، يمضي وحيداً، ويكاد أن يكون واحداً ممن “لم يصلِّ عليهم أحد”.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.