fbpx

سحب الاعتراف من البطريرك العراقي لويس ساكو: صراع سياسي أم إصلاح دستوري؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تعيش الطوائف المسيحية في العراق هذه الأيام حالة قلق، في ظل صراع يصفه كثيرون بالخطير، صراع بين رأس الكنيسة بطريرك الكلدان، وزعيم حركة سياسية تستحوذ على القرار المسيحي، لتعود معه الأسئلة عن الوجود والمستقبل المسيحي في العراق الذي يهاجر أبناؤه بلا عودة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأ الصراع مع بطريرك الكلدان لويس ساكو مع محاولة الكنيسة لعب دور أكبر في القرار السياسي، أسوةً بالمرجعيتين الشيعية والسنية، وانتزاع صفة التمثيل من القوى السياسية المسيحية المشتتة، فاصطدمت الكنيسة بوجود فصيل مسيحي في قلب السلطة مدعوماً من “الحشد الشعبي الشيعي”، ليقرر البطريرك ساكو على خلفية ذلك ترك مقره في بغداد، والتوجه إلى إربيل.

فائز ايودي، مسيحيٌ متقاعد من بلدة قره قوش، مركز قضاء الحمدانية شرق مدينة الموصل، يخبرنا كيف  تقلص الوجود المسيحي في بلدته خلال العقدين الأخيرين لأكثر من النصف، كما هو الحال في البلدات المسيحية الأخرى المجاورة، يقول: “أصبحنا نعد على الأصابع، ومع ذلك نتصارع في ما بيننا بشكل فاضح من أجل مصالح ضيقة”.

يهز رأسه بأسف ويتابع: “أنا متمسك بالأرض التي ولدت فيها، لكني اليوم أفكر بالهجرة، بعدما وصل الأمر إلى تبادل الاتهامات والسباب والشتائم بين سياسيين ورجال دين من المكون المسيحي. أنا خائف من أن تسيل الدماء، لأن أحد طرفي الصراع يملك السلاح ومعروف بدمويته، والآخر رمز ديني قد يهب البعض لنصرته مستخدمين العنف”.

يشير فائز، إلى صراع ذي أبعاد سياسية ترتبط بمن يمثل المكون المسيجي، بدأ أولاً على نطاق الإعلام بين بطريرك الكلدان في العراق والعالم “لويس روفائيل ساكو”، والأمين العام لحركة بابليون “ريان الكلداني”، الذي يقود ميليشيا تحمل اسم “كتائب بابليون” أو “اللواء 50″، الذي يتبع “الحشد الشعبي”، وبرز نجمه إبان حرب تحرير نينوى ضد تنظيم داعش بين 2016 و2017.

تطور الصراع تطور في الأسابيع الأخيرة، عندما أقدم رئيس الجمهورية العراقي عبد اللطيف جمال رشيد، على إصدار مرسوم جمهوري نشر في جريدة الوقائع العراقية يوم 20 حزيران/يونيو 2023 قضى بسحب المرسوم الجمهوري رقم 147 لسنة 2013. والذي ينص على تعيين ساكو بطريركاً للكلدان في العراق والعالم ومتولياً على أوقافها.

أعقب ذلك إصدار محكمة تحقيق الكرخ المختصة بقضايا النشر والإعلام يوم 13 تموز/يوليو 2023، أمر تكليف بالحضور (استقدام) بحق لويس ساكو، وذلك للتحقيق معه بتهمة القذف وفقاً للمادة 433 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بعد شكوى تقدم بها ريان الكلداني.

هكذا انتقل الصراع بين رجل الدين والزعيم الميليشياوي، من الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى أروقة المحاكم، بعد اتهامات متكررة وجهها ساكو إلى خصمه كان آخرها في 17 أيار/ مايو 2023، في لقاء تلفزيوني اتهمه فيه بمحاولة “الاستحواذ على أي شيء يتعلق بالمسيحيين، حتى يتصرف بالأملاك والوظائف” ويستولي على (الكوته) المسيحية في مجلس النواب، وعلى وزارة الهجرة والمهجرين، واتهامه بأنه يريد الاستيلاء على الوقف المسيحي.

هدد ساكو، باللجوء إلى الحكومة العراقية والمحافل الدولية، لكن يبدو أن ريان الكلداني سبقه بخطوة، إذ استثمر علاقته بالحشد الشعبي والأحزاب الحاكمة لسحب مرسوم تعيين ساكو الجمهوري، ومن ثم قدم شكوى ضده في بغداد بتهمة القذف التي عقوبتها حبس وغرامة يحددهما القاضي المختص.

عممت رئاسة الجمهورية العراقية توضيحاً في أعقاب إلغائها المرسوم الجمهوري الخاص بلويس ساكو، أكدت فيه أن ذلك كان بقصد تصحيح وضع دستوري: “بعيداً من أي اعتبارات أخرى” من دون بيانٍ لتلك الاعتبارات. 

جاء التوضيح أيضاً ليبرر موقف الدولة إذ :”لا تصدر المراسيم الجمهورية بالتعيين إلا للعاملين في المؤسسات والرئاسات والوزارات والهيئات الحكومية، وبالتأكيد لا تعد المؤسسة الدينية دائرة حكومية، ولا يعد رجل الدين القائم عليها موظفاً في الدولة كي يصدر مرسوم بتعيينه”.

شكك ساكو في رسالة وجهها إلى رئيس الجمهورية في 10 تموز/يوليو2023، بقانونية الغاء المرسوم الجمهوري، مشيراً إلى أن” أي مرسوم ينبغي سحبه بعد مرور 60 يوماً على صدوره وإلا يعدُ مكتسباً الدرجة القطعية والمرسوم147 الخاص بي مرت على صدوره عشر سنوات!”. وأضاف ساكو بأن “المشورة القانونية التي أعطيت لفخامتكم غير صحيحة، وأرادت النيل من مقامكم ومن المكون المسيحي” وتابع: “أتمنى أن تدركوا خطورة قراركم على المكون المسيحي”. 

بعد خمسة أيام من رسالته التي قال بأنها الثالثة لرئيس الجمهورية دونما رد تلقاه، ويومين من صدور أمر الاستقدام بحقه، والذي يعقبه أمر القاء قبض بعد مرور 48 ساعة في حال لم يمتثل لأمر الاستقدام المحدد قضائياً، وجه لويس ساكو، رسالة مفتوحة إلى رئيسي الجمهورية والوزراء وإلى المسيحيين، قرر فيها الانسحاب من المقر البطريركي ببغداد، والتوجه من أسطنبول حيث يتواجد لأداء مهام (قال بانها كنسية) إلى أحد الأديرة في أقليم كردستان العراق. 

قال  ساكو (متهكماً) إنه اتخذ قراره  ليتمكن رئيس الجمهورية من:”إصدار مرسوم تعيين ريان سالم دودا (بابليون) متولياً على أوقاف الكنيسة، وشقيقه أسوان نائباً له، وشقيقه سرمد مسؤولاً للمال، وشقيقه اسامة مسؤولاً للحماية إذا وافق، بسبب تضخم أمواله من الأتاوات التي يفرضها في سهل نينوى وبيوت المسيحيين في تلكيف، والوزيرة المسيحية التي تحمل الصليب فوق ثوبها أمينا عاماً للبطريركية، وصهره نوفل بهاء رئيساً لديوان الوقف المسيحي والديانات الأخرى، وتكتمل اللعبة القذرة”.أما الوزيرة المسيحية التي قصدها ساكو، هي ايفان فائق جابرو، وزيرة الهجرة والمهجرين. 

ووصف البطريرك الوضع في العراق قائلاً: “إننا نعيش وسط شبكة واسعة من المصالح الذاتية والفئوية الضيقة والنفاق، أنتجت فوضى سياسية ووطنية واخلاقية غير مسبوقة والتي تتجذر أكثر وأكثر”. ولم يكتف ساكو بذلك، بل قال في تصريحات صحافية، “أنا عندي مرسوم من بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، وأنا أكبر شخصية دينية مسيحية تمثل الكلدان في العالم وليس في العراق أو الشرق الأوسط فحسب وليس رئيس كنيسة الكلدان الكاثوليك في العالم فقط، بل انا كاردينال وأهم شخصية دينية بعد البابا ويحق لي الترشيح على الكرسي البابوي وخوض الانتخابات لمنصب البابا… انا كاردينال كل الكلدان في العالم”.

ثم عاد للقول مقللاً من أهمية سحب مرسومه الجمهوري: “هذا المرسوم مجرد عرف معنوي وقديم جداً منذ العصر العباسي وبعدهم العثمانيون، مرورا بالعهدين الملكي والجمهوري في العراق، حيث كان يصدر فرمان من السلطان العثماني أو مرسوم ملكي أو جمهوري فيما بعد، وهو إجراء تقليدي معنوي فأنا لست موظفاً عند رئيس الجمهورية”.

وبالنسبة للمسيحيين، فقد ذكر بأنه شكل إهانة لهم، وأن تأثيره خطير عليهم في العراق، وأنه خلق حالة من “الرعب والقلق لديهم وبدؤا يفكرون بالهجرة”، وتساءل:”هل هناك أكثر من هذه الإهانة؟ ثم لماذا يجردني أنا ولا يسحب المراسيم من الآخرين؟ هذا شي غريب!” دون أن يوضح من يقصد بالآخرين.  

صعد ساكو الموقف، خلال مؤتمر صحفي عقده في أربيل يوم 21 تموز/يوليو 2023، باتهامه رئيس الجمهورية باستهداف المسيحيين حين تساءل: “هل بإمكان رئيس الجمهورية أن يُصدر بياناً ضد آية الله العظمى السيد السيستاني، أو المجمع الفقهي السني، أو غيره”. ثم خاطب المسيحيين حتى “لا يقلقوا ولا يخافوا ولا يُرعبوا لأن الباطل لا يدوم والحق هو الأقوى”، بحسب تعبيره.

الأمين العام لحركة بابليون ريان الكلداني، فقد عبر في بيان أصدره يوم 15 تموز/يوليو 2023 عن رفضه لتصريحات البطريرك ساكو وما تضمنته رسالته المفتوحة، وقال: “نحن، في حركة بابليون نرفض ما جاء في الرسالة، فنحن حركة سياسية ولسنا كتائب، ومُشاركون في العملية السياسية، ونحن جُزءٌ من ائتلاف ادارة الدولة، ونؤكد أن قرار سحب المرسوم منه، هو قرار صادر من رئاسة الجمهورية”، في اشارة الى عدم علاقة بابليون بالقرار.

تساءل الكلداني في بيانه:”إذا كان البطريرك مار لويس ساكو، يُطالب بدولةِ قانون ومؤسسات، ويُريد فرض هيبة الدولةِ، ويتمّنى نجاح الحكومة، فلماذا يلجأ كلِّ مرّة إلى الإعلام من أجل تسقيط نواب كتلة بابليون، واتهامهم بقضايا باطلةٍ لا صحّة لها”.

وذكر بأنه حاول مراراً التواصل المباشر معه من خلال أصدقاءَ مسيحيين ومُسلمين ليشرح له مواقفه السياسية “لكنه كان يرفض في كلِّ مرّة مثل هذه المُبادرات. حتّى خرجَ في مؤتمرٍ صحافي 6 أيار/ مايو 2023، وانهال علينا بتهمٍ باطلةٍ، وأعلنا في بيان لاحق، أننا مستعدون للمثول أمام القضاء في أي تهمة تُرفَع ضدّنا، وفي أي مكان في العراق”.

رحب الكلداني بلجوء البطريرك ساكو إلى كردستان، ودعاه إلى الانزواء هناك ومراجعة مواقفه السياسية والإعلامية، ثم واصل هجومه عليه: “نحن نرى بأن ما يحتاجه اليوم غبطة البطريرك هو أن ينزوي من السياسة وليس أن ينزوي بعيداً من عاصمة بطريركية بابل على الكلدان التاريخية والمثبتة. وهذا دليل على ضعف الدائرة البطريركية وخضوعها لأجندة سياسية، ليُستخدم المسيحيون مرة أخرى كورقة ضغط بين حيتان السياسة”.

مواقف مسيحية أخرى

عدد من المطارنة الكلدان ظهروا في وسائل إعلام متعددة للتعبير عن تأييدهم للبطريرك ساكو، لكن بدا واضحاً أنهم يختارون عباراتهم بعناية، ويحاولون التركيز على الجانب الديني للشخصية المعنوية التي يتمتع بها البطريرك، معبرين بنحو غير مباشر عن حيادهم في مسألة خلافاته مع حركة بابليون وأمينها العام، هذا في الأقل ما استشفه مراقبون من داخل البيت المسيحي. 

أبرزهم رئيس أساقفة أبرشية أربيل بأقليم كردستان، المطران مار بشار متي، الذي قال في مؤتمر صحافي عقده في كاتدرائية مار يوسف يوم 15 تموز/ يوليو 2023، بأنه يأسف لخطوة سحب المرسوم الجمهوري من البطريرك لويس ساكو، وأنه تطلب توضيحات أكثر: “هل هو إلغاء للمرسوم أم سحب، وإذا كان سحباً فما هي الأسباب الموجبة لذلك، ولماذا لم يتم إعلام رؤساء الكنائس بشكل ودي برغبة رئاسة الجمهورية في سحب المرسوم؟”.

اعتبر صدور المرسوم بهذا النحو استهدافاً لشخص البطريرك والكنيسة الكلدانية، فهو “رئيس كنيسة ذاتية الحق ولها استقلاليتها الداخلية وقوانينها وهو يمثل الكنيسة البطريركية في قضاياها القانونية لدى السلطات المدنية والكنسية ضمن اتفاقيات معتمدة تحافظ على نزاهة إدارة الشؤون الكنسية إن كانت متعلقة بالأحوال الشخصية أو بإدارة الممتلكات الكنسية من أجل الحفاظ على سلامة الأوقاف”.وهنالك من رأى تركيز المطران وردة على واجبات البطريرك ساكو الدينية، انتقاداً ضمنياً لتصريحاته ومواقفه السياسية المعلنة.

عضو مجلس النواب السابق يونادم كنا، الذي كان يرأس الحركة الديمقراطية الاشورية لسنوات، ذكر بأن قرار سحب المرسوم الجمهوري جرح مشاعر 14 طائفة مسيحية تعيش في العراق، بل وحتى أبناء الديانات الأخرى غير المسلمة كالصابئة والإيزيدية، وقال: “الكل قلق من هذا الإجراء، ومن هذا التوقيت وهذه المنهجية”.

ومع إقراره بأن صياغة المرسوم الجمهوري 147 عام 2013 كانت غير دقيقة، “لأنه ليس لرئاسة الجمهورية العراقية أن تعين رئيساً للطائفة كما ورد في المرسوم، فهو منتخب أصلاً ولديه شراكة تامة مع البابا، وهو متول على نحو 1500 عقار للكلدان في العراق والعالم من دير وكنيسة وغيرها”. 

إلا أنه انتقد وبشدة سحب المرسوم، وقال إن رئاسة الجمهورية كان لها أن تكتفي بتصحيح ما ورد فيه وليس سحبه، وعبر عن اعتقاده بأن الهدف من ذلك هو إزاحة البطريرك من منصبه، ثم قال: “هذا أمر لا تستطيع أي جهة القيام به، فحتى بابا الفاتيكان نفسه لا يملك تلك السلطة، فتركه لمنصبه لا يكون إلا عبر طريقين، أن يستقيل، أو يموت”.

بخصوص التصحيحات الدستورية، وجه يونادم سؤاله لرئاسة الجمهوري:” ماذا فعلتم لوقف تمدد الميليشيات مع أن المادة 9 من الدستور العراقي تنص على حظر تشكيل ميليشيات مسلحة خارج القوات المسلحة؟” مشيراً بذلك إلى “الحشد الشعبي”، ثم قال مناقضاً نفسه: “أنا لا أقصد ميليشيات الحشد الشعبي، بالميليشيات التي تعيث فساداً في العراق من شماله إلى جنوبه!”.

وأشار إلى المادة 14 من الدستور التي تقول، “العراقيون سواسية” ثم عاد ليسأل رئيس الجمهورية: “هل نحن سواسية فعلاً؟ وإذا كنا كذلك، فلماذا هناك محاصصة، فتذهب رئاسة الجمهورية إلى شخص كردي، ورئاسة الوزراء إلى شيعي، ورئاسة مجلس النواب إلى سني؟ أليس هذا تمييزاً على أسس مذهبية وقومية؟”.

وأيضاً إلى المادة 18- باء من الدستور التي تجبر من يتولى منصباً إدارياً أو امنياً رفيعاً التخلي عن جنسيته المكتسبة والإبقاء على العراقية، وسأل محتجاً: “هل تخلى المسؤولون عن جنسياتهم البريطانية والألمانية والفرنسية وغيرها، لماذا تسكت الرئاسة عنهم؟ “.

تناقصت أعداد المسيحيين في العراق أكثر من الثلثين خلال نحو عقدين من الزمن، ولعدم إجراء إحصاء رسمي في العراق منذ 1988، فإن الإحصائيات المتعلقة بأعدادهم وغيرهم من الأقليات تكون في العادة تقديرية.

ويذكر لويس مرقوس أيوب، ونائب رئيس منظمة حمورابي لحقوق الإنسان وعضو مؤسس لتحالف الاقليات العراقية، أن مليون ونصف المليون مسيحي كانوا متواجدين في العراق حتى نيسان/ أبريل 2003، وقد تقلصت أعدادهم لاحقاً بسبب استهدافهم من قبل الجماعات المسلحة إلى نحو 400 ألف شخص فقط.

لكن خلال تواصلنا مع ممثلي كنائس ومنظمات معنية، وجدنا بأن أعداد المسيحيين الباقين في العراق أقل بكثير مما ذكره أيوب، إذ بلغت 260،520 نسمة فقط، موزعين بالنحو التالي: “الكلدان: 185,095 مشكلين ما نسبته 71.04 في المئة من المسيحيين. والسريان الكاثوليك والاورثودكس: 60125 شخصاً، ونسبتهم 23.07 في المئة. أما الأشوريون فـ11480 شخصاً، بنسبة 4.4 في المئة. الأرمن والانجيليون 3820 شخصاً، بنسبة 1.46 في المئة”.

الوجود المسيحي قبل 2003 كان يتركز في محافظات البصرة وبغداد وكركوك ومدن إقليم كردستان، إلا أن نسبتهم الأكبر كانت في نينوى، وتحديداً في بلداتهم التاريخية كقره قوش في قضاء الحمدانية وناحيتي برطلة والقوش وقضاء تلكيف وكلها في سهل نينوى. وكانت تحت سيطرة قوات البيشمركة الكردية قبل 2017، بوصفها مناطق متنازعاً عليها بين إقليم كردستان وبغداد وفقاً للمادة 140 من الدستور العراقي لسنة 2005.

إجراء إقليم كردستان لاستفتاء الانفصال عن العراق في أيلول/ سبتمبر 2017 دفع الحكومة الاتحادية الى التحرك وإعادة فرض وجودها الأمني والعسكري في المنطقة، مسنودة بقوات الحشد الشعبي بينما اضطرت البيشمركة الكردية الى الانسحاب.

صراع ديني أم سياسي

الكاتب جرجيس توما، قال إن انحسار الوجود المسيحي في العراق بسبب الهجرة المتلاحقة من مطلع تسعينيات القرن المنصرم وصولاً إلى سيطرة تنظيم داعش على مناطقهم التاريخية في سهل نينوى في 2014، دفع جهات غير مسيحية للاستحواذ على عقاراتهم، كالجماعات الدينية المسلحة، والميليشيات، وعصابات تزوير العقارات. 

لكن اللافت وفقاً لتوما، هو بروز صراع مسيحي مسيحي على الأملاك المسيحية، بعد انتهاء حقبة “داعش” منتصف عام 2017، هذا فضلاً عن: “محاولة السيطرة على التمثيل السياسي للمسيحيين في الحكومة المركزية ومجلس النواب العراقي، وفي الحكومات المحلية للمحافظات التي يتواجد فيها مسيحيون ومجالس المحافظات فيها”.

وذكر بأن كتائب بابليون بوصفها واحدة من فصائل الحشد الشعبي، سيطرت على أملاك عائدة لمسيحيين في قره قوش وغيرها من المناطق القريبة، مستغلة بذلك حالة الفوضى وهجرة غالبية المسيحيين، وأن البطريرك ساكو أشار إلى ذلك صراحة في مناسبات عديدة. 

وينفي أن يكون قرار سحب المرسوم الجمهوري عن البطريرك قد أتى مصادفة، ويتوقع أن ذلك قد حدث بدفع من جهات سياسية شيعية نافذة تدعم حركة بابليون، لتميل كفة السيطرة إلى ريان الكلداني “لأن مصلحتهم تقتضي ذلك، لا سيما أن الميليشيات الشيعية تسيطر على سهل نينوى منذ 2017، وهي منطقة تضم بلدات المسيحيين، ومنحت ميليشيا بابليون سلطة شبه مطلقة عليها”. 

يرى جرجيس توما، أن البطريرك لويس ساكو، لم يكن يتوقع لجوء ابن جلدته وطائفته ريان الكلداني، الى القضاء، ظناً منه أن مكانته الدينية ستمنع ذلك، وأن اتهاماته التي كان يوجهها إليه عبر الإعلام بسرقة الأملاك المسيحية والاستحواذ على المناصب المخصصة لهم، ستجبر الأحزاب السياسية الشيعية وسواها عبر ممثليها في الحكومة والبرلمان على عزله أو في الأقل الكف عن دعمه.

يقول توما: “ظهر ساكو في أكثر من لقاء تلفزيوني، وهو يقول إن ريان الكلداني، انتقد الزعيم السياسي ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وكذلك مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان، وهي رسائل واضحة الهدف، لكن يبدو أنها لم تصل” .

يلفت توما الانتباه إلى أن البطريرك ساكو نفسه، كان متهماً بمسألة العقارات المسيحية، وأن أمر قبض كان قد صدر بحقه من قبل قاض محكمة تحقيق الكرخ الثالثة بالعدد 5451 في 15/4/2021 وفقاً للمادة 456 من قانون العقوبات العراقي بتهمة الاحتيال. تعلق موضوع شكواها بأرض تابعة للكنيسة- الوقف المسيحي. 

قال مصدر في الهيئة السياسية الكلدانية الموحدة، طلب عدم الكشف عن اسمه، بأن عقارات المسيحيين هي سبب معادات البعض لساكو، وشرح كيف أن الكثير من أملاك المسيحيين غير المنقولة من أراض ومنشآت عقارية تم الاستيلاء عليها وتزوير أوراقها وبيعها في عموم مناطق العراق، وأن البطريرك وبحكم امتلاكه مرسوماً جمهورياً بصفة متول على أملاك الوقف المسيحي، “كان يتابع قضايا استرجاع عقارات مستولى عليها، ويحاول منع الاستيلاء على المزيد من عقارات المسيحيين، وهذا يفسر سبب سحب المرسوم منه، لأن سارقي العقارات المسيحية يمثلون أحزاباً نافذة، تملك القوة والسلطة”.

د.الناصر دريد، باحث متخصص في الشأن العراقي، لا يجد مبرراً لسحب المرسوم الجمهوري الخاص بلويس ساكو، وقال بأن الطائفة الكلدانية التي تشكل أغلبية المسيحيين في العراق كان لها حق اختيار من يتولى أوقافها كاردينالاً أو بطريركاً حتى قبل تأسيس الدولة العراقية، وبعد تأسيسها أكد الملك فيصل الأول هذا الحق. 

يشير دريد إلى أول بطريرك تولى أوقاف المسيحيين بعد التأسيس كان مار يوسف عمانوئيل توماس، ثم مار يوسف غنيمة، ومار بولص الثاني شيخو، مار روفائيل بيداويت، ومار عمانوئيل دلي وأخيراً لويس روفائيل ساكو “الذي صدر أمر تعيينه بمرسوم جمهوري رقم 147 سنة 2013، استنادا لتأريخ يمتد لأكثر من قرن”. ويوضح” أقول أكثر من قرن، لأن البطريرك  مار يوسف عمانوئيل توماس كان أصلاً متولياً على الوقف المسيحي قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921″.

يتابع :”وبعد 10 سنوات من صدور مرسوم تعيين ساكو، تذكر رئيس الجمهورية العراقية فجأة بأنه غير دستوري”، ثم وجه كلامه للرئيس العراقي: “أصلاً وجودك كرئيس غير دستوري، لأنك نصبت عن طريق المحاصصة السياسية، بينما ساكو يمثل مؤسسة رسمية عريقة قبل وجودك بمئات السنين”.

يعتقد د.الناصر دريد، أن الميليشيات المتحالفة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو حزب رئيس الجمهورية، هي التي ضغطت سحب المرسوم الجمهوري لصالح “رفيقهم الميليشياوي ريان الكلداني، الذي يريد السيطرة على المسيحيين في العراق وهو ما يرفضه لويس ساكو”.

احتجاج مسيحي

خرج يوم الرابع عشر من تموز 2023، العشرات من المسيحيين الكلدانيين في تظاهرة احتجاج بسهل نينوى، وتحديداً في بلدة كرمليس ضد قرار سحب المرسوم الجمهوري من البطريرك ساكو، حاملين لافتات فيها شعارات مثل:”الكلدانيون يرفضون القرار” و”إلى متى السكوت عن اضطهاد الكلدان” و”المسيحيون يطالبون الرئاسة بالتراجع عن سحب المرسوم”.

أصدرت جمعيات ومنظمات مسيحية ناشطة خارج البلاد العشرات من البيانات التي نددت بقرار السحب، أما على نطاق وسائل التواصل الاجتماعي، فقد ضجت بالمنشورات المؤيدة للفريقين، حتى أن حسابات حملت أسماء المجاميع المؤيدة والمناهضة مثل” محبي صاحب الغبطة البطريرك مار لويس روفائيل ساكو، وكارهون لويس ساكو”.

النشطاء في المجموعة الأولى، يؤكدون بأن مخططاً يجري لإخلاء العراق من المسيحيين، وأن ميليشيا بابليون مدعومة من ميليشيات موالية لإيران تسعى لتحقيق هذا الهدف. بينما النشطاء في المجموعة الثانية، يعتقدون بأن البطريرك شخص نفعي وغير عادل ولا يخدم الناس، وحط من قدر الكنائس. 

وخارج البيت المسيحي كانت ردود الفعل إزاء سحب المرسوم الجمهوري، على النطاق الشعبي رافضة بنحو كبير، وبدا واضحا الرفض كذلك على المستوى الرسمي في إقليم كردستان بالاستقبال الحافل للبطريرك لويس ساكو الذي لجأ إلى هناك.

بينما أصدرت هيئة علماء المسلمين في العراق بياناً تضامنيا مع ساكو، بتاريخ 12 تموز 2023 وصفت فيه قرار سحب مرسومه الجمهوري بالتصعيد الخطير والتدخل السافر في إدارة الكنيسة الكلدانية في العراق واستهدافها، “من قبل السلطات الحكومية وميليشياتها” على حد ما جاء في البيان. 

في معرض تعليقه على تداعيات قرار سحب المرسوم على المسيحيين، يقول الكاتب والباحث المسيحي المغترب، سلام ياقو، أن المسيحيين في العراق “مستعدون على الدوام لمد خطوة الهجرة، فهم أصلاً يعيشون في قلق دائم ويشعرون بأن وجودهم غير مرغوب فيه بالبلاد”.

وتساءل: “إذا تم استهداف واحد من أكبر المراجع الدينية على مستوى البلاد والعالم، فماذا عن المواطن المسيحي البسيط الذي يواجه قائمة طويلة من المصاعب والتحديات لتأمين لقمة عيشه وضمان مستقبل أسرته في العراق؟”.

وأضاف بنبرة تشاؤم: “سيكون للقرار وبلا أدنى شك ردود فعل دولية سلبية تجاه العراق، ولا غرابة في ذلك فالجواز العراقي يتذيل جوازات العالم، وقلة قليلة من الدول تقبل دخول العراقي أراضيها، لأن الساسة فيه لا يحترمون الحريات الخاصة ولا يقيمون وزناً لحقوق الإنسان”.

يحلل كاتب مسيحي، فضل عدم الاشارة الى اسمه، طبيعة الصراع الدائر، بالإشارة إلى محاولة الكنيسة في السنوات الأخيرة ومن خلال رأسها، لعب الدور الحاسم في القرار السياسي وانتزاع صفة التمثيل من القوى السياسية المسيحية المشتتة والمتصارعة فيما بينها، وذلك من خلال تشكيل ائتلاف تحت مظلتها، لكنها فشلت كون القوى المسيحية خاضعة لإملاءات ودعم الأحزاب العراقية الكبيرة سواء في كردستان أو في بغداد، ولأن رأس الكنيسة تفرد بالقرارات دون استشارة الآخرين”. ويوضح أن الكنيسة بعد سنوات من العملية السياسية “شعرت بأنها أصبحت على الهامش، في حين لعبت المراجع الدينية الاسلامية الشيعية والسنية دورا محوريا في سياسة إدارة البلد”. 

يلفت الكاتب الانتباه إلى تعقيدات الصراع داخل البيت المسيحي، قائلاً إن “من خرج للاحتجاج في عنكاوا باربيل، على موقف رئيس الجمهورية، كان مدفوعاً من السلطة في اربيل، وهناك برز تساؤل عن سبب عدم مشاركة مطران إربيل ولا رجال دين آخرين في التظاهرة”، مبينا أنه في الوقت عينه نشرت بعض حسابات وسائل التواصل الاجتماعي “صورة لمطران إربيل (بشار متي وردة) وهو يحتضن ريان الكلداني، في إحدى زيارات الكلداني للمطران”. 

يعلق الكاتب المسيحي على مغادرة ساكو لبغداد “كان الهدف احراج بغداد عبر إثارة الرأي العام والدول الغربية… هذه كانت ربما ورقته الوحيدة رغم ما قد تحمله من رسالة سلبية لمسيحيي نينوى وبغداد، بعدما فشلت جهوده في تحجيم دور ريان الكلداني المدعوم شيعيا، والذي نجح في توسيع نفوذه نيابيا وحكومياً في ساحة المسيحيين على حساب باقي القوى المسيحية”.

آخر فصول الصراع، دفعت ساكو، الى ترك مقره في بغداد، والتوجه نحو اربيل التي استقبلته بالأحضان، لتظهر في الخلفية حسابات كردية شيعية. قال ساكو عقب وصوله “أنا باقٍ هنا وسأعود الى بغداد عندما يتم سحب مرسوم الرئاسة ويعود الوضع كما كان ولغاية أن تتأدب هذه الميليشيا (حركة بابليون) وتحترم الرموز الدينية، وإذا لم يحصل ذلك فسأبقى في الإقليم الذي هو جزء من العراق وهو آمن ويحترم رجال الدين”.

أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.