fbpx

إسكات الباحثين في ملف “الأقليات” في مصر… باتريك جورج لن يكون الأخير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خرج الصحافي والباحث المصري باتريك جورج زكي من مصر، بعد اعتقاله من المحكمة، ثم الإفراج عنه. باتريك كسر صورة “الصحافيّ الوطنيّ”، الذي مهدت له السيناريوهات الدرامية  في المسلسلات التي كُتبت تحت إشراف المخابرات المصريّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رسمت المسلسلات التلفزيونيّة في مصر شكل الصحافي المهتم بملف الأقليات، هو الصحافي الوطنيّ الذي لن يكتب عن مشكلات الأقباط مثلاً ، إلا وفقاً للرواية الرسمية، ويرفض أن يكتب عن التمييز ضد المسيحيين في مصر، ليتم تجنيده في النهاية من جانب المخابرات.

نرى هذه الصورة بوضوح  في المسلسل المصري “هجمة مرتدة”،الذي كتبه السيناريست باهر دويدار، واستوحاه من أحد ملفات المخابرات المصرية.

يؤدي الممثل محمد جمعة  في الحلقة السابعة  من المسلسل، دور صحافي مسيحي مصري، يعمل لدى جهة صحافية غير محلية، تترأس تحريرها صحافية لبنانية، تطلب منه أن يكتب في ملف الأقباط بلا خوف، وعن التمييز الواقع على المسيحيين في مصر، مثلما استطاع أن يكتب عن التمييز ضد المسيحيين في دول أخرى.

يرفض الصحافي المسيحي، الذي يعلم وقائع التمييز ويعيشها، أن يكتب مقالاً، ثم يقرر التواصل مع المخابرات “لمحاربة أعداء الوطن الذين ينفذون المؤامرات على مصر” مثلما وصف الممثل محمد جمعة الدور في حوار صحافي .

كأن هذا الدور مكتوب خصيصاً ليقول إن هذا هو الشكل الرسمي للصحافي الوطني، لذا لا تكن أيها الباحث أو الصحافي مثل باتريك جورج أو غيره، ولا تنجرف وراء رئيسة تحرير لبنانية.

ربما استوحى كاتب السيناريو قصة قضية الباحث والصحافي المصري باتريك جورج بعد مقاله الذي كتبه في “درج”، لكنه أخفى التنكيل الذي لاقاه والحبس والمنع من السفر، واستبدل النصف الثاني من القصة بــ”نهاية سعيدة” لانتصار الصحافي على “الأجندات الأجنبية، وانحيازه الى المخابرات المصرية”، وكتم القصة الصحافية.

لم يكن باتريك جورج الأول ولن يكون الأخير، فقد وقع سابقاً اثنان من الباحثين المصريين المهتمين بملف الأقباط في مصر في قبضة الأمن المصري، وهما مينا ثابت ورامي كامل. واجه مينا ورامي الاتهامات نفسها التي واجهت باتريك جورج، وهي “نشر أخبار وبيانات وإشاعات كاذبة بالداخل والخارج عن الأحوال الداخلية للبلاد”، وزاد على ذلك اتهام مينا ثابت بـ”محاولة قلب نظام الحكم”.

ملف التمييز ضد الأقباط في مصر كان ولا يزال من أكثر الملفات الحساسة للعمل الصحافي والبحثي، وربما لم يعمل فيه صحافي أو باحث إلا وطاوله الضرر، إلا إذا كان يعمل وفق سياسة نشر البيانات الرسمية سواء من جهاتها الحكومية أو من الكنيسة، ولن يجرؤ على المساءلة والتحليل.

صمت إعلامي و”عقاب جماعي” 

مينا ثابت، الباحث الحقوقي والمنسق الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة القلم الدولية، اعتُقل عام 2016 بعد نشره تقارير عدة من خلال عمله في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، منها تقرير بعنوان “الأقباط فى مواجهة ثلاثى العنف، الطائفي والسياسي والحكومي”، ورصد فيه 16 واقعة عنف ضد الأقباط، الى جانب أحداث العنف التي تلت فضّ اعتصام رابعة العدوية، والتي امتدت الى 12 محافظة.

يشير التقرير إلى أن الانتهاكات التي استهدفت المسيحيين كانت من جهات حكومية، من بينها وقائع  بـ”العقاب الجماعي” الذي مارسته قوات الأمن على مسيحيي قرية دير العدرا في جبل الطير بالمنيا، وتعديات مستمرة من جماعات أصولية أو مؤيدة لمرسي أخفقت السلطات الأمنية في حماية الأقباط منها.

يرصد تقرير أعده مينا بعنوان “مسيحيو ساحل سليم بين قبضة الإجرام وتراخي الدولة”، كيف يواجه مسيحيو  مصر وقائع قتل على أساس الهوية الدينية، ويستند إلى مقابلات أجراها في شهر شباط/ فبراير 2014 مع مسيحيي قريتي الشامية و نزلة الملِك، في مركز ساحل سليم، تفيد بوجود تراخٍ شديد من أجهزة الأمن و تقاعس عن ضبط المتورطين في أعمال إجرامية أو حماية و تأمين المواطنين و ممتلكاتهم. 

جمع التقرير شهادات بشأن 20 حالة ما بين حوادث سرقة و اختطاف وفرض أتاوات في الفترة ما بين أيلول/ سبتمبر 2013 و حتى كانون الثاني/ يناير 2014، إذ توصل الى شهادات بشأن 8 حالات فرض إتاوات وصلت فيها إجمالي المبالغ المدفوعة إلى 480 ألف جنيه، بينما توصلت الى شهادات بشأن 12 حالة من حالات السرقة و الخطف، ووصل فيها إجمالي المبلغ الذى تحصلت عليه التشكيلات العصابية الى نحو مليون و26 ألف جنيه، ليصل إجمالي المبالغ المدفوعة الى مليون و506 آلاف جنيه في أقل من أربعة أشهر في قريتي الشامية ونزلة الملِك اللتين تسكنهما غالبية من الفقراء المسيحيين.

توضح أوراق التحقيقات في قضية الباحث الحقوقي مينا ثابت عام 2016، والتي حصل “درج” على نسخة منها، رؤية الأجهزة الأمنية للباحثين والحقوقيين المهتمين بشؤون الأقليات في مصر. إذ يرى ضابط الأمن الوطني في أقواله أمام النيابة، أن مينا ثابت يمثل خطراً على الأمن بسبب تناوله “طريقة تعامل الدولة مع ملفات الأقباط والأقليات بدعوى فشلها في حمايتهم”. 

يصف الضابط  نشاط ثابت بأنه “يحرض على الفتنة الطائفية من خلال مقالاته المنشورة”، ويعمل على “تأجيج مشاعر المسيحيين وتضخيم الأحداث”، مشيراً الى عدد من التقارير الحقوقية التي وثق خلالها ثابت الاعتداءات الطائفية على المسيحيين، من بينها أحداث ساحل سليم المشار إليها سابقاً.

يشير الضابط أيضاً، إلى مقال رأي بعنوان “إحنا آسفين يا يهود”، تحدث فيه ثابت عن التمييز ضد اليهود المصريين في السابق. كما تشير أقوال الضابط إلى أن هذه التقارير والمقالات تدفعها أجندات خارجية، إذ أشار  الى أن ثابت “يهدف الى إعداد تقارير مغلوطة عن أوضاع المسيحيين في مصر لبيعها لبعض العناصر الأجنبية مقابل 200 دولار للتقرير، يتم تحصيلها من خلال شركة “ويسترن يونيون” للتحويلات المالية”.

 على رغم خطورة هذا الاتهام وجدّيته، فبحسب التحقيقات، عجز ضابط الأمن الوطني عن تقديم أدلة مادية على صحتها، ولم يستطع تقديم صور ضوئية من التحويلات المادية المزعومة عند سؤال النيابة عنها، واكتفى بالرد على أسئلة النيابة بأن “المعلومات والتحريات أكدت صحة ادعاءاته”.

ترك المحقق ملحوظة بأنه تم تقديم نسخ ضوئية من المقالات والأبحاث وبعض المنشورات على صفحة “فيسبوك” الخاصة بثابت، كدليل على صحة الاتهامات الموجّهه إلهي.  كما أشار الى خطورة تضامنه مع بعض العناصر الحقوقية المحكوم عليها لخرق قانون التظاهر، في إشارة الى عدد من سجناء الرأي آنذاك.

أصوات الأقباط بعد الثورة

يقول الباحث والحقوقي مينا ثابت في تصريحات لـ”درج “، الى أنه وبعد قيام ثورة يناير، أصبح صوت الأقباط المصريين مسموعاً نسبياً، بخاصة بسبب الحراك السياسي الذي أعقب الثورة، وتأسيس عدد من الحركات الشبابية التي نادت بحقوق المسيحيين مثل اتحاد شباب ماسبيرو الذي شارك في تأسيسه بعد قيام ثورة يناير 2011.

يرى مينا أن أقباط مصر اختبروا صمتاً إعلامياً عن أوضاعهم بسبب إغلاق مساحات التعبير والقيود المفروضة على الإعلام قبل الثورة، إلى جانب عدم إتاحة المعلومات، ولم يكن للأقباط المصريين منفذ سوى الاتجاه الى بعض الجرائد والمواقع التي عُرفت بـ “المواقع القبطية”، ولكن ذلك لم يؤثر على فهم المسيحيين ومعايشتهم مشكلاتهم، إذ عاشت “سردية الاضطهاد” وما يحدث معهم شفوياً يتم تناقلها بين الأجيال.  يقول مينا، “نشأت على حكايات جدتي حول ما نعانيه نحن كأقباط في مصر سواء من عنف على أساس الهوية الدينية، أو حرق كنائس وتهجير قسري أو اعتداءات على ممتلكات وقتل”.

أسّس مينا ثابت مع آخرين اتحاد شباب ماسبيرو عام 2011 عقب ثورة 25 يناير، بهدف المطالبة بحقوق المسيحيين، ونظّم الاتحاد اعتصامات ضمّت أعداداً غفيرة من الأقباط في منطقة ماسبيرو بهدف إعلاء صوت الأقباط في مصر والاحتجاج على تكرار أحداث العنف الطائفي والاعتداء على الكنائس.

تطور الاتحاد إلى تنظيم تظاهرات ضمت عشرات الآلاف من المواطنين، جابت مناطق واسعة من القاهرة حتى هاجمتها قوات من الجيش في منطقة ماسبيرو، ما أسفر عن مقتل عشرات المتظاهرين دهساً تحت الدبابات العسكرية وبرصاص الجنود في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر في ما عُرف بـ”مذبحة ماسبيرو”.

أسّس مينا ثابت مع آخرين أيضاً، التحالف المصري للأقليات عام 2012، وهي حركة اجتماعية ضمّت مجموعة من نشطاء الأقليات أقاموا عدداً من الفعاليات وأصدروا بيانات حول وقائع التمييز في مصر ومقترحات دورية للجنة الخمسين لتعديل الدستور المصري عام 2013.

يعتبر مينا أن الفترة بين عامي 2011 و 2013 هي الفترة الوحيدة التي اكتسب فيها العاملون في ملف الأقليات والأقباط صوتاً مسموعاً، يقول: “بعد 2013، أصبح هناك قتل للتنظيمات الاجتماعية والسياسية بشكل ممنهج في مصر ، ومن بينها الحركات المهتمة بالأقليات، باعتقال رموزها والتضييق على مساحات عملها، حتى اختفت تماماً وعاد ملف الأقليات للتعتيم الأمني والإعلامي سريعاً”.

يشير مينا إلى أن مصطلح الأقليات في مصر لم يكن معترفاً به قبل تأسيس اتحاد شباب ماسبيرو والتحالف المصري للأقليات،  ويتابع: “الدولة مش عايزة حد يتكلم في ملف الأقليات ولا مسؤولية الدولة عن التمييز السلبي وغياب التمثيل العادل للمسيحيين في الجامعات والمناصب القيادية، مش عايزين يسمعوا غير تأييد المسيحيين للرئيس”.

وسط كل وقائع التمييز ضد الأقباط، اعتبر مينا أن الكنيسة تجنبت تماماً المواجهات مع النظام في العقود السابقة، فبحسب مينا منذ أيام البابا شنودة حتى أيام البابا تواضروس والخط السياسي للكنيسة عليه تحفظات، حتى أن الأخير في فترة تنصيبه الأولى كان أبدى نيته عدم التدخل في السياسة، لكنه تورط في تصريحات داعمة للرئيس الحالي وخطابات مليئة بالود والصداقة.

يضيف، “المشكلة أن التصريحات لا تنعكس بالضرورة على حقوق المسيحيين في مصر أو تشير الى تحسّن في أوضاعهم، إلى جانب أن الكنيسة تجنبت الحديث عن انتهاكات بعينها، منها أحداث رفح والتهجير القسري الجماعي الذي شهدته العائلات المسيحية وقتها، بالإضافة الى أن الكنيسة لم تتدخل بأي شكل في أي مفاوضات تخصّ اعتقال باتريك جورج أو رامي كامل أو اعتقالي”.

“مواطنون منذ قرن نصف القرن”

رُفعت الجزية عن أقباط مصر عام 1855، إذ كان يوصفون بلقب أهل الذمة، حتى في منشور إلغاء الجزية التي أعلن عنه الوالي سعيد باشا، يقول مينا إن الأقباط المصريين لم يشعروا بكونهم مواطنين إلا منذ قرن ونصف القرن، وخلال رحلة المواطنة هذه لم يسلموا من اعتداءات، أشهرها حادثة الخانكة في عهد الرئيس المصري أنور السادات، والتي أُحرقت فيها جمعية الكتاب المقدس في منطقة الخانكة؛ على خلفية أداء بعض المسيحيين الشعائر الدينية فيها، وذلك بسبب غياب مساحة ملائمة يمارس فيها مسيحيو المنطقة شعائرهم بحرية، ومثلت تلك الحادثة نقطة مهمة في نضال المسيحيين للحصول على قانون بناء عادل للكنائس.

 دفع المسيحيون المصريون ضريبة إطلاق السادات يد الجماعات الإسلامية في عهده لمواجهة اليسار، وشهد عهده اعتداءات متكررة ومنظمة ضد مسيحيين، أشهرها مذبحة أسيوط التي حصلت بعد اغتياله بليلتين، واستهدفت الجماعات الإسلامية خلالها قوات الأمن المصرية والمسيحيين، وراح ضحية هذه المذبحة 118 قتيلاً من جانب قوات الأمن والمسيحيين.

يصعب سرد الوقائع كافة التي عايشها مسيحيو مصر عقب كل العصور السياسية، لكن ما يجعل أشهرها في الذهنية المصرية هي الوقائع المتكررة التي كانت شهدتها بعض كنائس المسيحيين في مصر أثناء الأعياد في عهد حسني مبارك، أشهرها في  1 كانون 2011 حين تعرضت كنيسة القديسين بالإسكندرية، لعملية تفجير انتحارية، تسببت في مقتل 24 شخصاً وإصابة العشرات، لكن في أعقاب ثورة 25 يناير، فُتحت تحقيقات جديدة تتهم وزير الداخلية آنذاك حبيب العادلي بتورّطه في عملية التفجير.

“ملف أمني لا حقوقي”

رامي كامل واحد من أبرز الأسماء التي تمسّكت بالحديث عن التمييز السلبي ضد الأقباط المصريين، ويرى “أن الدولة المصرية تتعامل مع الملف القبطي بشكل أمني لا حقوقي”، ويعتبر ما يحدث من انتهاكات بحق الأقباط وممتلكاتهم، ترسيخاً لـ”النظرة إلى المسيحي المصري باعتباره مواطناً درجة ثانية”.

“هنا ترقد أجساد بعض الشهداء أولاد الشهداء انضموا إلى المذبح السمائي في 9-10-2011 برصاص ومدرعات الجيش المصري أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) أثناء وقفة سلمية – من دون سلاح- لوقف هدم الكنائس في مصر”.

 الجمل السابقة مكتوبة على لوحة رخاميّة توثق ما حدث في مذبحة ماسبيرو، التي ظلت تزعج الجهات الأمنية، حتى كشف رامي كامل عن إلحاح الأمن الوطني المصري على الكنيسة الأرثوذكسية لإزالة اللوحة، بعدها واجه رامي تهديدات انتهت في النهاية باعتقاله، بعد توثيقه حوادث عدة لحرق كنائس في محافظة المنيا، وسُجن انفرادياً مدة عامين لدفاعه عن حقوق الأقباط المصريين.

جنحة بسبب كتاب

قد يتعرض الصحافي الذي يعمل في الملف القبطي لمضايقات من جانب الكنيسة، التي تفضل نشر بياناتها والتوقف عند هذا الحد، وإن تورّط الصحافي في شغفه المهني، قد يلقى دعوى قضائية تهدد مستقبله بالكامل. إذ  تعرضت الصحافية المصرية سارة علام عام 2020 لدعوى قضائية من الأنبا أغاثون أسقف مغاغة، الذي حرر ضدها جنحة سب وقذف بسبب كتابها “مقتل الأنبا أبيفانيوس”.

 تضمن الاتهام الإساءة إلى البابا شنودة وإلى سُمعة الكنيسة القبطية وتشويه صورة رهبانها، وقالت سارة في تصريحات وقتها: “أنا أتناول ما شاهدته وعاصرته، وهذا دوري كصحافية، ليس لدي تعليق على الدعوى المقامة، لكن هذه الممارسات هي ضد حرية الرأي والتعبير، بالإضافة إلى أن الدعوى تحمل إشارة إلى كوني مسلمة وليس من حقي أن أكتب في ملف الكنيسة!”.