fbpx

“أرض ميتة”… 9 سنوات على الإبادة الإيزيديّة والعودة لا تزال معلّقة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قال بصوت مرتجف وهو يحاول منع أبنائه من الاقتراب من الحريق، “هذه حالنا… إن عدنا الى سنجار سنموت من الجوع، وإن بقينا هنا ربما سنحترق يوماً تحت الخيم”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بجوار خيمة صغيرة نصبها على أنقاض منزله الطيني المدمر في ناحية القحطانية جنوب سنجار (125 كلم شمال غربي الموصل)، يجلس العم خلف (72 سنة) لساعات يومياً يتطلع إلى أطلال البيوت المتناثرة أمامه والحقول الزراعية التي هجرها أصحابها، لا شيء يوحي بوجود حياة هناك.

مرت تسع سنوات على عمليات القتل الجماعي التي تعرض لها الإيزيديون في سنجار، على أيدي عناصر تنظيم “داعش” في 3 آب/ أغسطس 2014، لكن مشاهد الدمار ما زالت قائمة في وسط المدينة وفي القرى المتناثرة حولها، والتي تتوزّع على جنباتها عشرات المقابر الجماعية التي تضم مئات الضحايا.

في صيف العام 2022، عاد العم خلف مع مئات العوائل الإيزيدية الأخرى الى سنجار، ضمن حملات طوعية شجعتها الحكومة العراقية لإرجاع الحياة الى المدينة وقراها التي تعرضت للدمار خلال سيطرة “داعش” عليها، ولاحقاً بسبب معارك استعادتها.

لكن تلك العودة ظلت محدودة بل وتبعتها حالات نزوح عكسي كثيرة، على خلفية غياب الخدمات وتأخّر تعويضات إعادة البناء، وانعدام فرص العمل، الى جانب التوتر الأمني في المنطقة بسبب صراعات الفصائل المختلفة الولاءات على الأرض (كردية، شيعية، سنية) والقصف التركي المتكرر، والتنازع بين حكومتي أربيل وبغداد.

أدت تلك الأوضاع الى هجرة نحو ربع الإيزيديين الى خارج البلاد بحثاً عن وطن بديل، وما زال نحو 300 ألف منهم ومن الكرد المسلمين، يعيشون بعيداً من موطنهم، يتوزعون في غالبيتهم في 16 مخيماً.

“لا شيء سيعود الى ما قبل الإبادة”، يقول العم خلف. ويتابع بنبرة حزينة، “ما الذي يشجعهم على العودة؟”. يلتفت الى الخيمة التي تأوي أفراد أسرته المؤلفة من أربعة أشخاص، ويضيف “لم نتلقّ الدعم لإعادة بناء بيوتنا… وأبناؤنا لم يجدوا فرص عمل… ليس الكل قادراً على الحياة في هذه الأرض الميتة”.

يمسح العرق من على جبينه بطرف غطاء رأسه الأحمر (اليشماغ) الذي ترتديه غالبية الإيزيديين، ويتساءل: “كيف نبدأ حياتنا من جديد؟ أمضيت عمري مزارعاً، والمنطقة تفتقر اليوم إلى المياه، فلا يمكننا الزراعة. البعض كان يعتمد في معيشته على الرعي وتربية الحيوانات، لكنهم فقدوا كل ما كانوا يملكونه أثناء هجوم داعش”.

يصمت للحظات قبل أن يشير بيده الى البيوت الخاوية والحقول الجرداء أمامه، “كأنها لم تعرف الحياة يوماً، وكأنه لم يعش فيها إنسان”.

في آخر إحصائية له بأعداد القتلى والمفقودين، وثق مكتب إنقاذ المختطفين الإيزيديين، وقوع 6417 شخصاً في قبضة التنظيم، تم تحرير 3554 منهم، بينهم 1205 نساء و333 رجلاً و1992 طفلاً، بينما ما زال الآخرون في عداد المفقودين.

ويحصي المكتب الذي يتابع أوضاع النازحين من سنجار، وجود 135 ألف نازح في مخيمات إقليم كردستان و189 ألفاً في مناطق متفرقة خارج المخيمات. ويؤكد اكتشاف أكثر من 60 مقبرة جماعية وتعرُّض 70 مزاراً دينياً إيزيدياً للتدمير.

مخيمات الموت

في زاخو، أقصى شمال العراق، على مقربة من الحدود التركية، يعيش عشرات آلاف الإيزيديين، بينهم من ولدوا هناك، وآخرون كانوا أطفالاً أيام النزوح وكبروا بين خيمها، بينهم عماد الذي أمضى نحو نصف عمره في مخيم “جم مشكو” الذي يكاد يشكل كل عالمه وذكرياته. 

كثر من هؤلاء تحدوهم الرغبة في العودة الى سنجار، بخاصة بعد تراجع الأوضاع الاقتصادية في الإقليم وتلاشي فرص الهجرة الى أوروبا نتيجة خطورة طرق التهريب والكلف العالية. “لكن ما من شيء يشجعنا على العودة” يقول عماد بينما كان ينتظر على جانب الطريق العام مع عشرات آخرين من أقرانه من عمال البناء.

هناك يقف الشاب الذي ترك الدراسة المتوسطة، ساعات عدة يومياً، على أمل أن تتوقف أمامه سيارة يحتاج أصحابها الى عمال بناء أو خدمات أو نقل أثاث. “الحياة متوقفة في سنجار، بدون فرص عمل لا يمكننا العودة… كل القطاعات الاقتصادية مدمرة…؟”.

يشير إلى رفاقه الذين لوّحت الشمس وجوههم مثله تماماً: “في هذا المكان، تحت الشمس الحارقة، ننتظر أحياناً أربع ساعات للحصول على عمل… كل بضعة أيام نحظى بفرصة مقابل 15 أو 20 ألف دينار،، مبلغ زهيد، لكن هناك في سنجار حتى هذا غير متوافر”.

عماد، الذي فرت عائلته من منزلها الواقع جنوب سنجار قبل تسع سنوات، يحصر كل أحلامه بالخروج يوماً من الخيمة الصغيرة التي كبر فيها، ليعبر الحدود العراقية الماثلة أمامه. يشير الى ما وراء الجبال، “هنالك يكمن أملنا الوحيد بالخلاص” يقول متنهداً، في إشارة الى الهجرة نحو أوروبا.

بحسب منظمات إيزيدية، هاجر أكثر من 120 ألف إيزيدي العراق في السنوات الأولى التي أعقبت هجوم “داعش” ونزوحهم الكبير، لكن الأرقام تتصاعد كل يوم، عبر الهجرة الشرعية أو التهريب، فلا يكاد يخلو أي مركب يحاول عبور البحر من تركيا الى اليونان أو إيطاليا من عراقيين إيزيديين.

يبتسم وهو يتابع بعينين حائرتين مجموعة من رفاقه الذين استظلوا تحت شجرة على بعد أمتار قليلة من الشارع: “يتحدثون عنا كثيراً نحن الإيزيديين، لكننا واقعياً منسيون… منسيون نعيش ونحترق ونموت تحت الخيم”.

يعمل الإيزيديين، في غالبيتهم، في مهن شاقة بأجر يومي، كخدمات بناء الدور والعمل في الحقول الزراعية. وتلك الأعمال غالباً ما تكون موسمية وبالكاد توفر الحد الأدنى من متطلبات معيشتهم، وهو ما يجعل خيار الهجرة مفضلاً دائماً.

“في هذا المكان، تحت الشمس الحارقة، ننتظر أحياناً أربع ساعات للحصول على عمل… كل بضعة أيام نحظى بفرصة مقابل 15 أو 20 ألف دينار،، مبلغ زهيد، لكن هناك في سنجار حتى هذا غير متوافر”.

جرح المفقودين

يسترجع حسن خدر (43 سنة) شريط ذكريات أيامه الأخيرة في سنجار، “هربنا الى الجبل بسيارة جارنا، وعشنا هناك لخمسة أيام بلا طعام مع مئات من العائلات المحاصرة… مات الكثيرون عطشاً وسط الحر اللاهب”.

خدر، كان يسكن في قرية حردان شمال جبل سنجار، نجا هو وزوجته من مفارز الموت التي أرسلها “داعش”، لكنه فقد ثلاثة من أولاده لم يتمكنوا من الهرب معه، يقول: “عشنا أسوأ أيام عمرنا هناك، كنا مصدومين ومرعوبين على مصائر أطفالنا، لا نعرف شيئاً عنهم… خلال ساعات الليل كان نحيب النسوة وأنين المرضى الذين يفترشون الأرض الصخرية يعلو في الظلام… نسمع أحياناً صوت الرصاص… الى اليوم تلاحقنا كوابيس تلك الأيام”.

يضيف الرجل الذي غزا الشيب رأسه، “بعد سقوط تلعفر (75 كلم عن الموصل) بيد التنظيم (حزيران 2014)، طمأنتنا قوات البيشمركة والجيش ووعدت بحمايتنا، لكن ذلك لم يحصل. قتل التنظيم العشرات في مفرق قريتنا وعلى الطرق المؤدية الى الجبل. أطفالي ما زالوا مجهولي المصير، لا نعرف إن كانوا في مقابر جماعية أو أسرى لدى عائلات التنظيم. هذا جرح عميق لن يندمل، يجعلنا نعيش المأساة كل يوم”.

يتابع بنبرة حزن، “لم يتغير شيء في سنجار لكي نعود إليها… كانت هناك فصائل بيشمركة وشرطة وجيش، لكنهم جميعاً تركونا وانسحبوا، اليوم هناك أيضاً فصائل وجيش وشرطة لكن على أرض مدمرة”.

“الإبادة” المستمرة

يقول فارس كتي، مستشار المجلس الروحاني الإيزيدي الأعلى ومسؤول العلاقات في مكتب “لالش الثقافي والاجتماعي”: “بعد تسع سنوات، لم يتغير شيء في الواقع الإيزيدي، لذلك نقول إن الإبادة مستمرة، فآثارها وأركانها لا تزال قائمة وتطاول الإيزيديين في كل مكان”.

يضيف كتي، تعليقاً على توصيف الكثير من الدول الأوروبية لما تعرض له الإيزيديون بالإبادة، “حتى الاعتراف الدولي لم يعد ذا قيمة حقيقية، لأن الإقرار الأممي لم يتخطَّ مرحلة الإعلان ولم يتغير شيء على أرض الواقع”.

ويضيف، “نعم الإيزيديون بحاجة الى إقرار رسمي دولي واعتراف قضائي بجرائم الإبادة لتجنّب تكرارها في المستقبل، لكن يجب أن يرافق ذلك ضغط أممي لإلزام العراق بتهيئة الظروف وتوفير الضمانات للإيزيديين ليعيشوا على جغرافيتهم بأمان”.

يضع الكاتب شهاب أحمد، لازمة واحدة تجمع غالبية الإيزيديين، تتمثل بـ”الاحباط”، يقول: “ما تغير خلال السنوات الماضية هو أرقام السنوات، فبيوت الناس لا تزال في غالبيتها مدمرة، ومصير مئات المختطفات مجهولاً، وهناك عشرات الآلاف من الأطفال ولدوا وكبروا في المخيمات المؤقتة ولم يعرفوا شيئاً غيرها، ولا أمل يبدو لهم إلا من نافذة الهجرة عبر طرق التهريب القاتلة”.

يؤكد الرؤية ذاتها، الكاتب المتخصص في الشأن الإيزيدي خالد تعلو، واصفاً وضع الإيزيديين بأنه يسير من سيئ الى أسوأ، “لا مؤشرات إيجابية، على العكس أحوالهم تدهورت أكثر، في ظل حياة الخيم وتحولها الى مدن قماش، ومع غياب تطبيق العدالة الانتقالية، وعدم الجدية في البحث عن المختطفين أو إكمال رفع الرفاة من المقابر الجماعية، وتعويض المتضررين مادياً ومعنوياً”.

ويحذر تعلو مما يصفه بشبه الإجماع الإيزيدي “على البحث عن موطن بديل خارج أسوار الدولة العراقية”.

يرى الناشط سعد حسين أن الإيزيديين جميعاً يواجهون ظروفاً صعبة بين خياري العودة الى سنجار المدمرة، والتي تشهد صراع نفوذ بين قوى محلية وإقليمية عدة، وبين القبول بحياة المخيمات، “لكن الأوضاع أصعب لمن له بنات أو أبناء مفقودون، فلا يعرف هل هم أحياء أم أموات”.

هؤلاء يتطلعون الى البحث بدقة في مخيمات عوائل “داعش” في الهول بسوريا، أو فتح المقابر وتحديد هويات ضحاياها، وذلك سيتطلب سنوات طويلة أخرى من الانتظار، ويردد “في النهاية، كل إيزيدي يعيش حالة إحباط وقلق ويرى أن الكثير من الجلادين باتوا اليوم أحراراً بينما الضحايا مشردون الى الأبد”.

انقسامات وصراعات 

شَكَل تعرّض الإيزيديين لعمليات قتل جماعية على يد عناصر “داعش” وفشل تشكيلات الجيش والشرطة العراقية والبيشمركة الكردية في الدفاع عنهم، صدمة كبيرة لدى الإيزيديين، أدت الى حصول انقسامات حادة وبروز رؤى مختلفة بشأن سبل حماية أنفسهم، ومعها ظهرت قوى سياسية وتشكيلات أمنية مختلفة، في ظل غياب مرجعية سياسية موحّدة وضعف مرجعيتهم الدينية.

تلك التشكيلات التي كانت تتمتع بنوع من الاستقلال في بداية تأسيسها، اضطرت في النهاية وتحت ضغط المتطلبات المالية والتسليحية، الى الانخراط ضمن مجموعات أمنية وعسكرية تتبع قوى تقليدية كردية أو عربية عراقية وأحياناً إقليمية. 

فكان هناك إيزيديون ضمن وحدات مدعومة من البيشمركة وآخرون ضمن وحدات مدعومة من حزب العمال الكردستاني، وإيزيديون ضمن فصائل الحشد الشعبي المقربة من إيران، فضلاً عن انخراط آخرين في تشكيلات الجيش والشرطة العراقية. وهذه الأطراف كلها أوجدت لنفسها مواطئ قدم في سنجار، ولها اليوم مصالح خاصة تدافع عنها بشراسة. 

وما ينطبق على الإيزيديين بشكل عام، ينطبق أيضاً على مسلمي سنجار، بخاصة الشيعة منهم.

لذلك، يرى الكاتب شهاب أحمد، أن الانقسامات والخلافات تفاقمت فيما كانت التحديات تفرض الوقوف صفاً واحداً، “ما حصل أننا بتنا نتفرق ونبتعد عن بعضنا البعض يوماً بعد آخر”.

ويضرب مثالاً على ذلك بإحياء القوى الإيزيدية المختلفة للذكرى التاسعة للإبادة، بفعاليات خاصة بها كل في منطقة نفوذها، “شهدنا فعاليات وخطابات في أكثر من مكان، وكلّ يردد شعاراته ويرفع أعلامه”.

ويلفت الى الانقسام حتى في المستوى الإداري، فإدارة قضاء سنجار ومسؤولو الدوائر الخدمية غائبون عن المدينة وأوجدوا لأنفسهم مواقع عمل بديلة في إقليم كردستان، وهناك مناطق تديرها الفصائل الموالية فكرياً لحزب العمال الكردستاني، وأخرى تفرض فيها قوى الحشد الشيعي إرادتها، ولا يوجد اتفاق منذ سنوات على اختيار قائمقام للقضاء، ويغيب العمل المشترك حتى عندما يتعلق الأمر بتقديم الخدمات.

اتفاقية وُلدت “ميتة”

حاولت “اتفاقية سنجار” معالجة فوضى القرار الأمني والإداري والسياسي في القضاء المتنازع عليه بين حكومتي أربيل وبغداد، من خلال اتفاق على مسار لضبط الأمن وتحديد الإطار الإداري للعمل ودور كل طرف فيه، فضلاً عن مسار إعادة الإعمار، ليكون مدخلاً لحل باقي المشاكل.

لكن حصر الاتفاق الذي وقع في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، بين مسؤولين في بغداد وآخرين في أربيل، ومن دون الأخذ برأي باقي القوى الإيزيدية، ومن دون حساب تعقيدات الأرض، بما فيها الحضور القوي للحشد الشعبي وما يفرضه من مطالب واشتراطات، وعدم إشراك غالبية القوى النافذة على الأرض في الاتفاقية، ذلك كله جعلها تولد ميتة حتى مع دعم المجتمع الدولي لها.

يقول سعيد حسين، وهو كاتب مهتم بـأوضاع سنجار، “وضع مسؤولون في الحكومتين (أربيل وبغداد) بنود الاتفاقية، ولم يأخذوا برأي الإيزيديين وأبناء المنطقة بتفاصيله. هي كانت اتفاقية سياسية بامتياز، لهذا لم ينفذ ولو بند واحد فيها”. 

يضيف: “الإيزيديون اليوم ليسوا كما كانوا بالأمس، ونحن نعلم بما يحدث خلف الكواليس، لا يمكن بناء ما دمّره داعش بالمجاملات السياسية”. 

الاتفاقية التي دعمها المجتمع الدولي، وكان ينظر إليها كسفينة نجاة، تحولت الى مصدر جديد للخلاف، إذ رفضتها قوى إيزيدية، ولم يرحب بها الحشد الشعبي، لتفرز في النهاية جبهات وانقسامات داخل المجتمع الإيزيدي نفسه.

ويجمع الناشطون المدنيون الإيزيديون، في غالبيتهم، على أن واقع التشتت الأمني والسياسي والإداري، هو الذي يضرب كل جهود إعادة البناء والعودة الطوعية في ظل الانقسام بشأن الأولويات والمطالب، والإحباط من إمكان تنفيذ التعهدات على أرض الواقع، بما فيه إعادة إعمار ما دمر وتوزيع التعويضات، وتوفير الخدمات الأساسية وإطلاق مشاريع توفر فرص عمل، الى جانب ملاحقة مرتكبي جرائم القتل والاغتصاب بحق الإيزيديين.

ضحايا الاستعباد 

وسط بنية تحتية مدمّرة، ومع تعطّل مشاريع إعادة البناء، وفي بيئة أمنية معقدة، لا يمكن الحديث عن “تحسين واقع الناجيات وإعادة دمجهم في المجتمع”، تقول شيرين خيرو (26 عاماً)، وهي ناجية تحررت من قبضة “داعش” بعد ثلاث سنوات من خطفها.

وتضيف الناجية التي تعيش حالياً في بلدة خانكي الإيزيدية في أطراف دهوك، أن ضحايا الاختطاف والاستعباد الجنسي اللواتي عشن صدمات كبرى، بعد سنوات من التحرر، ما زلن يعشن ظروفاً صعبة حتى عقب سن قانون الناجيات. وترى أن أي مجموعة تعرضت لاضطهاد، لكي تتعافى، لا بد من تهيئة بيئة صحية تساعد على ذلك،”لكن ما يحيط الناجيات هنا هو البؤس والإحباط في جحيم الخيم أو الهجرة”.

تقول خيرو التي تعمل في مجال المناصرة كونها عضوة في شبكة الناجيات الإيزيديات، إنه “من المخزي أن تطلب الحكومة من النازحين العودة وسط تلك الظروف”. وترى أن التغيير الوحيد الذي حصل هو “أننا تقبلنا واقع التعايش مع هذا الألم الى ما تبقى من أعمارنا”.

تقبّل الواقع بالنسبة الى عوائل تعرضت لعمليات قتل وخطف، ليس كافياً للتعافي، فالاضطرابات النفسية لاحقت الضحايا نتيجة عدم معالجة آثار الصدمات التي تعرضوا لها، ومع انتشار الفقر والبطالة والتشتت في المخيمات.

يقول الاختصاصي في علم النفس في جامعة دهوك، نوري سعيد، إنهم يلاحظون “استمرار الاضطرابات النفسية لدى الضحايا، بخاصة اضطراب ما بعد الصدمة، الى جانب الاكتئاب، ما يخلق مشاكل اجتماعية وعاطفية، تدفع أحياناً الى الانتحار”.

يرى سعيد أن المجتمع الإيزيدي لم يصل بعد الى مرحلة التعافي “في ظل قلة الخدمات المتعلقة بالجانب النفسي، نتيجة عدم وجود مراكز متخصصة وقلة المتخصصين في هذا المجال”. 

اعترافات دوليّة ومستقبل مجهول

تزامنا مع الذكرى التاسعة للإبادة، اعترفت الحكومة البريطانية باعتبار الإيزيديين ضحايا “إبادة جماعية” حصلت على يد عناصر تنظيم “داعش”. جاء ذلك في بيان صدر عن وزارة الخارجية البريطانية في الأول من آب/ أغسطس 2023، لتصبح بذلك خامس دولة تقدم مثل هذا الاعتراف الذي كان قد سبقها إليه كل من ألمانيا وأستراليا وبلجيكا وهولندا.

وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط طارق أحمد، ذكر في بيان منفصل، “عانى الإيزيديون كثيراً على أيدي عناصر داعش قبل تسع سنوات، وما زالت الانعكاسات محسوسة حتى اليوم” . وأضاف، “العدالة والمحاسبة أمران أساسيان بالنسبة إلى الذين دُمرت حياتهم”، مشيراً إلى أن هذا الاعتراف “التاريخي”، “يعزز التزام المملكة المتحدة بضمان “حصولهم على التعويض الذي يستحقّونه وإمكان حصولهم على العدالة”.

“عدالة، عدالة” تردد زینە عباس (19 سنة) ثم تتساءل وهي تقاطع يديها على صدرها بينما ارتسم الحزن على وجهها: “نسمع عنها كثيراً ولا نعرف متى يتم تطبيقها؟”. 

كانت زينة قد خُطفت وهي في السابعة من عمرها، وخطفت معها أربعٌ من شقيقاتها الأكبر سناً، تم تحرير ثلاث منهن وما زال مصير إحداهن مجهولاً.

تقول بنبرة أسى: “هنالك مئات الفتيات الأخريات اللواتي ما زلن أسيرات في مخيمات التنظيم بسوريا، يخفين هوياتهن الحقيقية ولا يكشفن أنهن إيزيديات.. هن بحاجة الى مساعدة ليتحررن”.

دايه شامي، وهي سيدة في عقدها السادس، تعرّض 33 من أبنائها وأحفادها الى الخطف على يد “داعش”، وقتل 15 منهم. تصف الإيزيديين بالمنسيين، “مرت تسع سنوات ونحن نعيش في الخيم، أعطوا لكل عائلة 4 أمتار من النايلون لتمضي عمرها تحتها، ولا نعرف متى ستحترق وتتحول إلى أكفانٍ لنا”.

بعد أيام من حديثها، وتحديداً في العاشر من آب الحالي، التهمت النيران أربع خيم في مخيم “كبرتو” جنوب دهوك، وهي حوادث تقع بشكل متكرر مخلِّفة في الغالب أضراراً مادية كبيرة، وأحياناً ضحايا من النازحين كما حصل في شباط/ فبراير الماضي، حين لقي طفلان دون السادسة مصرعهما في مخيم “جمشكو” على أطراف مدينة زاخو.

بدا جميل علي، وهو أحد سكان المخيم، مصدوماً لسرعة التهام النيران الخيم، فبالكاد نجح أصحابها في النجاة بأرواحهم.

قبل هجوم “داعش”، كان علي، الذي بلغ الخمسين من عمره، يعمل في الزراعة بقريته جنوب سنجار، لكن لا أمل له الآن بالعودة واستعادة عمله السابق مع الدمار وندرة المياه.

قال بصوت مرتجف وهو يحاول منع أبنائه من الاقتراب من الحريق، “هذه حالنا… إن عدنا الى سنجار سنموت من الجوع، وإن بقينا هنا ربما سنحترق يوماً تحت الخيم”.

أُنجز التقرير بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية