fbpx

الفضاء المدني في اليمن ساحةٌ مفتوحة للانتهاكات 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكشف الدراسة عن أن لـ”المجلس الأعلى” دوراً رقابياً تعسفياً تجاه فضاء المجتمع المدني، يشمل مراقبة ميزانيات المشاريع الخاصة بالمنظمات، وسياسات التوظيف المتبعة، وتحديد نطاقات العمل المسموح بها، كما يتلقى التقارير المالية والفنية والإدارية من المنظمات العاملة بشتى أنواعها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يشغل المجتمع المدني في اليمن، مساحة لا بأس بها في مختلف المجالات، غير أنه نادراً ما يتم التوقف بنظرة أو دراسة فاحصة وشاملة عند ما يتعرض له. هذا الفراغ ملأته أخيراً، دراسة لمنظمة “مواطنة” المعنية بحقوق الإنسان، قدمت فيها تشخيصاً واقعياً للتحديات بالنظر إلى الأعراض والأسباب، التي تتجاوز الأهداف المرتبطة بالصراع إلى محاولة السيطرة على هذا الفضاء أو قمعه بأوجه متعدّدة.

الدراسة الميدانية التي جاءت تحت عنوان “فضاء المجتمع المدني في اليمن… ديناميات القمع وصور التحدي”، ركزت على فترة النزاع المسلح (2014- 2023)، وتناولته في سياقه الشامل، بدءاً بالمفاهيم والتاريخ، مروراً باستعراض جوانب وطبيعة التحديات والقيود متعددة الأشكال والأطراف وتأثيراتها على العمل المدني في اليمن، وصولاً إلى توصيات تقدم خطة عملية للتعامل مع هذه التحديات للحفاظ على ما تبقى من مساحة لهذا الفضاء.

استراتيجية مُنسّقة

تتمحور عِلّة الدراسة في كون التدابير القمعية والانتهاكات التي تمارسها أطراف النزاع ضد فضاء المجتمع المدني، يصعب النظر إليها كـ”نتيجة جانبية لحالة النزاع المسلح القائمة منذ العام 2014، أو التعاطي معها تحليلياً كمجرد ممارسات ظرفية وعشوائية مدفوعة بهاجس الأمن والحالة الاستثنائية”، إذ إن “القمع الموجّه إلى الفضاء المدني في اليمن أثناء النزاع، يبدو أقرب إلى الاستراتيجية المنسّقة والشاملة للسيطرة على المجتمع المدني وترويضه وإدارته بما يتلاءم مع مصالح تلك الأطراف”، ولأغراض “تتعلق على الأرجح برسم خرائط مستقبلية للنفوذ السياسي والمجتمعي على المدى الطويل”.

عملت الدراسة على عيّنة مكوّنة من 70 منظمة مجتمع مدني محلية تم اختيارها بطريقة عمدية من تسع محافظات يمنية هي: صنعاء، عدن، تعز، الحديدة، حضرموت، مأرب، شبوة، أبين وصعدة، وخضعت لمعايير تجعل منها شاملة، مثل التغطية في مختلف مناطق سيطرة أطراف النزاع، الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وجماعة أنصار الله الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات المشتركة، وكذلك تمثل المنظمات بمختلف أصنافها: منظمات غير حكومية، جمعيات، نقابات واتحادات، مراكز دراسات، مبادرات، فضلاً عن معايير أخرى مرتبطة بالنشاط الفعلي والاستقلالية.

وفي إطارها النظري، تتوقف الدراسة عند أبرز المفاهيم والمحطات ذات الصلة، أبرزها مفهوم المجتمع المدني (Civil Society)، وأصوله التاريخية وعلاقته بالمساحة الديمقراطية، وفي مقابلها القيود السلطوية. وتوضح أن مفهوم الفضاء المدني برز “من رحم العلاقة ذات الطابع الجدلي بين المجتمع المدني والنظم التسلطية وشبه الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم طيلة الثلاثة عقود الماضية”. أما من وجهة نظر التحالف العالمي لمشاركة المواطنين، يعرَّف الفضاء المدني بأنه “البيئة السياسية والتشريعية والاجتماعية والاقتصادية التي تمكن المواطنين من الالتقاء ومشاركة اهتماماتهم، والعمل بشكل فردي وجماعي للتأثير في مجتمعاتهم وتشكيلها، [وكذلك] متابعة وجهات نظر متعددة، ومتنافسة أحياناً”.

أفاد أكثر من 94 في المئة من المنظمات المحلية المشمولة بالدراسة، بتعرّضها بصورة مباشرة لقيود أو إجراءات تعسفية أو انتهاكات وممارسات انتقامية عنيفة وصارخة خلال فترة النزاع.

الفضاء المدني دولياً ومحلياً

تسلّط الدراسة الضوء على الوضع القانوني لفضاء المجتمع المدني دولياً ومحلياً، إذ إن هذا الفضاء في اليمن شهد ولادة جديدة عقب قيام دولة الوحدة في أيار/ مايو 1990، إذ بلغ عدد المنظمات المحلية المسجلة في العام نفسه 2700 منظمة. وأتيح للحيز المدني خلال الأعوام الثلاثة من 1990 إلى 1993 هامشٌ واسع من الحرية، بفعل التوازن بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد.

لكن في وقت لاحق، حدث ما يشبه الانتكاسة عقب الحرب الأهلية في العام 1994، وما أفرزته من واقع سياسي بسيطرة الحزبين المنتصرين (المؤتمر والإصلاح)، وما تلا ذلك من ظروف، أبرز محطاتها إحالة 1400 منظمة وجمعية الى القضاء في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 بتهمة مخالفة القانون. 

مع ذلك، ابتداءً من العام 2006، بدأت قبضة الحكومة على المجتمع المدني بالارتخاء جزئياً، واستمر هذا المنحى في التصاعد حتى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في شباط/ فبراير 2011، ومع بدء المرحلة الانتقالية، نشأت شراكة بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، وشاركت “بفاعلية في النقاش العام حول المستقبل السياسي للبلاد، وشارك ممثلوها في مؤتمر الحوار الوطني الشامل (آذار/ مارس 2013- كانون الثاني/ يناير 2014)”.

 المرحلة التالية، محور الدراسة، هي فترة النزاع المسلح ابتداءً من العام 2014، إذ مارست الأطراف المتحاربة أشكالاً متنوعة من التدابير القمعية ضد فضاء المجتمع المدني أثناء النزاع، شملت، وفق الدراسة “قيوداً وتدابير إدارية وقانونية، وإجراءات تعسفية، وانتهاكات وأعمالاً انتقامية من خارج القانون”.

وقد أفاد أكثر من 94 في المئة من المنظمات المحلية المشمولة بالدراسة، بتعرّضها بصورة مباشرة لقيود أو إجراءات تعسفية أو انتهاكات وممارسات انتقامية عنيفة وصارخة خلال فترة النزاع.

وتصل الدراسة إلى أن النطاق الواسع للقيود والانتهاكات ضد المجتمع المدني، يبرهن “عن وجود نهج شامل وغير روتيني للقمع تمارسه الأطراف المتحاربة، بدافع من تصوراتها العدائية الصريحة أو الكامنة تجاه فضاء المجتمع المدني، ومن رغبتها الجامحة لإعادة ضبط المشهد المدني والتحكم فيه كموضوع لممارسة السلطة وتأكيد النفوذ”.

الحوثيون والنموذج الإحلالي

في إطار استعراضها أوجه القمع والتدخلات والممارسات المختلفة، تتوقف الدراسة عند كون تلك القيود “تصدر إما من خارج الأطر القانونية السائدة صورياً، أو أنها تنتمي إلى المساحة الفضفاضة والمبهمة في القوانين واللوائح المتعلقة بالمجتمع المدني”. وانطلاقاً من المعطيات المفصّلة، تكشف الدراسة ثلاثة نماذج للسيطرة السلطوية، الأول تمثله جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والثاني نموذج هجين في مناطق سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة المعترف بها دولياً، والثالث نموذج هش تمثله هذه الحكومة في نواح أخرى.

توضح الدراسة أن جماعة أنصار الله، قدّمت الشكل الأكثر تشدداً لترتيبات السيطرة غير الرسمية على المجتمع المدني في مناطق وجودها العسكري، من تعليمات بجعل التراخيص محصورة في صنعاء، إلى قيود الجهات الأمنية والمشرفين (اللجان الإشرافية)، مروراً بتشكيل “الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية ومواجهة الكوارث” في العام 2019، إذ نُقلت إليها صلاحيات الموافقة على تكوين الجمعيات غير المموّلة خارجياً، ومنح تصاريح العمل، والتجديد السنوي للتراخيص، أما المنظمات غير الحكومية المتلقية معونات خارجية فظلت صلاحية الإشراف عليها كما هي في القانون، من اختصاص وزارة التخطيط والتعاون الدولي.

في وقت لاحق، أعادت جماعة أنصار الله تشكيل الهيئة المشار إليها في كيان موسع، سُمي “المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي”.

وفقاً للدراسة، مُنح المجلس، والذي يُطلق عليه اسم “الإسكمشة”، الصلاحيات كافة المتعلقة بالموافقة على تكوين الجمعيات، وإصدار تصاريح العمل وتجديدها، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلًا من الخارج، وبذلك صار المجلس يتولى الإشراف على توقيع الاتفاقيات مع الجهات الدولية المانحة وتوجيه التمويلات المقدمة للمنظمات المحلّية. 

كما “قوّض أنصار الله بصورة شبه كاملة، دور الجهات الرسمية المنصوص عليها في القانون، إذ استحوذ المجلس الأعلى على معظم صلاحياتها بمشاركة جهات أمنية يُرّجح أن لديها تمثيلاً غير واضح في المجلس، وهي بادرة غير مسبوقة لتقنين التدخل الأمني في العمل المدني”.

تكشف الدراسة عن أن لـ”المجلس الأعلى” دوراً رقابياً تعسفياً تجاه فضاء المجتمع المدني، يشمل مراقبة ميزانيات المشاريع الخاصة بالمنظمات، وسياسات التوظيف المتبعة، وتحديد نطاقات العمل المسموح بها، كما يتلقى التقارير المالية والفنية والإدارية من المنظمات العاملة بشتى أنواعها. 

وتشمل الرقابة التعسفية جميع مراحل المسح والإعداد والتنفيذ لمختلف المشاريع والنشاطات، وفي العادة تأخذ طابعاً صارماً يتناول أدق التفاصيل المتعلقة بالنشاطات، من قبيل “تدقيق العبارات المكتوبة على اللافتات الخاصة بالدورات والورش التدريبية، ومراجعة محتوى المادة التدريبية، وأسماء المشاركين وبياناتهم، والبيانات الخاصة بالسيارات والسائقين…”.

يُلزم المجلس المنظمات المحلية المنفِّذة لمشاريع ميدانية، باستيعاب مندوبين عنه طوال فترة التنفيذ والتكفل بنفقاتهم، كما ألزم المنظمات الإغاثية والإنسانية بتوزيع المساعدات العينية والنقدية وفق قوائم جاهزة بالمستفيدين يقوم هو بإعدادها، وأوقف العمل بآلية الشكاوى المتبعة في الكثير من المنظمات، إذ يحظر المجلس على “جميع المنظمات الوصول المنفرد والمباشر إلى المستفيدين تحت أي مبررات”.

الحوثيون وإن كانوا الوجه الأبرز لهذا النموذج الإحلالي، فهم ليسوا الوجه الحصري له، إذ تظهر بعض سمات النموذج الإحلالي للسيطرة على فضاء المجتمع المدني في مناطق القوات المشتركة التي يقودها ابن أخ الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وتحديداً مدينة المخا الساحلية على البحر الأحمر، لكن بصورة أقل وطأة، والسبب في هذا الظهور المخفف للنموذج الإحلالي يعود إلى هامشية المدينة في السياسات الوطنية الرسمية خلال العهود السابقة، وضيق نطاق مجتمعها المدني ومحدودية أدواره وتأثيره.  

وقد استحدثت القوات المشتركة في مدينة المخا مركزاً غير قانوني أسمته “مكتب شؤون المنظمات في الساحل الغربي”، وأوكلت إليه مهام منح تصاريح مزاولة العمل للمنظمات المرخصة والرقابة عليها، بذريعة منع تداخل مناطق النشاط، والتأكد من توجيه المشاريع لمصلحة السكان.

الانتقالي والحكومة… نموذج هجين وهش

تتطرّق الدراسة إلى ما يسمى بالنموذج الهجين، إذ تتسم سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على المجتمع المدني في مناطق نفوذه بكونها هجينة إلى حد كبير، فالمجلس يُبقي على الهياكل الرسمية قائمة كما هي، ويتعايش ظاهرياً مع أدوارها القانونية المعتادة، ولا يُظهر سوى القليل من الميول لممارسة تدخلات مباشرة في عملية تسجيل المنظمات والجمعيات أو في تجديد التراخيص ومنحها تصاريح العمل.

أما لجهة الرقابة، فيمارس المجلس رقابة تعسفية صارمة ولا هوادة فيها ضد فضاء المجتمع المدني عبر هيئة هلامية وغير رسمية يطلق عليها اسم “اللجان المجتمعية”. ففي مدينة عدن التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي منذ آب/ أغسطس 2019، تقوم “اللجان المجتمعية” المشكّلة من تكوينات قاعدية تضم مئات الموالين للمجلس في جميع أحياء المدينة، بمهام “ضبط عمل المؤسسات الأهلية ومتابعتها والإشراف على أنشطتها”، وينوب عن هذه اللجان مندوبون في كل منظمة يتابعون الأنشطة المدنية كافة ويرصدونها بصورة دقيقة ومستمرة.

الى جانب ذلك، تمارس اللجان المجتمعية “طرقاً سرية” في عملية المراقبة، من خلال نشر المئات من عناصرها “غير المرئيين” حول مقار منظمات المجتمع المدني في جميع أحياء المدينة، ويتولى عدد من هؤلاء “مراقبة الصحافيين والناشطين ومعرفة التفاصيل الخاصة بعملهم من دون لفت الانتباه”.

مع ذلك، يحضر في مناطق أخرى، النموذج “الهش”، حيث لا تزال الجهات الرسمية الواقعة في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ووزارة التخطيط والتعاون الدولي ومكاتبهما في المحافظات، تحتفظ بوجود رسمي ملموس، وتمارس مهاماً وصلاحيات منصوصاً عليها في القوانين ذات الصلة بالمجتمع المدني، بما في ذلك التسجيل القانوني ومنح التراخيص، وتجديد تصاريح العمل واعتماد المشاريع المموّلة والرقابة على تنفيذها.

وعلى رغم أن هذه الجهات لا تواجه تحدي وجود هياكل غير رسمية بديلة أو منافسة لها في الاختصاص، فإنها تفرض قيوداً وتدابير معيقة للفضاء المدني من النوع نفسه الذي يظهر في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأطراف الأخرى (أنصار الله- الحوثيون، والمجلس الانتقالي)، مع فارق ملحوظ في كثافة ممارسة القيود والتدابير الإدارية والرقابية المعيقة لمنظمات المجتمع المدني مقارنة بالمناطق الأخرى، حيث تقل كثافة القيود والرقابة التعسفية التي تمارسها الهياكل الرسمية في المناطق التابعة للحكومة مقارنة بالهياكل غير الرسمية أو الهجينة في مناطق سيطرة أنصار الله الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي.

أسباب متعدّدة وأنماط متباينة

تشير الدراسة إلى أسباب عدة وراء تقييد الفضاء المدني، تطرقت إليها نتائج الدراسة بالتفصيل، وتصدّرتها الأسباب السياسية بنسبة 32 في المئة، ثم الأسباب الإدارية بنسبة 22 بالمئة، تليها الأسباب المتعلقة بمجال النشاط بنسبة 19 بالمئة وأسباب عامة 17 بالمئة، وأخيراً الأسباب غير المعروفة بنسبة 10 بالمئة.

أما في المحور الثالث، فتتناول الدراسة أنماط القيود، إذ تأتي الرقابة التعسفية في مقدمة التدابير القمعية التي يتعرض لها فضاء المجتمع المدني أثناء النزاع، وهو ما يرجع الى “حقيقة أن أطراف النزاع عاجزة في الواقع عن إنهاء الوجود الفعلي والقانوني للمجتمع المدني الحقيقي”، وبالتالي “تعوض عن هذا العجز بممارسة أنماط قاسية من الرقابة التعسفية المستمرة على الفضاء المدني بهدف التضييق عليه ودفعه في طريق التلاشي التدريجي”. التدابير القمعية قسمتها الدراسة إلى خمس مجموعات: “القيود والتدابير الإدارية والإجرائية، الإجراءات التعسفية، الانتهاكات والأعمال الانتقامية من خارج القانون، التدابير القمعية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، القيود والممارسات التعسفية والقمعية ضد داعمي المجتمع المدني وشركائه”.

آليات للحماية والتأثيرات

في ضوء التشخيص والرصد المتعلق بواقع الانتهاكات ضد الفضاء المدني، والتي يتراجع معها دور مؤسسات حماية القانون باستمرار، وتتقلص فرص الوصول الى أجهزة العدالة في شتى أنحاء البلاد، تركز الدراسة في محورها الرابع على أوجه الاستجابة المطلوبة، إذ أفادت أكثر من 57 في المئة من منظمات المجتمع المدني المشمولة بالدراسة، بأن المجتمع المدني في اليمن يفتقر إلى الآليات والتدابير المتعلقة بالحماية من الانتهاكات والقيود والإجراءات التعسفية القامعة للفضاء المدني أثناء النزاع، بما في ذلك التدابير الخاصة بتقديم البلاغات والشكاوى ومتابعتها لدى الجهات القانونية الداخلية، أو المنظمات الحقوقية العالمية والجهات الدولية المعنية بقضايا المجتمع المدني. وفي المقابل، ترى ما يقارب الـ 43 في المئة منها، أن في متناول المجتمع المدني بعض آليات الحماية وتدابير محددة للشكاوى والإبلاغ، من قبيل حملات المناصرة والتضامن المدني، ووسائل الحماية القانونية كالقضاء، وغيرها من التدابير كاتباع قواعد السلوك وتدريب الكادر البشري، وصولاً إلى ما يتعلق بآليات الحماية الخاصة بالشكاوى والمناصرة المحلية وغيرها.

أما في ما يتعلق بالاستجابة، فقد أشارت الدراسة إلى طرق رئيسية للتعامل معها، أبرزها التكيّف بنسبة 44 في المئة، يليه التفاوض بنسبة 30 في المئة، من ثم الإدانة العلنية والاحتجاج بنسبة 16 في المئة، في حين قُيدت نسبة 8 في المئة على استجابة معدومة أو غير محدّدة.

إلى ذلك، وفي جانب التأثيرات، قيّمت غالبية المنظمات المشاركة في الدراسة وبنسبة أكثر من 65 في المئة، الآثار السلبية الواقعة على أدائها المدني جراء التدابير والإجراءات القمعية الواسعة، فيما قالت أكثر من 21 في المئة من المنظمات، إن الآثار على الأداء محدودة، واعتبرت نحو 13 في المئة من المنظمات تلك الآثار منعدمة. 

تبيّن الدراسة أن التدابير التعسفية المتنوعة، شكلت سبباً رئيساً للتأثير السلبي على أداء المجتمع المدني وإعاقة أنشطته. من بين تلك التأثيرات، التوقف الإجباري عن النشاط لفترة مؤقتة، وتقليص الأنشطة الميدانية، وتنفيذ أنشطة منخفضة الفعالية تحت تأثير الرقابة التعسفية المباشرة والمستمرة، وإيقاف جزء من المشاريع أثناء التنفيذ نتيجة طلبات تجديد تصاريح العمل، وتأخير تنفيذ مشاريع أخرى أو إعاقتها كلياً. 

كما تسببت التدابير الإدارية التقييدية على نحوٍ خاص، بجعل فضاء المجتمع المدني شبه مغلق، وتراجعت بشكل حاد قدرته على ممارسة أنشطة معززة للاستدامة وبناء القدرات على المدى الطويل. هناك ضرر ملموس أصاب علاقة المجتمع المدني بجهات المساعدة الدولية، حكومية وغير حكومية، خلال فترة النزاع، ومن الواضح وجود فجوة معلومات واتصال هائلة في تلك العلاقة، وربما أزمة تصورات عميقة قد تقوّض الثقة وتذهب بالعلاقات في اتجاهات غير مرغوبة.

تضيف الدراسة أن التدابير القمعية المستمرة وضعت استقلالية جزء من المجتمع المدني الحقيقي على المحك. وقد أدى تعدد أطراف النزاع إلى تضييق نطاق التشبيك بين منظمات المجتمع المدني. 

وفي حدود متدنية، ارتبطت فعالية التشبيك بمجالات محددة دون غيرها، أو اتخذ التشبيك طابعاً تقنياً وسطحياً، كالتشبيك بين المنظمات الإغاثية والإنسانية بغرض تنسيق التدخلات وتجنب تكرار مناطق الاستهداف. ولوحظ انعدام شبه تام للتشبيك في مجال الشراكات التنفيذية بين منظمات المجتمع المدني (تنفيذ مشاريع مشتركة) بسبب سياسات عدم الإفصاح المالي التي تنتهجها بعض المنظمات المحلية. 

نقاط قوة

وعلى رغم التحديات، تشير الدراسة إلى أن لدى المجتمع المدني في اليمن ككل نقاط قوة لا تزال تتيح له الاستمرار في مقاومة حالة القمع التي يتعرض لها فضاؤه المدني. 

وتتمثل أهم نقاط القوة من وجهة نظر قادة منظمات المجتمع المدني، في إرادة البقاء والعمل الفعلي في أوساط المجتمع، وفي القدرات الاتصالية والإعلامية، وعلاقات الشراكة الدولية، والتضامن الجماعي، والقوة القانونية والأخلاقية، وعمله من أجل السلام ومناهضة الحرب. كما أن وعي المجتمع المدني بجوانب قوته الكلية، على رغم كونه لا يخلو من مبالغات، مؤشر مهم إلى تشبّثه بحقه المشروع في البقاء، وإصراره على عدم الاستسلام لواقع العنف الممارس ضده.

ومع ذلك، فإن “فرص المجتمع المدني تظل محدودة للغاية في كسر موجة القيود والانتهاكات أو احتواء آثارها متوسطة أو بعيدة المدى، نظراً الى الاختلالات البنيوية عميقة الأثر التي أحدثتها الممارسات القمعية في فضائه الخاص، إضافة إلى أن المجتمع المدني أظهر خلال فترة النزاع السمات السلبية الآتية: ضعف التضامن الجماعي، إهمال قوة الرأي العام، الاكتفاء بالعمل ضمن الهامش المتاح من دون السعي الى توسيعه، عدم مراكمة أصول اجتماعية لقاعدة شعبية مستقبلية، اعتماد شبه كامل على مجتمع المانحين مع علاقات شراكة دولية ضعيفة وغير استراتيجية، ومحدودية في أنشطة صنع السلام والتعبئة المدنية المضادة للحرب”.

توصيات وفرق عمل

 تخلص الدراسة إلى توصيات متعددة، أبرزها دعوة المجتمع المدني الى السعي لإيجاد توازن بنّاء بين ضرورات الاستجابات التكيفية الذاتية ذات الطابع اللحظي والمحدود، وبين حاجته الوجودية الى إيجاد مسارات عملية موازية وواسعة الأفق لإدارة معركة القيود والانتهاكات ضد فضاء المجتمع المدني، بحكمة جماعية وبالاستناد إلى نقاط ارتكاز مواتية داخل بنيته الكلية وفي بيئته المحيطة، وذلك من خلال تشكيل فريق قانوني موحّد من محامين وحقوقيين وخبراء قانون لمتابعة قضايا المجتمع المدني والدفاع عن حقوقه أمام القضاء والأجهزة الرسمية ذات العلاقة. وينسق الفريق المهام الآتية، تحريك دعاوى قضائية ضد القيود والتدابير غير القانونية التي تتخذها الجهات المعنية بحق المنظمات المحلية، وذلك بالاستناد إلى قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية ساري المفعول. وصولاً إلى نقل معركة القيود والقمع إلى الفضاء العمومي لخلق رأي عام مساند. ويمكن في هذا الاتجاه، البدء بإنشاء منصة إلكترونية مدنية تضم عدداً من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني المحلي داخل اليمن، وتقوم بدور الآلية المحلية للإبلاغ عن انتهاكات الفضاء المدني.

وتشدّد الدراسة “على المنظمات والجهات الدولية الفاعلة، بأن تأخذ في الاعتبار الأبعاد غير الاعتيادية لقمع فضاء المجتمع المدني في اليمن وما يعيشه من مخاطر وسياسات شبه استئصالية تمارسها بعض أطراف النزاع”. وترى أن “الصمود الرمزي للفضاء المدني لا يجب الاستهانة به على رغم المكاسب المحدودة والأثر غير المستدام لأنشطته وضعف الشراكات الاستراتيجية”. وتقدم في السياق، مقترحات عملية للحفاظ على ما تبقى من حيز مدني في اليمن وخلق فرص واقعية لتوسيعه، ومن ذلك، تنظيم ودعم حملات المناصرة ضد التدابير التقييدية الموجّهة الى فضاء المجتمع المدني في اليمن، وتعزيز آليات الحماية الذاتية لمنظماته، ورصد مبالغ خاصة بحماية المنظمات الفاعلة.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.