fbpx

نشيد الصاعقة بديلاً عن النشيد الوطني…
المدارس المصرية إذ تتحوّل مرآةً للسلطة الحاكمة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعيداً من المكايدات السياسية واستغلال مناهج التاريخ لتحسين ثورة الحاكم القائم وإفساد كل إنجاز للحاكم السابق، فإن التعليم في مصر يمر بأسوأ أحواله عبر التاريخ… الدولة التي لا تعترف سوي بالمال، والتي يردد رئيسها في كل حوار “الفلوس، أهم حاجة الفلوس… معاك فلوس هتشوف العجب”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دائماً ما كنتُ أتعجب حين يقول أحدهم: “مجانية التعليم أهم إنجازات ثورة الضباط الأحرار”. فكيف أصبحوا ضباطاً أحراراً وهم أبناء الطبقة الكادحة؟ جمال عبد الناصر نفسه، كان والده بوسطجياً بسيطاً. وبعيداً عن الثورة وشعاراتها وإنجازاتها، الوهمي منها والحقيقي، على أرض الواقع كانت محافظات “القناة”: السويس، بورسعيد، والإسماعيلية، تقاوم ببسالة جيش بريطانيا العظمى المُتحد مع فرنسا وإسرائيل، زمن ما أطلق عليه (العدوان الثلاثي)، والذي جاء إثر خبر تأمين قناة السويس.

تلك المقاومة الشعبية الباسلة أسفرت عن ملاحم وبطولات، وأكدت أن الشعوب أيضاً قادرة على حماية أراضيها ووطنها. لعل ذلك ما دفع السلطة عقب انتهاء حرب 1956، إلى إنشاء مدارس عسكرية في المناطق كافة، تحديداً لطلاب الثانوية العامة، لإعداد الشباب عسكرياً لأي عدوان مُحتمل.

شخصياً، أنا مدين لتلك المدارس، فقد تخرجت في مدرسة إمبابة الثانوية العسكرية، التي أنشأها عبد الناصر بعد تهجير أهالي الإسماعيلية إلى إمبابة وبناء مدينة التحرير، كمنطقة سكنية بديلة، تحوي الخدمات كافة، كالمستشفيات المنتشرة على الساحل، ومركز الشباب، ومنطقة خاصة بالمدارس الابتدائية والإعدادية، وبالطبع، مدرسة للثانوي العام العسكري، تلك المدرسة كانت، وربما لا تزال، ملاذاً لأبناء الفقراء من أمثالي.

تميزت هذه المدارس بأن الكتب فيها مجانية والمصاريف الإدارية في متناول يد البائس. وهو الأهم لأبناء جيلي، الوجبة اليومية التي تقدمها للطلاب: يوم حلوى وجبنة، وآخر بيضة وعلبة مربى صغيرة جداً، بتلك “المميزات” أصبح التعليم ممكناً، بخاصة لأبناء الآُسر المنعدمة والتي رفعت عن كاهلها التعليم والمأكل إلى حين.

أتذكر زميلَي الدكة، عيد عبد الصبور وعمرو عبد الحميد، كنا جميعاً أبناء الطبقة المهمشة، أولياء أمور بلا تعليم يُذكر، وأبناء يتخذون التعليم وسيلة لتحقيق أحلامهم التي تحققت بالفعل. لم نصبح ضباطاً أحراراً! أصبحنا ما نريد،  مُعلم لغة إنكليزية، وكاتب، ومرشد سياحي. ربما لأننا لم نهتم بمادة التربية العسكرية، وهي المادة الإضافية في المدارس العسكرية، والتي من المفترض أن تكون حصتين في الأسبوع عملياً.

كان الهدف من تلك الحصتين، تدريب الطلاب على استخدام السلاح، لكن الأسلحة المتهالكة (لم تكن غير بنادق عدة قديمة لعلها تعود الى حرب 48) مرمية في المخزن المُغلق دائماً، لنمضي حصص التربية العسكرية في تنظيف الحوش من المخلفات، وتصليح الدكك التالفة، والمشاركة في معمل الزراعة بصناعة المربى، وتخليل الزيتون والليمون والخيار. لم نكن نعرف وقتها أن جنود هذا الوطن في طريقهم الى التخلي عن السلاح مقابل انشغالهم بالطرق والكباري والمنتجات الغذائية.

دائماً ما كنتُ أتعجب حين يقول أحدهم: “مجانية التعليم أهم إنجازات ثورة الضباط الأحرار”. فكيف أصبحوا ضباطاً أحراراً وهم أبناء الطبقة الكادحة؟

السادات… المدرسون في الأرض

انتهت مصر من حربها، وانتصرت على عدوها في حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 لتبدأ السلطة في تدشين عهد جديد، عصر الانفتاح والرأسمالية. كان لهذا التحول الاقتصادي والسياسي صداه في الحياة الاجتماعية التي بدأت في تكوين طبقات مستجدة على المجتمع المصري، أُطلق عليها اسم “الأثرياء الجُدد”، هم نتاج الانفتاح التجاري والسوق الرأسمالي العالمي. وكان من الطبيعي أن تتجه المدارس بدورها الى إشباع متطلبات السوق الجديد لتظهر المدارس الخاصة بأنواعها كافة مقابل تهميش المدارس الحكومية.

ليست المدارس فحسب ولكن أيضاً المؤسسات الحكومية كافة. إنه عصر (الموظفون في الأرض) الرخاء الذي نعم فيه التاجر ورجل الأعمال والعائد من دول النفط، وحتى الحِرفي جاء على حساب الموظف، فما بالك إذا كان هذا الموظف مدرساً؟ والمُدرس اشتق اسمه من المدرسة ذاتها، وهو المعلم الذي قال فيه أحمد شوقي “قم للمعلم وفّه التبجيلا… كاد المعلم أن يكون رسولا”، وهي مقولة عارية تماماً من الصحة، فالمُعلم حتى في العصر الذهبي للموظف لم يحظَ بهذا التكريم.

الأقرب الى الحقيقة، مشهد لسي السيد (بطل ثلاثية القاهرة) وهو يميل على كمال موبخاً: “عاوز تطلع خوجة “مدرس”! هات لي عيلة محترمة ترضي تجوز بنتها لمُعلم”. هذه هي حال المدرس في عهد الملوك. أما في عهد الرؤساء، وتحديداً في عهد السادات، فلن تخرج حال المدرس بين نموذجين.

الأول هو الأستاذ الملواني/ عبد الله فرغلي في “مدرسة المشاغبين”، ذلك المُدرس الذي يتعرض للإهانة المستمرة من الطلاب حيث لا احترام ولا تقدير لشخصية المُعلم. والثاني هو أبلة عطية/ يسرا بطلة فيلم “لأفوكاتو” التي تجلس على مكتبها المتهالك، تقطف من أوراق الملوخية وتلقي بها في الطبق وتردد بصوت عالِ: “العمل شرف… العمل واجب”، فيردد خلفها التلاميذ الشعار نفسه الذي يعبر عن ازدواجية المجتمع وفصامه. أن تفعل عكس ما تقول وتقول ما لا تفعل. هذا هو الدرس الأهم الذي تعلمه أبناء هذا الجيل الذي نشأ وترعرع على الشعارات.

مبارك… حين تتولي الأم التربية والتعليم

لا يمكن الحديث عن التعليم في عهد مبارك من دون الإشارة إلى سوزان مبارك التي تولت ملف الأسرة، وكان على رأسها بالطبع التربية والتعليم، وهو ما بث طاقة جديدة في المدارس الحكومية آنذاك.  

الاهتمام بالنشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية كذلك كان الهم السائد، وتدعيم “الديمقراطية” بين التلاميذ، إذ يتم اختيار رائد للفصل ومساعد للرائد ومسؤول عن النشاط الفني، وآخر عن النشاط الاجتماعي، وثالث للرياضة ورابع للنشاط السياسي، في إطار عملية انتخابية بين الطلاب، تلك العملية تتم بشكل “ديمقراطي” في فصول المدارس الابتدائية والإعدادية.

 أذكر أنه في الصف الثاني الإعدادي، كنتُ أحد الطلاب الذين تم اختيارهم ليكون رائداً على الفصل، بعدها تختار الوزارة، بمعاونة بعض المسؤولين، رائداً عاماً للمدرسة. وتختبر مجموعة من رجال الوزارة كل طالب بسؤال رئيسي: “هل تحب القراءة؟ ماذا تقرأ”.

الجدية المفرطة التي كانت تتعامل بها وزارة التربية والتعليم مع انتخابات التلاميذ  لافتة، أما أهمية القراءة فهي الجانب الأكثر اهتماماً على الإطلاق، إذ تم تدشين مشروع القراءة للجميع تحت رعاية سوزان مبارك، التي أنشأت المكتبات بالمدارس والشوارع، وحققت الحلم الذي نادى به توفيق الحكيم يوماً حين اقترح وجود عربات تمر بالشوارع والمناطق محمَّلة بالكتب ليطّلع عليها سُكان المناطق الشعبية والعشوائيات.

هذا ما كان يحدث بالفعل، في صباح يوم الخميس، فعلى ناصية الشارع الرئيسي تقف عربات ضخمة مُعدة كمكتبات متنقلة يمكن الاستعارة منها، هذا بالإضافة إلى مكتبة المدرسة التي كانت عامرة بسلاسل متعددة ومتنوعة من الكتب التي تم إعدادها لتناسب الجيل الصغير، ومنها على سبيل المثال سلسلة روائع الأدب العالمي لليافعين، وهي السلسلة التي ضمت أعظم الأعمال الأدبية لكبار الكُتاب كمسرحيات شكسبير، و”آلة الزمن” لجورج ويلز، و”رحلة إلى مركز الأرض” لجول فيرن… وغيرها من الأعمال الخالدة والتي ما كان لها أن تصل إلى أبناء المناطق الشعبية من دون هذا المشروع العملاق (القراءة للجميع).

المفارقة، أن أمي نفسها تعلمت القراءة من خلال مشروع آخر، هو أيضاً كان تحت رعاية السيدة سوزان مبارك، وهو مشروع محو الأمية، تعليم من فاته التعليم. كانت أمي تذهب إلى المدرسة في الفترة المسائية كي تتعلم القراءة والكتابة، وهو ما تعلمته فعلاً. 

بخصوص الكتابة، من الجدير ذكره أن أول جائزة أدبية أحصل عليها في حياتي كانت بالصف الخامس الابتدائي، وكانت بدعم مباشر من سوزان مبارك لتلاميذ المدارس في المرحلة الابتدائية، وكان موضوع الجائزة عن دور الإعلام في توعية المجتمع. بالطبع، لا يمكنك الكتابة بحرية أو حتى النقد، فهذا يعني أنك لا تفهم اللعبة التي قواعدها “اكتب ما يُملى عليك، تعني أن تكتب ما نريد حتى تحصل على الجائزة” .

اللعبة السابقة هي نفسها الذي يمارسها الإعلامي، فهو يكتب ما تمليه عليه السلطة حتى يحصل على الرضا ثم الجائزة. ربما ذلك ما دفعنا للتطلع إلى الحرية الحقيقية. الحرية التي قرأنا عنها في الكتب، والتي كان، ولا بد، أن نبحث عنها في الواقع. لعل هذا ما جعل هذا الجيل يثور ليصبح جيل الثورة…

ما بعد ثورة يناير… لا تربية ولا تعليم

عقب ثورة كانون الثاني/ يناير، وبالتحديد في فترة حكم الإخوان المسلمين، سارعت السلطة الى استغلال صعودها لكرسي الحكم في كتابة مجدها الزائف، وإعادة كتابة التاريخ ينطلق من الحذف. إذ حذف الإخوان كل ما يتعلق بإنجازات مبارك من المناهج التعليمية، كما حذفوا الفصل الخاص بالبرادعي وحصوله على جائزة نوبل من منهج التاريخ بالصف الخامس الابتدائي، وعوضاً عن ذلك أضافوا موضوع “الإخوان بناة الإنسانية… الإخوان سبيل للتقدم”. 

الموضوع السابق ذاته حذفته سلطة السيسي عقب 30 تموز/ يوليو، لتصبح جماعة الإخوان في مناهج التاريخ، جماعة مُخربة حكمت مصر لعام فخرج عليها الشعب المصري ليتحرر من حكمها. فيما باتت إنجازات السيسي كصفحات ثابتة في كتب التاريخ تحكي عن عظمة الثورة المزعومة، والتي سعت في لحظة ما الى أن تجعل من نشيد الصاعقة (قالوا إيه) بديلاً للنشيد الوطني في المدارس.

وبعيداً من المكايدات السياسية واستغلال مناهج التاريخ لتحسين ثورة الحاكم القائم وإفساد كل إنجاز للحاكم السابق، فإن التعليم في مصر يمر بأسوأ أحواله عبر التاريخ… الدولة التي لا تعترف سوي بالمال، والتي يردد رئيسها في كل حوار “الفلوس، أهم حاجة الفلوس… معاك فلوس هتشوف العجب”.

يؤمن الحاكم بأن التعليم في مصر لا بد أن يقتصر على فئة معينة من الشعب المصري – وهي أصحاب المال طبعاً – هؤلاء من حقهم التعليم. أما باقي المجتمع فليس من المهم أن يتعلم، يكفي عليه التبعية. تلك الرؤية جعلت الدولة ترفع يدها عن التعليم والمدارس التي هجرها الطلاب واستبدلوها بالسنتر، والسنتر أماكن خاصة يجتمع فيها الطلاب لتحصيل المواد بمقابل مادي من دون الحاجة إلى المدرسة.

المُدرس نفسه تبدلت أحواله، فبعدما كان يعاني من العوز قديماً أصبح اليوم من أصحاب الأموال، يتحرك بالبودي غارد، ويركب السيارات الفارهة، ويقدم مواده مدعمة بالموسيقى والغناء، ويوزع إعلاناته في كل مكان، أسطورة اللغة العربية، شبح الكيمياء، وبرنس الفلسفة. بينما الطالب الذي كان يشتكي من كثافة الفصول، وبأنه لا يستطيع تحصيل المواد بفصل مقداره 30 طالباً، بات يستوعب دروسه وسط 500 طالب.

لقد باتت مباني بعض المدارس الحكومية بؤراً إجرامية بعدما أهملتها الدولة وتركها التلاميذ لتصبح بلا رقيب. فها هي مدرسة حدائق شبرا الإعدادية للبنات صارت وكراً لممارسة الدعارة، ومدرسة أخرى بالدقهلية تزرع البانجو وتروج له. تلك النماذج لها مثيلاتها بمدارس أخرى في صفط تحولت إلى دواليب لبيع البودرة/ الهيرويين، ومكان مُفضل للتعاطي. إنه عهد الفلوس بامتياز، عهد عشنا فيه فرأينا العجب حقاً حيث لا تربية ولا تعليم، لذلك كانت المدارس الحكومية – ولا تزال- نموذجاً مُصغراً للوطن، فهي معيار للدولة: لتقدمها وتحضرها، لثقافتها وتوجهها السياسي، وهي، بالضرورة، مرآة للسلطة الحاكمة.

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 17.05.2024

مدارس “الأونروا” المدمرة مأوى نازحين في خان يونس

على رغم خطورة المكان على حياة أفراد العائلة، بسبب احتمال سقوط بعض الجدارن أو الأسقف على رؤوسهم، قررت العائلة الإقامة في أحد الصفوف الدراسية، وبدأت بتنظيفه وإزالة الحجارة والركام من المساحة المحيطة به، وإصلاح ما يمكن إصلاحه.