fbpx

عن “الحليب المكثف” التي توزعه روسيا على السوريين بقوة السلاح

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا تزال طوابير المعونة تطول وتكبر في قريتي، ينتظرها الناس بفارغ الصبر، كلما ذاع خبر وصول معونات جديدة للبلدة، يركض الناس نحو المركز المسؤول عن توزيعها، يصطفون رتلاً للحصول على “كرتونة” تحوي بعض الأطعمة من النخب الثالث وربما أقل..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ذاع خبر وصول المعونات الروسية لبلدتنا، بدأ كل من في القرية يتناقلون الخبر ويحاولون تخمين ما تحويه هذه الدفعة من الصناديق. بينما يزداد الحماس والانتظار تزداد معه التوقعات، فخلف هذا الترقب جوع واشتهاء كبيرين.

 بدأ كل متحدث يتوقع  ما قد تحتويه المعونة القادمة كنوع من المنافسة مع من حوله، “التنبؤ” الذي قد يصل حد انتشار خبر مزيف بسبب حديث سريع بين شخصين، يقول أحدهم: “سمعت انو جايينا معونة من روسيا الشقيقة، عم يقولوا فيها قناني زيت ومعلبات وسكّر”، يقول آخر: “أنا سمعت أنو هالمرة فيها علب نسلة مدعومة، أنا بدي يعطوني علب النسلة والباقي ياخدوهن”، وثالث: “بالإضافة للنسلة رح يوزعوا علب مرتديلا وطون وسردين، يا أخي طالما في لحم معناها بدنا ناخذ…”.

كرتونة تحت تهديد السلاح

توجّه وسيم (اسم مستعار) صباح يوم توزيع المعونات نحو البلدية حيث توزّع الصناديق، ركض بسرعة كي يقف في الطابور  قبل ازدحامه، وليكون حاضراً على عملية  التوزيع، ففي أغلب الأحيان  تسرق بعض المواد الموجودة في الكرتونة وتتقلص محتويتها للنصف بأفضل الحالات. 

كان يركض نحو البلدية عندما شاهد الجنود الروس بأجسادهم الضخمة يحيطون المبنى شاهرين أسلحتهم النارية، لم يفهم الجنود الروس أن الرجال تهلع حين تجوع، وظنوا أنه هجوم مباغت يستهدفهم.

 صوب كل من في المكان أسلحتهم نحوه وصرخوا به، لقّموا المخزن وأشاروا البنادق عليه، وقف وسيم ورفع يديه وبدأ يقول بصوت مرتفع: “لا تخافوا، أنا جاي آخد معونة من جوا”، حدقوا به دون أن يفهموا ما يقوله، هذا ما يحصل عندما يحتلّك شخص لا يتقن لغتك. في تلك اللحظة لا يمكن تحديد من كان الخائف. هذا بالضبط ما يحدث بالداخل هنا، جميعنا خائفون ومستسلمون وحذرون، ننتظر شيء جديد حتى لو كان علبة مغلّفة لا نعرف محتواها.  

لا تزال طوابير المعونة تطول وتكبر في قريتي، ينتظرها الناس بفارغ الصبر، كلما ذاع خبر وصول معونات جديدة للبلدة، يركض الناس نحو المركز المسؤول عن توزيعها، يصطفون رتلاً للحصول على “كرتونة” تحوي بعض الأطعمة من النخب الثالث وربما أقل..

منذ بداية الحرب وانتشار موضة توزيع المعونات في سوريا، غالباً ما كانت تأتي شحنات المساعدات من قبل المنظمات الإنسانية كاليونيسيف والهلال الأحمر ومؤخراً من روسيا وغيرها من المنظمات أو الأفراد المغتربين والمقتدرين مادياً. تُسلَّم هذه المواد للبلديات المسؤولة عن كل منطقة، وتبقى في عهدتها حتى يتم توزيعها بعدل لأفراد المنطقة، وعندما تكون الكميات قليلة يتم تقسيمها بين الأكثر حاجة، لكن ماذا تعني اليوم هذه الحصص الصغيرة أمام كل هذا الجوع والفقر، كيف يمكننا تقسيم الطعام إن كان كل من في القرية جائع ومحتاج…!

الكرتونة من الداخل

بعد كل التوقعات والأحاديث والانتظار، تم توزيع الكراتين القادمة من روسيا على كافة المنازل (كرتونة لكل دفتر عائلة) الموجودة في القرية، وعلى غير العادة كانت الكراتين كبيرة وثقيلة وغير مسروقة، ربما لأن القوات الروسية حضرت أثناء التوزيع.

 احتوت الكرتونة الواحدة: ثلاثة أكياس صغيرة، يحوي كل منها ما يقارب الـ800 غرام من السكر والطحين الأبيض والرز سيء النوعية وأوقية من الشاي التالف، ولترين من الزيت النباتي الأبيض، والمفاجأة كانت 20 علبة متوسطة الحجم من النسلة (حليب مكثّف محلّى). لم يسبق أن أتت معونة ب 20 علبة نسلة سابقاً، هذه المادة شبه مفقودة في السوق ويصعب على المواطنين شرائها بسبب سعرها المرتفع، فكانت فرصة لكل من في القرية لإعادة المذاق الحلو لأجسادهم وذاكرتهم.

لا تقبل الكثير من العائلات أخذ حصصها من هذه المعونة والحبوب بسبب جودتها المنخفضة، كما أنها نوع من الذل، فهذه المواد في الخارج تستهلك لإطعام الحيوانات ليس أكثر حسب زعم البعض. 

تخلى البعض الآخر عن هذا المبدأ (الذل وطعام الحيوانات) عندما عَلِم بوجود علب النسلة، ثلاثة أيام كانت كفيلة لجعل رائحة الحلوى تفوح من منازل القرية، منهم من صنع الحلويات ووضع النسلة داخلها بدل الحليب في العجينة، ومنهم من أضافها فوق الأطعمة والفواكه، ومنهم من تناولها كما هي. بعض العائلات الفقيرة باعت بعض هذه العلب للمحال التجارية وسيارات الحلوى التي تجول في القرية كل فترة، واستبدلوها بأغراض أخرى أو بمقابل مادي. بعض القرى الأخرى رفضت استقبال المعونات وطردت من قام بإيصالها لأسباب سياسية.

 الغريب في الموضوع أنها ليست المرة الأولى التي تقوم فيها روسيا بالدخول لقريتنا وفرض سيطرتها العسكرية في الأرجاء، إذ أدخلت سابقاً كاميرات غريبة ومتطورة، يقال أنها تقوم بمسح طبوغرافية الأرض، خاصة أن قريتنا مرتفعة وتقع بين حدود حساسة ومكشوفة على قواعد أمريكية، كما تحوي الكثير من الآثار الرومانية في باطنها، فهل هذا تكتيك لاحتلال أكبر؟! 

لم يسبق أن أتت معونة ب 20 علبة نسلة سابقاً، هذه المادة شبه مفقودة في السوق ويصعب على المواطنين شرائها بسبب سعرها المرتفع، فكانت فرصة لكل من في القرية لإعادة المذاق الحلو لأجسادهم وذاكرتهم.

الناجي الوحيد الذي لم يتناول النسلة

انشغل جميع من حولي بالحصص الغذائية، بينما أنا  لم أستطع فهم كيف لروسيا أن ترسل هذه الكميات فجأة، لا أثق في هذه البلاد ولا بما ترسله لنا. لم أتذوق شيئاً من “الحليب المكثف”واكتفيت بمحاولة قراءة المكتوب على هذه المنتجات، لكن للأسف الكتابة باللغة الروسية ولا يمكن فهمها، ولا يوجد أي لغة أخرى على العلب والأكياس، ولا حتى أرقام، بل أن تاريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحيّة لم يكن مكتوباً.  تخيل أن تأكل شيئاً دون أن تعرف ما هو!.

استغرق الأمر وقتاً ليس بالقليل حتى استطعت ترجمة المكتوب عبر (بجوجل ترانزليت) لاكتشف أن بعض العلب منتهية الصلاحية ومنها ما هو على وشك الانتهاء. كثرة  علب الحليب المكثّف إذاً ليست مبادرة إنسانية، إنما صفقة لصرف المواد المكدّسة من المعامل الروسية، ذات الأمر مع الأرز الذي يحوي حشرات والشاي الغير صالح للشرب، لكن على رغم ذلك تبقى الحكومة الروسية الطف من حكومتنا السورية التي دفنت المواد الغذائية والمعونات الهائلة التي جاءت من دول العالم كالإمارات والهند والصين عبر مرفأ اللاذقية للمصابين بالزلزال الذي وقع في شمال سوريا 6 فبراير/ شباط الماضي بدلاً من توزيعها للمحتاجين.

اكتشف أهالي مدينة (عمريت) بريف طرطوس بعد أشهر من الكارثة وجود أطنان من المساعدات الغذائية الأممية (كالعدس والحمص والرز وحليب الأطفال والألعاب والأدوية) منتهية الصلاحية كونها  كانت مدفونة في مواقع متعددة بالمنطقة بسبب تخزينها لفترات طويلة، كتب على صناديق المساعدات المدفونة: (مساعدات مسلّمة للسلطة السورية من أجل الأهالي المنكوبين من الزلزال) بينما ما يزال هناك العديد من المتضررين دون منازل أو دعم غذائي أو أي مساعدة ليومنا هذا، لأن النظام السوري امتنع عن توزيع هذه المساعدات على المحتاجين. 

أن تدفن المساعدات يعني أنك تدفن الإنسانية معها، الكمية المكتشفة مثال صغير عن الأشياء الأكبر التي حُرمنا منها، فما هدف تجويع الشعب لهذا الحد؟، يذكرني هذا المشهد بالحلقة الأخيرة من المسلسل السوري الشهير “ضيعة ضايعة” عندما وجد أهل قرية (ام الطنافس الفوقا) عدد كبير من علب الطلاء المدفونة في أرضهم، وبعد استخراجها ودهن بيوتهن منها تسمموا جميعاً وماتوا بعد أن كان الدهان يحوي مادة كيمائية سامة.

في وجه الاشتهاء والجوع

يخبرني صديقي الذي يعمل في احدى الجمعيات التطوعية خلال كارثة الزلزال التي أصابت سوريا أنه وأثناء أداء مهامه في توزيع المساعدات والسلل الغذائية الآتية من بلاد الخارج، اشتهى أنواع كثيرة من الأطعمة التي لا نعرف عنها شيئاً: “أكلات ملونة ومعلبات أول مرة بشوفها.. تمنيت كون متضرر بالزلزال مشان ذوق منن!” 

اشتهاء هذه المعونات يعني الجوع، الرغبة في أن تكون متألماً ومصاباً مقابل أن تأكل أشياء لذيذة يعني أنك فقدت الكثير من ذاتك، ولم تعد قادر على التحمل، فماذا يعني الصبر أمام جوع السوريين. “هل أنت صائم؟” يسألني صديقي الملتزم دينياً محاولاً إقناعي بأن الصيام يجعلني أشعر بالمحتاجين، المشكلة ليست بالقناعات الذاتية لصديقي، ولا بعدم قدرتي على مجادلته، المشكلة أن صديقي هذا هو ذاته من اشتهى المعونات التي كان يوزعها.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.