fbpx

“أموت ونفسي بالحياة”…أهل غزّة ليسوا وقوداً للصمود و”المقاومة” فقط

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا أعلم إن كان يحق لي أن أتناول بهذا المقال شعوري، أجزم أن كل ما نشعر به لا يضاهي -لثانية واحدة- شعور طفل يسكن في غزة تحت القصف، أعلم أن الحزن عمل شاق وعميق، لكنه لا شيء مبرر مقابل المجزرة التي لا تنقطع حبالها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صفاء، أحد أقاربي، الذي كاد أن يخسر حياته بسبب هجوم انتحاري في العراق في مرحلة ما بعد ٢٠٠٣، بقي صامتا بعد الحادث لأكثر من ستة أشهر، لا يفعل شيئا.

نجا صفاء بأعجوبة بعد أن احتضن الانتحاري وتحمل عناء إجراء أكثر من خمسين عملية لإعادة لحمه إلى جسده.

ظلّ صامتاً على الرغم من أن والدته تقيم له حفلاً عراقياً شعبياً كل يوم، حيث تعلوا الزغاريد وأصوات الطبول ورقص أطفال في الحي. عشرات الضيوف والاحتفالات المستمرة بالبطل الذي أنقذ الآخرين، وإن انتهى جسده كلياً.  يبتسم متأملاً إياهم ولا يتحدث، إلى أن انفجر صارخاً في إحدى الحفلات: “دعوني أعيش حزني لخسارتي جسدي”.

لم يتحمل صفاء الضغط الذي مورس عليه فقط لأنه احتضن الارهابي وساهم بانقاذ زملائه، ولم يستوعب انه اصبح بطلاً وعليه أن يعيش مع هذه الفكرة وأن ينسى -ولو للحظة- انه انسان فقد أذنه، وأصابعه التحمت من شدة الانفجار. 

هو  بحاجة للحزن واستيعاب ما جرى -على الاقل- ثم العودة إلى حياته تدريجياً.

المحزن ان صفاء ترك العراق. قبل سفره سألته والدته إذا ما كان سبب هجرته هو الضغوط التي مارسَتْها عليه، أجابها قائلاً :” سمعت الانتحاري يقول كلمة تتداولونها بينكم، كلمة تسبب لي الكوابيس بشكل لا يطاق، انت احتفلتي بي كبطل، ولم  تسأليني -لمرة- كيف أشعر؟” 

متى يقرر عقلك الانهيار؟ 

لا اعلم ان كان يحق لي أن أتناول بهذا المقال شعوري، أجزم أن كل ما نشعر به لا يضاهي -لثانية واحدة- شعور طفل يسكن في غزة تحت القصف، أعلم أن الحزن مخاض شاق وعميق، لكنه لا شيء مقابل المجزرة التي لا تنقطع حبالها. 

أتصفح الفيديوهات الواردة من غزة وأشعر بالذنب إن تركت فيديو واحد دون أن أراه.  

صادفني فيديو لطالب، كان واضحاً عليه الخيبة الكبيرة وهو يقول أن قوات الاحتلال الاسرائيلي منعت عنه كُتب تاريخ فلسطين، وحرمته الدخول إلى المدرسة. يتحدث مُتألما وعيناه تحملان أذى العالم كله، يقول: “لم أفعل شيئا وأخذوا كتابي !”

انهرت ووقعت ابكي مثل طفل. تقول لي أختي أن هذا المشهد لا شيء مقارنة بالدماء المتناثرة. وهذه الكارثة، هذه المصيبة، اعتدنا أن نرى الفلسطينيّ مُقطعاُ إلى أوصال حتى نشعر أن المشهد يستحق البكاء. أخبرتني أيضاً أن مشهد سحب المنهج الدراسي والمستقبل من طالب بطريقة تكسر القلب، هو لا شيء. فالمأساة أن كل شيء أضحى طبيعيا، إلى حد يُجبر الغزيّون على عيش تجربة كل المشاعر في ذات اللحظة، حتى تصبح كلها بمستوى واحد. 

ترند تجميل الموت 

أكمل البحث عن لحظة أمل واحدة، بعد نصف ساعة من فيديو الطالب فقط، لمحت صورة لخراب يحيط بعائلة تبتسم، كان المستفز هو المكتوب في وصفها، لا الصورة المعدلة بالذكاء الاصطناعي والتي ترسم بطابع خيالي وغير منطقي أو مألوف، شكلاً لعائلة فلسطينية سعيدة وسط منزلها المهدم. كانت العبارات تحتفي بشجاعة الفلسطينيين وقدرتهم على الضحك أمام حملين ثقيلين هما الموت والتهجير.

أدرك  أن ما يعيشُه الفلسطينيون أمام غول القصف شجاعة لا حاجة للنقاش حولها، لكن هذا المنشور تحديداً أعدت قراءته مرات لفهم شيء آخر، شيء آراه محاولة  تسطيح وتسخيف ما يحدث. لم أر سوى ضغط مجتمعي هائل على شعب  في الأساس يعاني ضغوطاً أقسى. حاولت كثيراً صرف النظر عن ذلك المنشور واعتباره “فردياً” ويعبر عن “خيالات مؤلفه”، لكن يؤسفني القول أنه لم يكن الوحيد، بل امتدت الفكرة وتوسعت وأصبح الحديث بالنيابة عن مشاعر أهل غزة، تريندًا يحظى بالإعجاب. 

يمكنك عزيزي القارئ تخيل كل الطرق التي من خلالها يتم التعامل مع “الإبادة” أثناء حصولها، إلا تصديق تلك التي تجعلها نكتة وشيئاً طبيعياً تسهل مقاومته والتصدي له، لأنها ليست كذلك.

 محاولات تقويض المجازر وتصدير قاعدة تقبُلها بروح رياضية وضحكات من قبل جمهور المصفقين لـ”بطولات” الفلسطينيين، ليست سوى إيديولوجية كلاسيكية تربى عليها البعض، حتى ظن أن حياة الناس ليست ذات أهمية ومن السهولة قتلها في سبيل القضايا العظمى.

 يحاول صاحب أحد المنشورات، الاستظراف في هذا الوقت الذي شبهه بلحظة الوقوع في النار، قائلاً أن أطفال غزة الآن يتناولون المكسرات بانتظار الدخول البري لجيش الاحتلال كي يفتكوا بهم. أحاول أن أبرر بيني وبين نفسي  بأن هذا الكلام قد يكون عفوياً ويراد له أن يكون داعماً ومؤيدًا لفكرة المقاومة، لكني أعتقد أن المؤيدين في التعليقات لهذا المنشور السمج، لم يفكروا جيداً، أنه من الممكن أن تكون نتائج هذا الترويج عكسيّة، بل يمكن أن تصب في صالح الجانب الاسرائيلي، والذي يود حقا تصيد اللحظات وسحبها لمصلحته.

ألن تخدم الجيش الإسرائيليّ رواية “نعيش بسخرية تحت القصف”؟ ألن تشوه حقيقة وجود قصف وحشي وجثثٌ لأطفال لم تستخرج حتى اللحظة من تحت منازلها المدمّرة؟ 

 إحدى الصديقات التي تنقطع يوماً أو اثنين عن نشر ما تراه في غزة، تقول أنها تتعرض لضغط مُبكي، فما إن يعود الإنترنت، حتى تصلها الرسائل: “لمَ لمْ تنشري شيء اليوم؟ انشري، استمري، أنتِ قوية، عليك تشجيع أبناء بلدك على المقاومة، حقيقةً أريد أن أجد مكاناً لأبكي فيه، لكني لا أستطيع، أنا مُضطرةٌ لتلبية ما يريدون”.

الضغط المجتمعي اللانهائي 

فيديو آخر كان بعنوان “outfit الحرب”، يعلم فيه صانع المحتوى الفلسطينيين ماذا عليهم أن يرتدوا حينما يدخل الجيش الإسرائيليّ إلى غزة. في فيديو آخر  نشاهد مؤثرةً تصف كيف أن الأطفال الفلسطينيين يستقبلون الموت ويحضرون له من خلال لعبهم لعبة “تشييع رضيع”.

المؤثرة مُنبهرة بكيفية استقبال الأطفال الفلسطينيين للموت، لكن هذا النوع من “التعليقات” يسطح المأساة القادمة، ألا يكفي الموت اليومي الذي يشهده أهل غزة، والآن نقرر نيابة عنهم كيف يتعاملون مع الإبادة وما يتصرفون مع القتل المجاني بحقهم !.

أن يتم اضافة طابع سطحي للمجزرة وجعلها أمر بديهي مثل شرب الماء، شأن لا يمكن تجاهله، خصوصاً  أن صوت قذيفة “واحدة” يبقى لأيام يتردد في أذن سامعه،  وتكوينات الخراب تلاحق من عاشها  كل حياته، ما يخلق في روح الضحيّة كل صدمات الأرض ومشاكلها، ألا يكفي هذا !. لكن أن تنتهي بعض المنشورات بادعاء عكس ما يعيش أهل غزة من حصار وقصف أو التخفيف من وطأته لأجل ملاحقة الـ”تريند” فشأن قد يطبّع المقتلة، ويحول “الإبادة” إلى شأن يومي.

أولئك الذين يريدون “الانتصار جاهزاً”

هذه الفيديوهات والمنشورات التي تضفي طابع الفكاهة بحجة “الدعم والتذكير بقوة الفلسطيني المقاوم”، ما هي سوى اندفاع يرافقه قِلة وعي، لكن ما يثير الحنق حقاً، هو ذاك الذي يحرض على استمرار الإبادة بتبني فكرة “المقاومة” وتحريض أهل غزة على رفض إيقاف ما يحصل، والاستمرار بالصد. لكن من يصدُ الصواريخ؟ الأطفال؟.

 لم افهم ما يعني أن يُحمّل البعض أكثر من مليوني فلسطيني مسؤولية تحرير فلسطين وحدهم؟ وتحمل القصف ومواجهة الضرب الوحشي، وتحمل ما يجري لهم من مجازر، فقط ليشعر أصحاب بعض المنشورات بنشوة الانتصار، يكتب أحدهم “حتى وإن طلب الاحتلال هدنة، الصواب أن نرفض” بينما يجلس في ڤيلا محصنة ببلد بعيد.

هذه الشريحة، توهم نفسها ولو بصورة غير واعية، بضرورة استمرار المجزرة، على أمل الشعور بنشوة تحرير فلسطين عبر “التضحية” بسكان غزة وعلى حسابهم، بعبارات ومنشورات تفوق طاقة سكان غزة ووضعهم النفسي الحالي.

هذه أنانية كبيرة وضغط من أشخاص لا يعرفون معنى الحرب، يتعاملون مع صور ومشاهد المذابح بعبارات مطاطية، لا تدرك الكارثة، وتحرّض على استمرار “التحمل” والمقاومة، وكأن ما يحصل مباراة كرة قدم، لا حقيقة أن هناك عائلات تمحى من السجل المدني.

 تحميل سكان غزة ما لا طاقة لهم عليه، بل ما لا طاقة لأحد عليه، وإضفاء عبارات تنمية بشرية وسط الجثث، ليست سوى نتاج أيدولوجيا تربى عليها البعض، من الذين قضوا كل حياتهم  ينتظرون تحرير فلسطين دون النظر في واقع ما يحدث. كلنا نتمنى التحرير لكن ماذا نفعل بأولئك الذين يمكن وصفهم بأنهم إما عميان أيديولوجين، أو لم يتخلصوا من رواسب الشعارات الكاذبة التي رددوها لسنين. أولئك الذين يرون ما يحصل الآن  وكأنه الفرصة الأنسب والاخيرة، بالتالي لابد من الضغط وطلب الصبر والمقاومة، لماذا ؟، لا لرد لموت عن أهل غزة بل في محاولة لتحقيق  “حلم أبدي” بالانتصار، لكن هل يحقق الحلم على حساب سكان قطاع محاصر منذ 17 عاما ؟.

 هل ندرك أننا نتعامل مع أهل غزة وكأنهم مُجردين من مشاعرهم ؟ ألا يدرك البعض أننا ربما نحرمهم حقهم بالحداد وعيش حزنهم؟ إحدى الصديقات التي تنقطع يوماً أو يومين عن نشر ما تراه في غزة، تقول أنها تتعرض لضغط مبكي، فما إن يعود الإنترنت، حتى تصلها الرسائل: “لم لم تنشري شيئا اليوم؟ 

انشري، استمري، انت قوية، عليك تشجيع أبناء بلدك على المقاومة، لكني حقيقةً أريد أن أجد مكاناً لأبكي فيه، ولا أستطيع، أنا مُضطرةٌ لتلبية ما يريدون”. 

“نفسي بالحياة “

في خضم هذا الصراع المعقد، والافكار التي تراودني حول كيفية منح الصلاحية لأنفسنا، بتقرير ما يحتاج أن يشعر به سكان غزة، وشعوري كناجية من حرب حول إمكانية التعامل مع حزني بهذا الاستخفاف، أردد، أنهم هم من يقررون، وحدهم يقررون إن أرادوا القتال، أو الضحك من  الخراب، أو البكاء والنحيب.

ألمح منشوراً لفتاة كتبت:”إن مت فاعلموا أني لم أكن أنوي الموت أو الاستشهاد، ولن أكون سعيدة بذلك، اعلموا أني قد أموت ونفسي بالحياة”. اقرأ حروفها القادمة إلينا من غزة، وأرى أنها الحقيقة، حقهم أن يقولوا ما يشعرون دون ضغط. 

أنا -لئلا اعيش الاتهام- لا أقول في مقالي هذا، لا تقاوموا، أعرف كيف يتم تحريف المفردات هذه الفترة، لكن أعتقد، أنه من غير الممكن أبدا، الاستخفاف بفكرة الإبادة واعتبارها شأناً عادياً أو جزء من درب “المقاومة”، كل ما أحاول قوله لا تُحمّلوا الناس ما يفوق طاقتهم، وامنحوهم حقهم بالنحيب والحداد.

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.