fbpx

“أسرار قبرص”: كيف تحولت الجزيرة الأوروبيّة إلى جنة لأموال روسيّة مشبوهة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
ICIJ

تكشف “أسرار قبرص” كيف تحولت الجزيرة الأوروبية المتوسطّية، ونظامها البنكي إلى ملاذ للأموال الروسية المشبوهة، في محاولة لتفادي العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا منذ بداية الحرب على أوكرانيا. إذ نجح “النموذج القبرصي” في تسهيل نقل الأموال الأوليغارشية المشبوهة التي ساهمت في تمويل آلة الحرب الروسيّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دين ستاركمان: محرر رئيسي في ICIJ

زار اثنان من كبار المسؤولين في أحد أكبر البنوك في قبرص عام 2014  بنك “آر سي بي” (RCB Bank)، كونستانتينوس بيتريدس، وهو من كبار مساعدي رئيس البلاد. لم يكونوا هناك للحديث عن الخدمات المصرفية، بل، وفقاً لتحقيق أجرته الحكومة القبرصية، ضغط المسؤولان على بيتريدس للموافقة على طلب الجنسية لمواطن روسي قال إنه يخضع لعقوبات من الاتحاد الأوروبي. رفض بيتريدس الطلب، وأصبح الاجتماع مشحوناً.

 قال بيتريدس للمحققين: “كاد أحدهم أن يتهمني بأنني خائن وأنني أضر بالعلاقات بين قبرص وروسيا لأنني لم أرغب في الموافقة على طلب منح الجنسية لشخص”.

لم يذكر التقرير، الذي حصل عليه “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد OCCRP” اسم المواطن الروسي أو ما الذي حدث للطلب أو سبب أهميته بالنسبة لهم. بيد أن الطلب كان جزءاً من برنامج “التأشيرة الذهبية” الذي فقد مصداقيته الآن، والذي تمكن بموجبه 2869 مواطناً روسياً من الحصول على جنسية الاتحاد الأوروبي، ومن شأنه أن يحقق في النهاية نحو 7 مليار دولار للدولة الصغيرة، فضلاً عن زيادة الودائع لدى بنك “آر سي بي” وغيره من البنوك القبرصية الرئيسية قبل أن تتضخم وتتحول إلى فضيحة أوروبية كبرى.

تجمع بين بنك “آر سي بي” وإدارته ومساهميه علاقات طويلة الأمد مع الكرملين. في الواقع، أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه ذات مرة – عن طريق الخطأ – إلى بنك “آر سي بي” على أنه “فرع” لبنك “فنيشتورجبانك” الذي يسيطر عليه الكرملين، والمعروف اختصاراً باسم بنك “في تي بي”، في ذلك الوقت بوصفه مجرد مساهم رئيسي. بالنسبة لقبرص، لم تكن هذه العلاقات غير عادية على الإطلاق: فقد كان أحد الأوليغارشية الروس رئيس مجلس إدارة أكبر بنك في البلاد، بنك قبرص، وكان نائب رئيس مجلس إدارته من عام 2013 إلى عام 2015 أحد زملاء بوتين السابقين في الاستخبارات السوفيتية “كي جي بي” في لينينغراد. وسرعان ما تورطت ثلاثة من أكبر أربعة بنوك في فضائح غسل أموال مرتبطة بالكرملين.

على الرغم من ذلك، كان للبنوك الكبرى بيانات اعتماد أكثر أهمية، وهي التي ربطتها مباشرة بعالم التمويل الغربي: فقد كانت جميعها مرخصة وتحت إشراف مباشر من قبل البنك المركزي الأوروبي، الهيئة المصرفية القوية ومقرها فرانكفورت في ألمانيا، والتي تسيطر على منطقة اليورو.

لسنوات، كان بنك “آر سي بي”، المعروف سابقاً باسم البنك التجاري الروسي، من بين “البنوك ذات الأهمية النظامية” للبنك المركزي الأوروبي، وهو الوضع الذي ساعده، كما يقول المحللون، على توسيع قاعدة عملائه في قبرص. ثم في فبراير/شباط 2022، غزت روسيا أوكرانيا. وبعد شهر، أعلن قسم الرقابة المصرفية في البنك المركزي الأوروبي عن “قرارات” للمساعدة في تسوية الأوضاع في بنك “آر سي بي”، الذي قرر فجأة الخروج من العمل المصرفي، على الرغم من السيولة “الوفيرة” ورأس المال.

بيد أن بنك “آر سي بي” لم يكن سوى جزء واحد مما أصبح يُعرف باسم “نموذج قبرص”، وهو نظام بنكي عملاق لنقل الثروة الروسية إلى الغرب عبر قبرص، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي،  والتي يشرف على نظامها المصرفي البنك المركزي الأوروبي. ووفقاً لمركز دراسات الديمقراطية في العاصمة البلغارية صوفيا، “استثمر” الروس أكثر من 200 مليار دولار في قبرص حتى عام 2020، وهو ما يشكل نصف استثمار روسيا في أوروبا وأكثر من استثمارها في ألمانيا والمملكة المتحدة وإسبانيا وسويسرا والنمسا مجتمعة. ونظرياً، على الأقل، كانت الجزيرة، التي يبلغ عدد سكانها 1.3 مليون نسمة، من بين أكبر المستثمرين في العالم في روسيا. وفي مرحلة ما، كانت حوالي 300 شركة مملوكة لروسيا تعادل 80% من ثروة قبرص، التي تعرف باسم “موسكو على البحر الأبيض المتوسط”.

كان تدفق الأموال الروسية بمثابة طفرة بالنسبة لقطاع قبرص القوي من المصرفيين، ومقدمي الخدمات الخارجية، وشركات المحاسبة مثل شركة “برايس ووتر هاوس كوبرز”، وغيرها من الشركات الأربع الكبرى، وجيش يضم 4000 محام – كلهم متداخلين بعمق مع الطبقة السياسية القبرصية التي أسست واحدة من أكثر أنظمة سرية الشركات صرامةً في أوروبا وحولت البنك المركزي القبرصي إلى حامي للنظام بدلاً من مراقبته.

ما مدى تداخلها؟ منذ عام 2013 حتى هذا العام، شغل نيكوس أناستاسيادس، مؤسس شركة خدمات خارجية كبرى، منصب رئيس قبرص. وكشف تحقيق أجرته مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد عام 2019 أن شركاءه في شركة المحاماة عملوا مسؤولين في شركات وهمية مرتبطة بعمليات غسل أموال ضخمة مشبوهة، بما في ذلك صفقات مرتبطة بحلفاء بوتين تمت قبل تولي أناستاسيادس منصبه. (صرحت  منظّمة OCCRP أن وثائقها لا تتضمن أي دليل محدد على أن الشركة أو موظفي الشركة انتهكوا أي قوانين أو ارتكبوا أي جرائم. وأعربت الشركة في بيان للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، جاء فيه: “نود بشكل قاطع أن نعلن أنه لم يتورط أي من أعضاء مكتب المحاماة لدينا في أي مخالفة. وهذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة على الإطلاق ولا تقوم على أسس موضوعية”. وأضافت الشركة أنه في أعقاب صدور تقرير مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد، أجرت وكالة مكافحة غسل الأموال القبرصية “تحقيقاً شاملاً، تضمن فحصاً دقيقاً وتحليلاً للبيانات المقدمة إليها”، وأصدرت تقريراً عام 2019، يبرئ شركتنا بالكامل ويؤكد أنه لا توجد مؤشرات على أي تورط في أنشطة غير قانونية أو مشبوهة”. 

“نموذج قبرص”، وهو نظام بنكي عملاق لنقل الثروة الروسية إلى الغرب عبر قبرص، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي،  والتي يشرف على نظامها المصرفي البنك المركزي الأوروبي.

كجزء من رسالة من سبع صفحات إلى ICIJ، أكد أناستاسياديس أنه لم يكن لديه “أي تورط على الإطلاق” في الشركة منذ عام 1997، وقد قام بتحويل كل حصصه إلى ابنتيه عند توليه المنصب في عام 2013. وأشار أيضًا إلى أن مكاتب الشركة تقع في ليماسول، في حين يكون مقر الحزب السياسي الذي رأسه في نيقوسيا.

يصف المحللون نموذج قبرص بأنه القلب النابض لنظام التداول المالي في عهد بوتين، إذ إنه يضخ الأصول الروسية إما لحفظها في الغرب في صورة أصول مالية، أو يخوت، أو عقارات فاخرة، أو إعادة استثمارها في روسيا بهدف السيطرة المتزايدة باستمرار على الاقتصاد الروسي، أو تكديسها لتقويض وإفساد المؤسسات الديمقراطية في الغرب.

وحتى مع تقديم الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين وشركائه من المنصات الإعلامية اكتشافات جديدة توضح بالتفصيل كيف ساعد نموذج قبرص في تمويل نظام بوتين، تظل هناك حقيقة لا مفر منها: وهي أنه النموذج المنتشر داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، بالرغم من إشراف البنك المركزي الأوروبي مباشرة على البنوك الكبرى في قبرص. والآن أصبح من الواضح كيف حدث هذا. ما ليس واضحاً هو لماذا سُمح بحدوث مثل هذا الأمر على مرأى من الجميع.

هيمنة جديدة

يرجع تاريخ التحالف بين روسيا وقبرص إلى قرون مضت، استناداً إلى المسيحية الأرثوذكسية المنتشرة في البلدين، وخلال الحقبة السوفيتية عملت الروابط الوثيقة بين أحزابهما الشيوعية وبرامج التبادل التعليمي والثقافي النشطة على تعزيز العلاقات بين المجتمعين. في الخمسينيات، ضغط الاتحاد السوفياتي  من أجل استقلال قبرص عن الحكم الاستعماري البريطاني بالرغم من معارضة واشنطن. وبعد حصول قبرص على استقلالها عام 1960، قدم الكرملين غطاءً سياسياً عندما قام السياسيون اليونانيون القبرصيون، بعد ثلاث سنوات، بخرق اتفاق لتقاسم السلطة مع الجالية التركية في الجزيرة، وجعل السلطة المركزية في القطاع التنفيذي.

أدى غزو تركيا واحتلالها للمنطقة الشمالية من الجزيرة في عام 1974 إلى تشريد 200 ألف شخص، معظمهم من القبارصة اليونانيين، مما أثار إدانة عالمية؛ واستغل الكرملين الصدمة الوطنية في قبرص للإيقاع بين عضوين في حلف شمال الأطلسي، وهما اليونان وتركيا. ومنذ الثمانينيات، وقَّعت روسيا وقبرص أكثر من 50 معاهدة وبروتوكولاً ومذكرة تفاهم. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر/كانون الأول 1991، كانت قبرص من بين الدول القليلة التي يمكن للروس السفر إليها دون تأشيرة.

كانت قبرص، التي تتمتع بمناخ عالمي وسط مناظر طبيعية ساحرة على البحر الأبيض المتوسط، مقصداً سهلاً وجذاباً للثروة الروسية أثناء فترة الانتقال المضطربة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي. ومع تدفق الأموال الروسية إلى البنوك القبرصية، ازدهر على نحو متزايد قطاع من المحامين والمصرفيين وشركات المحاسبة القبرصية مثل PwC ومخططي الضرائب ومديري الاستثمار للتعامل معها – بفضل اللوائح المصرفية المتساهلة التي لم تطرح سوى أسئلة قليلة حول مصدر الأموال وقوانين السرية السيئة السمعة التي منعت السلطات الأجنبية (أو أي شخص آخر) من معرفة المالكين الحقيقيين للشركات المسجلة في قبرص وأصحاب الحسابات.

وحين انضمت قبرص إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، كانت الهيمنة الاقتصادية الروسية مسيطرة بالفعل على الجزيرة، وكان برنامج “التأشيرة الذهبية” سبباً في تعزيز هذه الهيمنة ونجاحها إلى أقصى حد. فقد بدأ عام 2007 وتوسع في عام 2013، وحقق طفرة في قطاعي العقارات والإقراض، وعائدات مالية كبيرة لشركات المحاماة، بما في ذلك تلك التي أسسها أناستاسيادس، مما أدى إلى تضخم النظام المصرفي.

قال مارتن فلاديميروف، المحلل في مركز دراسات الديمقراطية، للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، “في الواقع، غضت قبرص النظر أمام مليارات [الدولارات] من الودائع من الأصول الغامضة،” مشيراً إلى ضعف إنفاذ القانون بوصفه عنصراً أساسياً للنموذج. وأضاف، “لديك كافة القواعد في العالم، ولكن بالنسبة لكبار [العملاء]، فإنك تعقد صفقة مباشرة مع مدير البنك – وهم يعلمون ذلك”.

وهذا ما فعلوه. وبحلول عام 2012، تضخم النظام المصرفي في قبرص ليصل إلى 400% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهو من بين أعلى المعدلات في العالم.

سيطرة الكرملين

في يناير/كانون الثاني 2013، سافرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى ليماسول في قبرص، لحضور اجتماع لحزب الشعب الأوروبي، وهو ائتلاف مؤيد للأعمال التجارية ينتمي ليمين الوسط والذي عادةً ما يحظى بحصة رائدة في البرلمان الأوروبي. وهناك صافحت أناستاسيادس، وهو أحد زعماء حزب الشعب الأوروبي، وكان متقدماً آنذاك في الانتخابات ليصبح الرئيس التالي لقبرص. رمزت هذه المصافحة إلى تحالف سياسي قوي؛ فقد كانت كلا الدولتين تشجعان بفاعلية على التجارة مع روسيا.

جاء ذلك اللقاء في لحظة خطيرة لقبرص – وأيضاً لأوروبا. فقد اجتاحت الأزمة المالية التي عصفت باليونان ودول منطقة اليورو الأخرى البنوك الهشة في قبرص، المتضخمة بالسندات اليونانية والقروض العقارية المعدومة. وهددت خسائر البنوك الضخمة بإفلاس البلاد، مما أجبر قبرص على التقدم بطلب للحصول على مساعدة مالية من البنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، والهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي؛ وصندوق النقد الدولي – المعروف باسم “الترويكا”.

لكن كانت هناك مشكلة: لم تكن المصارف القبرصية تُعد مجازِفة وضعيفة الرقابة فحسب، بل كانت مكتظة بالأموال الروسية – 31 مليار دولار، وهو رقم أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لقبرص. وكان معظمها مملوك لغير المقيمين، ويُعتقد أن الكثير منها أموال مشبوهة. وبوصفها القوة الاقتصادية المهيمنة في أوروبا، فسوف تتحمل ألمانيا النصيب الأكبر من أي قرار إنقاذ.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وقبل شهرين من اجتماع قبرص، أعلنت صحيفة Der Spiegel تحت عنوان “مساعدات الاتحاد الأوروبي لقبرص حقل ألغام سياسي لميركل”، مضيفةً في العنوان الفرعي: “إنقاذ الأوليغارشية”. تضمن الخبر الصحفي تقريراً مسرباً من جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني يشير إلى أن المستفيدين الرئيسيين من خطة إنقاذ منطقة اليورو لقبرص هم الأوليغارشية الروس ورجال الأعمال والمافيا.

أدى كشف أن الجهات التنظيمية في المصارف القبرصية وأجهزة إنفاذ القانون تعمل لصالح الكرملين إلى تفاقم الضغوط. ففي إحدى الحالات، رفضت الجهات التنظيمية التحقيق في احتيال ضريبي روسي بلغت قيمته 230 مليون دولار، وكانت نسبة كبيرة منه قد غُسلت عن طريق البنوك القبرصية. عرفت هذه القضية بفضيحة ماغنيتسكي، على اسم سيرغي ماغنيتسكي – المحامي المقيم في موسكو لشركة استثمار أميركية، والذي تعرض للضرب حتى الموت في سجن روسي بعد الكشف عن الاحتيال – وأصبحت القضية قضية عالمية مشهورة وشجعت على إقرار قانون مكافحة الفساد الأميركي التاريخي في العام التالي المسمى “قانون ماغنيتسكي”.

قالت صحيفة “فاينانشيال بوست” الكندية في عنوان رئيسي صدر في مارس/آذار 2013، “سيرغي ماغنيتسكي كشف النقاب عن عمليات غسل الأموال من روسيا إلى قبرص، وانظروا ما حدث له”.

أطلق بيل براودر، الناشط في مجال مكافحة الفساد الذي يدير شركة “هيرميتاج كابيتال مانجمنت”، الشركة الأميركية التي وظفت ماغنيتسكي، حملة دعائية للمطالبة بأن تتضمن أي حزمة إنقاذ لقبرص إجراء تحقيق في احتيال ماغنيتسكي، وضبط سلوك الدولة فيما يتعلق بإغفال عمليات غسل الأموال.

قال براودر في مقابلة مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، “صرخت بصوت عال في جميع أنحاء أوروبا تنديداً بعملية القتل الدموي”.

بيد أن الإصلاحات كانت بعيدة المنال. فقد رفض البرلمان القبرصي خطة تقشف أولية، كان من شأنها أن تؤثر على صغار المودعين ولكنها تنطوي أيضاً على تنازلات كبيرة لصالح بنك “آر سي بي”. جاء الرفض وسط ضغوط شديدة من موسكو ، وفقاً لما ذكره رئيس البرلمان السابق.

في عام 2014، قال رئيس البرلمان السابق، ماريوس كارويان، وفقاً لتقرير نشرته جريدة “قبرص ميل” بعد عام، “إن القيادة الروسية العليا تأكدت من إيصال رسالة مفادها أننا لو لمسنا بنك “آر سي بي”، سنرى رد فعل لم نشهد له مثيل من قبل”.  مضيفاً، “لقد كانت رسالة واضحة تماماً لنا جميعاً”.

وفي النهاية، قبلت حكومة أناستاسيادس الجديدة حزمة مساعدات بقيمة 13 مليار دولار فرضتها عليها “الترويكا”، بهدف خفض التكاليف التي تتحملها الحكومات، وصادرت الودائع الكبيرة وحولتها إلى أسهم. وكانت إحدى نتائج ما يسمى بعملية الإنقاذ الداخلية: تحول المودعون الروس الكبار إلى بعض أكبر المساهمين في أكبر بنك في قبرص.

وبدلاً من إجراء إصلاحات، قامت حكومة أناستاسيادس بالسعي لفرض سيطرتها السياسية على البنك المركزي القبرصي، وهو الهيئة التنظيمية الرئيسية للمصارف في البلاد وسلطة مكافحة غسل الأموال. بدأت الحكومة بسلسلة من الهجمات السياسية على حاكم المصرف المركزي، بانيكوس ديميتريادس، وهو أستاذ اقتصاد في المملكة المتحدة عينته الحكومة السابقة. ثم أعقب ذلك تشريع يقضي بفرض السيطرة الإدارية على البنك المركزي ذاته، ونقل سلطة منح تراخيص البنوك وغير ذلك من الإجراءات الهامة من المحافظ إلى عضوين في مجلس الإدارة معينين من قبل الحكومة. وعلى غير العادة، حصل هؤلاء “المديرين التنفيذيين” الجدد على سلطة الإدارة إلى جانب الحاكم. وقد صاغ ديميتريادس مصطلح “المفوضين” لوصف المسئولين الجدد.

أثارت هذه التغييرات الارتباك بين الموظفين، وظهر العديد منهم في مكتب ديميتريادس وهم يبكون. قال ديميتريادس في مقابلة مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، “كان الموظفون خائفين من [أعضاء مجلس الإدارة الجدد]”، وأضاف، “إنهم لم يعرفوا إلى صالح من يعملون”.

خالفت هذه التشريعات معاهدة ماستريخت لعام 1992، وهي الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي،  وكرست استقلال البنوك المركزية بوصفه التزاماً رئيسياً للدول الأعضاء. كتب ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي آنذاك، رسالة احتجاج على الهجمات الحكومية على ديميتريادس وطالب فيها المفوضية الأوروبية باتخاذ “كافة الإجراءات الضرورية” لإجبار قبرص على حماية استقلال مصرفها المركزي.

وكتب دراغي: “إن ذلك يثير مخاوف خطيرة بشأن حماية الاستقلال الشخصي للسيد ديميتريادس، ليس فقط كحاكم للبنك المركزي القبرصي، ولكن أيضاً كعضو في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي”. وأطلق البنك المركزي الأوروبي آراء قانونية غاضبة.

وفي الوقت نفسه، قام النائب العام في قبرص بفتح تحقيق في حق ديميترياديس عقب تسريب وثائق سرية حول انتهاكات مزعومة في عقد مع بنك قبرص المركزي مع شركة  ألفاريز آند مارسال، وهي شركة إعادة هيكلة كبيرة في وول ستريت، معروفة باسم “A&M”، لإدارة الأزمة المالية. لعبت ألفاريز آند مارسال دورًا رئيسيًا في حل أزمة انهيار ليمان براذرز خلال أزمة عام 2008.

صدرت التشريعات المدعومة من أناستاسيادس، ولم تتحرك المفوضية الأوروبية. وواجه المصرف المركزي القبرصي ضغوطاً متزايدةً.

انفجار السيل الجارف

بحلول سبتمبر/أيلول 2013، تحول المودعون الروس المنتمون إلى حكومة الأوليغارشية في بنك قبرص إلى مساهمين رئيسيين، وكان البنك على وشك انتخاب مجلس إدارة جديد، في وقتٍ وصلت فيه هجمات الحكومة على ديميتريادس إلى ذروتها. ومع انهيار الاقتصاد وخروج المظاهرات في الشوارع، تعرض ديميتريادس لتهديدات بالقتل، صاحبتها تغطية إعلامية لاذعة ودعوات شبه يومية من البرلمان للإطاحة به.

في تلك اللحظة تلقى ديميتريادس مكالمة هاتفية من أناستاسياديس.

في مذكراته من عام 2017، كتب ديميترياديس أن المحادثة جرت بشكل ودي حتى ضغط عليه الرئيس بشأن انتخابات مجلس إدارة بنك قبرص الوشيكة إذ أراد أناستاسياديس أن يوافق الحاكم على قائمة المرشحين المفضلة لديه، والتي تضمنت نائب الرئيس الذي عمل مع بوتين في الاستخبارات السوفيتية (كيه جي بي) في لينينغراد وخمسة روس آخرين.

وبحسب رواية ديميترياديس قال أناستاسياديس: “آمل ألا ترفض قائمة المرشحين المطروحة”.

استشاط الرئيس غضباً عند اعتراض المصرفي وقال: “احذرني، لأنني سأتحدث عنك على الملأ!” وغضب الرئيس، بحسب رواية حاكم البنك المركزي؛ “لن أتوقف. لا أحد يفوز دون رغبتي”.

وفي نهاية المطاف، أدت عملية الإنقاذ – عن غير قصد – إلى نقل السلطة إلى المساهمين الروس الجدد.

يقول ديميتريادس: “يا لها من مزحة: ما كان من المفترض أن تكون محاولة جادة لإخراج الروس، انتهت بتسليمهم مقاليد السلطة في البنك”.

استقال ديميتريادس في مارس/آذار 2014، وفي الشهر التالي، بدأ الغزو الروسي لضم شبه جزيرة القرم، مما أثار احتجاجات عالمية وموجة من العقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد المؤسسات الروسية.

وفي رسالة إلى الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، قال أناستاسيادس إن أسئلة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين تشير إلى “ادعاءات أبعد ما تكون عن الواقع وتستند إلى معلومات مغلوطة تعمد نقلها إليك الحاكم السابق للبنك المركزي القبرصي أو نشرها في مقتطفات من كتابه”. وقال إنه ينوي تقديم دحض كامل لتلك الادعاءات، وسوف تُحدّث هذه المقالة لتتضمن ذلك.

في رسالة إلى ICIJ، قال أناستاسياديس إن الارتفاع الرئيسي في التأثير المالي الروسي حدث قبل عام 2010، وأن إدارته شهدت انخفاضًا حادًا في الودائع التي تمتلكها رجال الأعمال والأفراد الروس، من ذروتها في عام 2013 بنسبة 40٪، إلى 2.2٪ بحلول نهاية عام 2022. وتضمن ذلك تعليق أكثر من 43،000 شركة وهمية وإغلاق أكثر من 123،000 حساب مصرفي، وكانت معظمها تعود للروس. وقال إن حكومته نفذت بالكامل عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا رغم التكلفة المالية والاقتصادية، وعوضًا عن ذلك قامت روسيا بتعليق اتفاق الضرائب وفرض حظر على تصدير العملة والمدفوعات إلى السلطات التي تعتبرها “غير ودية”، بما في ذلك قبرص. وقال “أعتقد أن ما ذُكر أعلاه يفند الادعاءات الكاذبة بأن إدارتي قوَّت الروابط الاقتصادية مع روسيا أو أنني خدمت المصالح الاقتصادية للروس أو، وهو أسوأ الادعاءات، أصدقاء نظام بوتين”.

وأضاف أن القانون الذي أقرته الحكومة في عام 2013 لتأسيس عضوين تنفيذيين على مجلس البنك المركزي كان “في الواقع مبادرة برلمانية وليست مبادرة حكومية وحصلت على دعم واسع من جميع الأطراف السياسية”. وقال إن القانون كان “تعديلًا صحيحًا تمامًا” يقرب أكثر إلى حكم المصارف الأخرى ومصرف البنك المركزي الأوروبي نفسه. وأوضح أن فكرة أن القانون نقل السلطات من المحافظ إلى المديرين التنفيذيين أو أعطاهم “التحكم في الإدارة” هي “زائفة”، مضيفًا أن القانون “لا يزال يمنح الصلاحيات الكاملة للمحافظ”، بما في ذلك الحق في “تكليف المسؤوليات للمديرين التنفيذيين الاثنين”. ونفى أيضًا تجاهل المطالبات من جانب البنك المركزي الأوروبي. وأضاف أن “الأسباب الحقيقية” لرحيل ديميترياديس كانت “فضيحة A&M”. (ردًا على ذلك، قال ديميترياديس إن عقد A&M انتهى في خضم الفوضى في البنك مع وضع البلاد المأزوم”. 

كنا بحاجة إليهم”، قال “لم يكن هناك شيء خاطئ في عقد ألفاريز؛ الشيء الوحيد الذي كان خاطئًا هو كيفية استخدامه، بهدف التخلص مني”.)

وفي الوقت نفسه، كان النفوذ الروسي على البنوك القبرصية قد وصل إلى مستوى عالٍ؛ إذ يضم مجلس إدارة بنك قبرص الجديد الآن ستة من الروس، من بينهم فلاديمير سترزالكوفسكي، زميل بوتين السابق في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي)، وأكبر مساهم منفرد هو الشركة التي يسيطر عليها فيكتور فيكسلبيرج، أحد أفراد الأوليغارشية الروسية الخاضعة للعقوبات الآن.

وافق البنك المركزي القبرصي على قيام مجموعة مستثمرين روس بشراء حصة مسيطرة في بنك التنمية القبرصي. وتضم تلك المجموعة أليكسي كوليكوف، وهو مالك جزئي لبنك زعمت السلطات الروسية أنه ساعد في تنظيم واحدة من أكبر عمليات غسل الأموال في التاريخ، حيث نقل 10 مليارات دولار من روسيا إلى أوروبا. وفي مايو/أيار 2014، ألغى البنك المركزي الروسي ترخيص بنك روسي صغير عمل فيه كوليكوف مستشاراً لرئيسه بسبب انتهاكات تتعلق بغسل الأموال في فضيحة منفصلة. وبعد شهر، وافق البنك المركزي القبرصي على الاستحواذ على بنك التنمية التابع لمجموعة كوليكوف. ثم أدين كوليكوف بالاحتيال والاختلاس من البنك المرتبط بفضيحة غسل الأموال الكبرى، وحُكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات.

وفي العام التالي، سافر أناستاسياديس إلى موسكو للتوقيع على خطة “عمل” للتعاون الاقتصادي، مليئة بالاتفاقيات الثنائية، وحضور اجتماعات مع بوتين. وفي مؤتمر صحفي، أشار بوتين إلى أن روسيا تمثل 80% من الاستثمارات الأجنبية لقبرص، أي 33 مليار دولار، وأن قبرص هي ثاني أكبر مستثمر في روسيا بقيمة 65 مليار دولار. وفي نهاية المطاف، سيوقع الاثنان خطة “عمل” أخرى تتضمن سبع اتفاقيات اقتصادية وتجارية أخرى، من بينها اتفاق لتخفيف قواعد المعاملات المالية التي تشمل البنوك الروسية المملوكة للدولة.

وقال بوتين: “من الجيد أن تعود أموالنا للعمل في اقتصادنا”.

سياسات غسل الأموال

وأخيراً، أمسك البنك المركزي الأوروبي بزمام الأمور وأحكم سيطرته على النظام المصرفي في القارة في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وكان ذلك جزئياً رداً على الأعمال المصرفية المتهورة التي ساعدت في إحداث أزمة اليورو. ومع تقديم ما يسمى بآلية الإشراف الموحدة، أصبح البنك المركزي الأوروبي الآن الجهة التنظيمية المباشرة لبنك قبرص، والبنك المركزي القبرصي، وغيرها من البنوك القبرصية الكبرى. وهذا يعني أن البنك المركزي الأوروبي لديه القدرة على إجراء عمليات تفتيش ميدانية ومنح – أو سحب – التراخيص المصرفية. ومن بين مسؤولياته الجديدة، سيتأكد البنك المركزي الأوروبي من أن مديري البنوك وأعضاء مجلس الإدارة يتمتعون “في جميع الأوقات بسمعة جيدة بما فيه الكفاية”، وهو واحد من خمسة معايير لتحديد ما إذا كانوا “مناسبين ومؤهلين” لإدارة مؤسستهم المالية.

ورغم أن السلطات الجديدة التي يتمتع بها البنك المركزي الأوروبي كانت شاملة، إلا أنها قصُر عن موضوع واحد وهو: غسل الأموال؛ حيث إن تلك الجريمة المالية التي تتطلب في أغلب الأحيان رقابة مركزية – والتي تشمل بحكم تعريفها ولايات قضائية متعددة – سُحِبت بعناية من نطاق آلية الإشراف الموحدة.

إذ زعمت الهيئات التنظيمية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن إنفاذ قوانين مكافحة غسل الأموال هو تدخل في السيادة الوطنية (رغم أن آلية الضمانات الخاصة ذاتها كانت واحدة من أهم عمليات نقل السيادة منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي)؛ كما أن المفاوضين لم ينظروا إلى غسل الأموال باعتباره التهديد النظامي المباشر الذي تشكله ممارسات الإقراض المصرفي. ولكن في مجال مكافحة غسل الأموال، كثيراً ما تُستخدم الحجج التقنية والقانونية لإخفاء المصالح السياسية والمالية. وإن الوضع الراهن يحمي البنوك إلى حد كبير من المسؤولية، بينما يسمح بتدفق المدفوعات الدولية، حتى مع عدم اكتشاف أكثر من 99% من الأموال المغسولة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.

وقال ألكسندر أبوستوليدس – الخبير الاقتصادي والمؤرخ المصرفي في الجامعة الأوروبية في قبرص – لشريك الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، بيبر تريل ميديا، إن “آلية تقسيم وتوزيع السلطة حيال الاحتيالات وغسل الأموال والعقوبات قد تكون متعمدة؛ حيث لم يكن أحد يريد تركيز السلطات في وكالة واحدة من شأنها أن تجعل محاكمة الممارسات السيئة قابلة للتنفيذ فعلياً”.

وفي النهاية، تُركت مهمة مكافحة غسل الأموال الروسية لجهات مثل البنك المركزي القبرصي، الذي من المفهوم جيداً وعلى نطاق واسع أنه يقع تحت سيطرة الطبقة السياسية نفسها الغارقة في الأموال الروسية. ومع وقوف الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي أمام مراقبة غسل الأموال، بدأت الكشوفات تتوالى. ففي ربيع عام 2016، نشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، وماكلاتشي، وميامي هيرالد، وصحيفة “زود دويتشه تسايتونج” الألمانية اليومية وأكثر من 100 شريك إعلامي آخر وثائق “بنما” التاريخية؛ الذي عُدّ أحد أكبر الكشوفات الصحفية الصادمة في هذا العقد. وقد أثارت الحقائق المنشورة في هذه الوثائق احتجاجات عالمية ودفعت النظام المالي الخارجي إلى قمة جدول الأعمال السياسي العالمي.

كشف عن الفاعل المركزي في هذه القصص: إنه بنك “آر سي بي”. حيث أظهرت سلسلة التحقيقات أن البنك القبرصي قام بتحويل أكثر من 800 مليون دولار من خطوط الائتمان – غير المؤمّنة – إلى شركة صورية كاريبية، نقلت بدورها الأموال إلى شركات صورية أخرى تتبع مباشرة مقربين من بوتين نفسه. وفي مقابل دولار واحد فقط، منحت الشركة الوهمية التي يمولها البنك المركزي الروسي حقوق 8 ملايين دولار من مدفوعات الفائدة لصديق طفولة بوتين؛ سيرجي رولدوجين، الذي قدّم بوتين لزوجته الأولى، ليودميلا، وهو الأب الروحي لابنة بوتين ماريا. وأصبح رولدوجين – عازف التشيلو الذي تحول إلى ملياردير – معروفاً باسم “محفظة بوتين”. (في ذلك الوقت، نفى RCB ارتكاب أي سوء أو منح القروض غير المضمونة).

على صعيدٍ آخر، اكتشف ما يسمى بـ “تحقيق مولر” بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 أن بنك قبرص ساعد في تحويل الأموال من الفاسد الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش إلى الرئيس المستقبلي لحملة دونالد ترامب الرئاسية لعام 2016، بول مانافورت. في تقارير صحفية، قال بنك قبرص إنه تعاون في التحقيق الأميركي. وفي عام 2017، وجد مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد أن بنك هيلينيك – ثاني أكبر بنك في قبرص – تلقى أكثر من 500 مليون دولار من عائدات مخطط آخر سيئ السمعة يعرف باسم المغسلة الروسية، والذي يقال إنه نقل أكثر من 20 مليار دولار من روسيا بين عامي 2011 و2014. لم ترد Hellenic على طلب ICIJ للتعليق. ومن الجدير بالذكر، أن بنك قبرص وبنك هيلينيك يخضعان – مثل بنك “آي سي بي” – للإشراف المباشر من البنك المركزي الأوروبي. وفي عام 2020، نشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين وشركاؤه الإعلاميين “وثائق فنسن” (FinCEN)، التي كشفت أنه في عام 2017، أبلغ جي بي مورغان تشيس عن تحويلات مصرفية مشبوهة يبلغ مجموعها أكثر من 322 مليون دولار تشمل شركات وهمية في قبرص وغيرها من الولايات القضائية السرية التي تعاملت مع مانافورت، منها ما لا يقل عن 40.2 مليون دولار تخص المستشار السياسي نفسه. وكان أحد البنوك المستخدمة في المعاملات هو البنك الشعبي القبرصي.

وأثناء كل تلك الكشوفات، ندد السياسيون الأميركيون والأوروبيون بقبرص وسياساتها باعتبارها مركزاً للأموال الروسية المغسولة، والآن أصبحت سمعة البلاد باعتبارها الضلع الأعوج في البنية الأساسية المالية في أوروبا أمراً لا جدال فيه.

كتبت مجموعة مكونة من 17 عضواً في البرلمان الأوروبي في أكتوبر/تشرين الأول 2017: “عزيزي الرئيس أناستاسيادس؛ نكتب إليكم بقلق بالغ بشأن الدور الذي يضطلع به المسؤولون الحكوميون الروس الفاسدون في قبرص فيما يتعلق بغسل المخططات الإجرامية الضخمة القادمة من روسيا”.

بيد أن هذا كله لم يزد المؤسسات المالية الأوروبية سوى قرباً من بنك “آر سي بي”، مدفوعة بوضعه كبنك خاضع لرقابة البنك المركزي الأوروبي.

“قضي الأمر، وانتهى كل شيء!”

شهد عام 2018 انهيار منظومة غسل الأموال في أوروبا؛ ففي فبراير/شباط من ذلك العام أدرجت وزارة الخزانة الأميركية بنك ABLV – ثالث أكبر بنك في لاتفيا – على القائمة السوداء باعتباره “مثار شكوك كثيرة فيما يتعلق بغسل الأموال” التي تُوظف لتمويل برنامج الأسلحة لكوريا الشمالية، وهو ما دفع البنك إلى تصفية أعماله. في العام نفسه، انفجرت فضيحة أخرى عندما كشف أحد المبلغين عن المخالفات أن مكتباً يضم أقل من عشرة أشخاص في فرع بنك Danske Bank، في تالين بإستونيا، اضطلع بعملية غسل ما يصل إلى 230 مليار دولار – أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لإستونيا – لصالح عملاء معظمهم من إستونيا وروسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة والدول التابعة لها. هزت تلك الفضائح عالم المال، وبالتأكيد زعزعت أركان البنك المركزي الأوروبي، الذي صار في موقف لا يُحسد عليه، وعليه أن يبادر إلى تفسير موقفه.

“البنك المركزي الأوروبي ومكافحة غسل الأموال: ما يمكننا فعله وما لا يمكننا فعله”؛ هكذا جاء العنوان الرئيسي لبيان صحفي للبنك المركزي الأوروبي في العام نفسه. أوضح البنك المركزي أنه لا يملك صلاحية التحقيق في عمليات غسل الأموال، التي أفلتت من آلية الإشراف الموحدة، وكان عليه الاعتماد على السلطات المحلية في تلك المهمة؛ ولا يمكنه أن يتحرك إلا إذا كان غسل الأموال يشكل “خطراً احترازياً”. ومع ذلك، أقر البنك بأنه يمكن أن يطلب من السلطات المساعدة “لأغراض تقصي الحقائق” بشأن غسل الأموال إذا شعر أن لديه “معلومات غير كافية” لتطبيق معايير الإشراف على البنوك بصورة سليمة. كما أكد المنتقدون أن اعتماد البنك على التدفقات الضخمة من الأجانب يشكل “خطراً تحوطياً” واضحاً.

وقالت دانا ريزنيس أوزولا – وزيرة مالية لاتفيا آنذاك – لصحيفة فاينانشيال تايمز: “يدرك الجميع أنك إذا أشرفت على نماذج الأعمال، فلن تتمكن من أن تنأى بنفسك عن المخاطر التي تنطبق على خدمة غير المقيمين”. وسوف يعترف البنك المركزي الأوروبي في وقت لاحق بأن غسل الأموال يشكل بالفعل مخاطر على قدرة البنوك على البقاء؛ ولا يزال الاتحاد الأوروبي بصدد العمل على إنشاء سلطة مركزية جديدة.

وقال البنك المركزي الأوروبي في بيان له إنه بموجب اللوائح السائدة، “لا يُسمح بالكشف عن أي معلومات إشرافية سرية بخصوص مؤسسات ائتمانية محددة”. ولذلك، فإن البنك المركزي الأوروبي محظور عليه الكشف عن أي إجراءات إشرافية معتمدة موجهة إلى المؤسسات القبرصية المعنية. وقال أيضاً إنه بموجب إرشاداته، “لا يمكنه التمييز بين المساهمين المرشحين اعتماداً على جنسيتهم أو بلدهم الأصلي، إذ لا يوجد لذلك أي أساس قانوني”. وأضاف البنك المركزي الأوروبي أنه عند تقييم المساهمين الحاليين أو المحتملين، فإنه ينظر في “جميع المعلومات المقدمة إما كجزء من ملف الشخص أو المعلومات المتاحة للجمهور، ومنها على سبيل المثال (قائمة العقوبات، وما إلى ذلك)، بالإضافة إلى علاقات الشخص بالآخرين، وفقاً للمبادئ التوجيهية الأوروبية“. البيان الكامل للبنك المركزي الأوروبي موجود هنا.

ومن هنا تحولت أصابع الاتهام إلى قبرص؛ ففي تقرير مدوٍّ قدمته إلى الكونجرس في أغسطس/آب 2018، اتهمت وزارة الخزانة الأميركية البلاد “بمواصلة استضافة كم كبير من الأموال والاستثمارات الروسية المشبوهة”، وانتقدت برنامج المواطنة “المتساهل” والإشراف “الضعيف” على مقدمي الخدمات و”القواعد المتساهلة للشركات التي سمحت لـ “الجهات الفاعلة غير المشروعة” بالوصول خفية إلى النظام المالي الدولي”.

وكجزء من مشروع “أسرار قبرص”، قام الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين بتمشيط سجلات ستة من الشركات القبرصية المختصة بتقديم الخدمات للشركات، وشركة لاتفية تبيع وثائق تسجيل الشركات القبرصية من خلال موقع ويب يسمى i-Cyprus. ووجد الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أن الشركات القبرصية الواردة في البيانات المسربة قدمت خدمات لشركات يملكها أو يسيطر عليها 96 روسياً خاضعين للعقوبات، 25 منهم قد فُرضت عليهم عقوبات بالفعل قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، ومن بينهم فيكتور فيكسلبيرج.

وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال؛ في شهر مايو/آيار من ذلك العام، التقى مارشال بيلينجسلي – مساعد وزير الخزانة لشؤون تمويل الإرهاب آنذاك – كبارَ المنظمين في جزيرة قبرص، ولوّح بقائمة من الأوليغارشيين الروس الذين من المحتمل أن يواجهوا عقوبات، وذكر القائمة السوداء التي ضمت بنك ABLV.

قال بيلينجسلي: “هل رأيتم ما حدث في لاتفيا؟ أتريدون أن يحدث شيء مماثل هنا؟”.

وذكرت الصحيفة أن مسؤولاً تنظيمياً قبرصياً رد قائلاً: “أرنا ما عندك!”.

بيد أن “النموذج القبرصي” كان تحت الحصار بالفعل؛ ففي يونيو/حزيران – وبعد سنوات من الوعود – أمر البنك المركزي القبرصي البنوك أخيراً بإغلاق حسابات الشركات الوهمية التي لا تشارك في أعمال مشروعة. وذكرت صحيفة “قبرص ميل” أن البنوك أغلقت أكثر من 50 ألف حساب ورفضت ضم آلاف العملاء الآخرين. كما قام بنك قبرص بتجميد حسابات فيكسلبيرج، على الرغم من أنه ظل أكبر المساهمين. وفي عام 2019، أشاد مارشال بيلينجسلي نفسه بـ”التقدم والتحسينات الهائلة” التي حققتها قبرص، حيث بدأت ودائع غير المقيمين في الاتحاد الأوروبي في الانخفاض من أكثر من 10 مليارات دولار في عام 2014 إلى حوالي 7 مليارات دولار بعد خمس سنوات.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، اعترف وزير المالية القبرصي هاريس جورجياديس صراحة بمشاكل النموذج في منتدى حول المستقبل الاقتصادي لقبرص.

وقال: “لنكن صادقين: كان لدينا مليارات ومليارات من الودائع، إلى جانب شركة لم تكن سوى غطاء وهمي بلا موظفين ولا وجود مادي؛ “لقد قضي الأمر وانتهى كل هذا. وحتى لو أردنا الاستمرار بمثل هذا النموذج فلن نستطيع، ولم تعد هناك رغبة في مثل هذا النموذج”.

ولكن بعد مرور أكثر من عام، تلقت قبرص تقريراً مختلطاً من اللجنة الاستشارية الرئيسية لمكافحة غسل الأموال في أوروبا، والذي أشاد “بالممارسات الإشرافية السليمة من قبل البنك المركزي القبرصي” لكنه أشار أيضاً إلى “أوجه قصور كبيرة”، من بينها: “لم تقم السلطات المختصة حتى الآن بملاحقة عمليات غسل الأموال من العائدات الإجرامية المتولدة خارج قبرص بشكل كافٍ، والتي تشكل أكبر تهديد للنظام المالي القبرصي”.

وقد كشف الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022 عن الكُلفة الحقيقية للأعمال السرية المربحة في قبرص؛ ولكن الصعود الجامح والجريء لمركز المال الروسي داخل النظام المصرفي الأوروبي لا يؤدي إلا إلى إثارة تساؤلات جديدة حول متى ــ وتحت أي ظروف ــ سوف يمارس الاتحاد الأوروبي سلطته الكاملة عندما تظهر إلى الوجود قبرص جديدة.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.