fbpx

غزة: هدنة عابرة لا تكفي لرثاء الموتى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أحدّق بهذا الكم الهائل من الموت، وأفكر بكل الذين ماتوا من دون أن يودعهم أحد، من دون أن يبكيهم أحد، من دون أن يجدهم أحد. أفكر بكل من ماتوا ودفنوا من دون اسم أو شاهدٍ أو دموعٍ لائقة، بمن ماتوا سوياً ودفنوا سوياً، عظاماً ودماً لا يميّز بعضه عن بعض، وتأخذ أشكال الموت هذه صوراً حقيقيةً، وثقتها عدسات الكاميرات لكي نتمعن في قسوتها عندما يتسع لنا الوقت، عندما يتوقف العداد ويحين موعد تثبيته كحصيلة نهائية في السجلات الرسمية وذاكرة من نجى منه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرأت خبر تمديد الهدنة الإنسانية في غزة ليومين وأنا جالسة بجوار صديقي في قاعة الانتظار أمام بنك الدم في مستشفى “أوتيل ديو”، منتظرين حصوله على الموافقة للتبرع بوحدة دم من فئة 0+ لمريضٍ لا نعرفه كلانا، لكننا قرأنا عنه من خلال “ستوري” ناشدت فيها ابنته عبر حسابها على “إنستغرام” حاملي هذه الفئة والقادرين على التبرّع بالتوجّه إلى المستشفى، فاغتنمنا هامش الفراغ بين المحاضرتين وقرب المستشفى  من الجامعة وتطابق دمنا مع دمه، وذهبنا في سبيل محاولة ضئيلة لمواجهة الموت الذي يطبق على كل شيء من حولنا.

على الفور قرأت له الخبر بصوتٍ عالٍ، ثم أرسلته كما هو إلى صديقتي “رياسة”، تعقيباً على حديثٍ أجريناه في الليلة السابقة، وتمنّينا في ختامه أن تمتد الهدنة إلى ما لا نهاية، وأن تنتهي هذه الحرب، وعداد الموت الذي لامس العشرين ألفاً في أقل من شهرين. لكن الهدنة لم تستمر وعاد القصف وعاد عداد الموت يحصد أرواحاً جديدة.

وفيما أنام أنا في غرفةٍ بعيدة من كل ضوضاء الحرب، تعيش هي في بيتها في قرية جنوبية على الحدود، وتصحو كل ليلةٍ على صوت القصف الذي شق طريقه من أطراف القرى إلى بيوتها ومحلاتها وأبنائها. لذا، فالهدنة التي انعكست هدوءاً على الجبهة الشمالية تعني لها شيئاً ملموساً أكثر مني، وأقل مما تعنيه لمن يبحثون عن جثامين أحبتهم تحت الركام في غزة، ويسابقون الوقت لدفن أطفالهم، ومداوة جراحهم، وبناء خيمة يتظلل بها من بقي على قيد الحياة من برد الشتاء، الذي حلّ هذه المرة ضيفاً غير مرغوبٍ فيه، على مدينة انهارت جدرانها وبيوتها فوق رؤوس ساكينها، وتركتهم مكشوفين للموت والريح والمطر.

منحتنا الحياة 48 ساعة لنتفقّد ما خسرناه في الحرب، ولنستعد لما تحمله لنا بما تبقى من أيامها. لننظر نظرة واحدة خاطفة إلى الوراء، أين كنا قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وما الذي صرناه اليوم؟ وغداً عندما تنتهي الحرب، أين سنكون، وكيف سنبني عظامنا لتكون أصلب في الحرب المقبلة؟ وكيف سنثير صخباً أكبر عندما نموت، كي لا يسكت العالم عن موتنا كما يفعل اليوم.

الموت كحدثٍ جلل

الجنازة الأولى التي عرفتها في حياتي، كانت لعصفورنا الصغير الذي مات اختناقاً ببوابة قفصه، فبكينا عليه وغطيناه بقماشة بيضاء، ودفناه في تربة مجاورة للمنزل. بعدها، توالت في حياتي الجنائز الحقيقية، والدموع الخجولة من عينَي أخي صارت صراخ أمهاتٍ فقدنَ أولادهن بطرق عشوائية وموت مجاني، واصطفت القبور إلى جانب بعضها البعض فصارت متاهة تتنقل فيها بذكرياتك مع كل نعشٍ. 

في كل مكان عشته، كان صخب الموت أعلى وأوضح من صخب الحياة. في بلادٍ ساخنة طوال الوقت، وفاقدة لكل مقومات الأمن والسلامة التي قد تؤجل الموت إلى موعده المنطقي، إلى حين يشيخ المرء ويموت بهدوءٍ في سريره الدافئ، يبدو عادياً جداً أن تقول، مات صديقي في السادسة عشرة من عمره بسبب رصاصة طائشة في اشتباك لا ناقة له فيه ولا جمل. تقرأ الجملة بصوتٍ عالٍ، كخبر تمديد الهدنة يومين، أو أنباءٍ عن هطول الأمطار في اليومين المقبلين.

علّمني عصفور أخي وجنازات رفاقي الصغار، ألا أتعامل مع الموت بأقل مما يعنيه، ألا أخلع حزنه الأسود عني قبل أن أُشفى من الغياب، أن أفهمه وأقبله وأعتاد عليه، لكي لا يستحيل جرحاً مفتوحاً ينزف على أقل الخسارات وأهونها.

اليوم، أحدّق بهذا الكم الهائل من الموت، وأفكر بكل الذين ماتوا من دون أن يودعهم أحد، من دون أن يبكيهم أحد، من دون أن يجدهم أحد. أفكر بكل من ماتوا ودفنوا من دون اسم أو شاهدٍ أو دموعٍ لائقة، بمن ماتوا سوياً ودفنوا سوياً، عظاماً ودماً لا يميّز بعضه عن بعض، وتأخذ أشكال الموت هذه صوراً حقيقيةً، وثقتها عدسات الكاميرات لكي نتمعن في قسوتها عندما يتسع لنا الوقت، عندما يتوقف العداد ويحين موعد تثبيته كحصيلة نهائية في السجلات الرسمية وذاكرة من نجى منه.

أتذكر اليوم، جنازة طائرنا الأصفر وأفكر بكل هؤلاء الصغار الذين رؤوا أشكال الموت الحقيقي كلها، ولكنهم حملوا على أكتافهم طيورهم وقططهم وكل ما هو أقل من حياة الإنسان، وأخذوها معهم إلى حيث يمتلكون بصيص أمل بالنجاة، لكي لا يتركوها لمصيرها المحتم بالموت، وبكل من ماتوا، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، من دون جنازة ولا قماشة بيضاء. وتأخذني هذه المفارقة اللاذعة إلى سؤالٍ مفتوحٍ عن معنى الحياة والموت بعد ما رأيناه في هذه الحرب.

الموت الآخر

بعيداً من عدسة الكاميرا وصوت إشعارات الأخبار العاجلة، أنهى رفيقي نور حياته في غرفته، برصاصة واحدة في السابع من تشرين الأول. هكذا اختزلت الخبر لصديقتي التي لا تعرف نور ولا تعرفه في حياتي، لا لتساعدني في تخطّي الأمر، بل لأختصره بعبارة واحدة أعيد تفكيكها عندما يحين الوقت المناسب لذلك. بكيت ليومين أو ثلاثة، وفي اليوم الرابع عدت إلى الحياة اليومية التي تضج بالموت في الوقت الراهن، ووضعت ضمادةً على جرحٍ واسعٍ، ضمادة لا تشفيه، لكنها تحميه من أن ينزف مؤقتاً.

في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، قبل أيامٍ قليلةٍ من الهدنة، أمام عدسات الكاميرا وبخبرٍ عاجلٍ قرأته على “فيسبوك”، قتلت إسرائيل زميلتي في كلية الإعلام المراسلة  فرح عمر، أثناء تغطيتها الاشتباكات القائمة على الحدود. فرح التي كانت تضج بالحياة ماتت، كررت هذه الجملة في رأسي ألف مرةٍ حتى باتت حقيقة، شيئاً قابلاً للتصديق.

في الهدنة، وبينما كانت غزة تغسل دمها وتعرف موتها بصورة أوضح، وترى ثماره في وجوه من خرجوا إلى الحرية ممتنين وشاكرين لها، كنت أبكي وحدي في غرفتي البعيدة من ضوضاء الحرب، فرح ونور وكل الذين ماتوا فرادى في غمرة هذا الموت الجماعي غير المألوف في ذاكرتنا، لذا كان تمديدها ليومين إضافيين أشبه بجرعة إضافية من مهدئ مسكنات الألم، تعلم جيداً أنك لن تنعم به طويلاً، وأن عليك في النهاية أن تواجه هذا الألم وتتجاسر عليه من ثم تغلبه، إلى حين ينقضي أو يصير أقل وطأة، لكنك تبتلعها بنهمٍ، لأنك لست جاهزاً بعد لمعركتك الحقيقية معه.

ما لم ترَه الأعين

يوماً بعد يوم، تكشف الهدنة فواجع لم تكن خرجت إلى العلن وعرف بها في خضم الحرب، كمجزرة في حي كاملٍ في غزة أو أطفال خدج ماتوا متروكين في مستشفى أخلته إسرائيل من طاقمه الطبي والمرضى والأهالي الذين لجأوا إلى جدرانه كي ينجوا من نيران الموت، والمئات ممن تمسكت عائلاتهم بأمل العثور عليهم أحياء في مكان ما، إلا أنهم عادوا إلى المنازل ليعثروا عليهم جثثاً متحلّلة، ويجدوا بيوتاً تأمّل أصحابها النازحون بأن تكون سالمة، فوجدوها ركاماً في الأرض، وأدركوا في تلك اللحظة بالذات، أنهم خسروا الماضي والحاضر والمستقبل، وألا مكان آمن وغرفة دافئة سيعودون إليهما بعد الحرب، ليتعافوا من خساراتهم الأخرى، وأنهم أضاعوا إلى الأبد ذكرياتهم المحفوظة في الخزائن مع من فقدوهم في رحلة هربهم من الموت. 

عصر الثلثاء، اليوم الخامس من الهدنة البعيدة، اجتمعنا في باحة كلية الإعلام إحياءً لذكرى فرح، وكانت الحرب قد ألقت بظلالها علينا جميعنا، من عرف فرح ومن لم يعرفها. كنا حشداً من الرفاق القدامى الذين وحدهم الموت مرةً جديدةً بعد سنواتٍ من الغياب، وجلسنا إلى المقاعد الخشبية ذاتها التي كنا نجلس إليها يافعين لا نحمل ثقل الحروب وموت الأصدقاء، وتحدثنا عن كل تلك المشاهد الفجة والخسائر الفادحة التي  تفرجنا عليها عاجزين لستين يوماً، عاجزين عن استيعابها وفهمها وتخطّيها، تحدثنا عن الفقد والحرب وكل أولئك الذين لا يمتلكون فرصة معانقة أصدقائهم ومشاركتهم الألم والعزاء، أولئك الذين ماتوا أكثر منا، ولا تكفيهم 48 ساعة زائدة، وربما سنوات طويلة بعد، لرثاء كل هذا الموت الذي لا يُغتفر.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.