fbpx

“السكان الأصليون” في غزّة لا يموتون مصادفةً!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نحن أمام أزمة بلاغية، فالفلسطينيون إذاً هم كلّ شيء إلا فلسطينيين، هم سكان أصليون، وعرب، وفي بعض الخطابات هم جهاديون وإسلامويون ومن دون دولة، وغيرها من الصفات، وكل واحد من هذه الخطابات يفترض وضعية إما ذات انتماء “أممي” أو “قومي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو لشاب فلسطيني يرقص أمام الحرائق أثناء “مسيرات العودة” عام 2018. وفجأة، من دون معرفة السبب، تمت مُقارنة تمايله مع رقصات “السكان الأصليين” في الولايات المتحدة، أولئك الذين ارتُكبت إبادة جماعية بحقّهم، لترسيخ سلطة مستعمري العالم الجديد.

نشير  إلى هذا الفيديو في محاولة لانتقاد مفهوم “السكان الأصليين” الذي يُلصق بالفلسطينيين، وبالطبع المفهوم ليس بجديد، تكفي قراءة قصيدة محمود درويش “خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض-1992” كي تتّضح المقارنة.

لكن، يفترض مفهوم “السكان الأصليين” أن هذه الفئة من قاطني الأرض اختفت، وقلة قليلة منها بقيت لكنها “لم تعد مُهيمنة”، وما يربطهم مع أجدادهم الذين رحلوا شأن غامض، هل هو الدم؟ التقاليد؟ اللغة؟ الرقصات؟.

ترى بعض المقاربات السياسيّة أن الإبادة الأميركيّة حدث مؤسّس للسيادة، بصورة أدق، لديمقراطيّة الولايات المتحدة، في حين أن الديمقراطيّة اليونانيّة الكلاسيكيّة التي صُدّرت إلى أوروبا (ومستعمراتها لاحقاً)، تأسست على ظهور العبيد. نحن إذاً، أمام نموذجين للاستثناء يُشكل كلّ منهما سيادة فئة على أخرى.

 تسعى الأقلية الأصلية، التي لا نعلم بدقة كم يجب أن يكون  عدد أفرادها ليصنّفوا كـ”أصليين”، الى الحفاظ على إرثها الثقافي لا السياسي، وهذا ما حصل مع سكان أميركا الأصليين، وما يحصل مع الفلسطينيين في أنحاء العالم. المُنتج الثقافي “الأصلي” يكتسب قيمة زخرفيّة، هو موجود للإشارة إلى من رحلوا، ولم يبق منهم سوى حكايات، وهذا ما يلخّصه درويش بقوله: “لَمْ يَبْقَ مِنَّا سِوَى زِينَةٍ للْخرابِ”.

 العبارة الشعريّة السابقة تُغذّي المنظمات المدنيّة التي تتوق الى الحفاظ على التراث “الأصلي”، الكلمة الأكثر بحثاً في معجم ويبستر هذا العام، لكن ما أن تشتعل الحرب في غزّة، حتى تتوقف هذه المنظمات عن تقديم الدعم، ربما لأن هؤلاء “الأصليين”، ما زالوا أحياء في غالبيتهم!.

يحيل لفظ “سكان أصليين” وتنويعاته إلى أن الإبادة اكتملت، ولم يعد هناك فلسطينيون على هذه الأرض، أو بصورة أدق، أرضهم.  يعني أيضاً أنهم مُشرّدون في الشتات، يستعيدون تراثاً وحكايات ماضية. لكن هذا يخالف الحقيقة، إذ إننا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد الاستعمار أو ما بعد الإبادة، الاثنان ما زالا قائمين ومستمرين، والأهم، الفلسطينيون أنفسهم، أي جيل “الأصل”، ما زال بعضهم حياً، ويذكر بدقة مرحلة ما قبل الاستعمار.

السكان الأصليون VS  العرب

يركز الخطاب الإسرائيلي على كلمة “العرب”، و أن الفلسطينيين عرب مثل من هم حولهم، وكأن لا اختلافات بينهم، ولا نتحدث هنا عن بلاد الشام، ففي البلاغة الإسرائيلية رهان على العروبة نفسها من “المحيط إلى الخليج”.

 كلا الخطابين إشكاليّان، العروبة تفني المكونات الثقافية والعرقية في المنطقة ضمن عبارة واحدة وليدة أنظمة قمعية “أمة عربية واحدة”، وتفرض أخوّة دَفَع ثمنها لعشرات السنين قمعاً وذلاً، سكان أصليون ومحليون ومؤيدون ومعارضون.

أما  عبارة “السكان الأصليون” فهي بلاغة أنظمة ما بعد استعمار/ ما بعد إبادة، وترى أن ما تبقى من “السكان” لا يصلحون للحكم أو بصورة أدق، لا يصلحون للسيادة على كل الأرض التي “كانت” ملكهم، بل يتمتعون بنوع من الاستقلال الذاتي ضمن فراديسهم المسوّرة، كما حالة الأميركيين الأصليين، وفي حالة غزة، جحيمهم القسريّ.

بغض النظر إن كانت المقتلة بيروقراطيّة إدارية أو ذكيةّ تكنولوجيّة، تصنيف “السكان الأصليين” لا يعني سوى العنف، والتغني بالزينة والرقص والرموز و”نظام التمثيل” ونزع فئة من السكان من مفهوم الأقليّة الفاعلة نحو الأقلية التزيينية، إن صحّ مصطلح كهذا!.

نحن أمام أزمة بلاغية، فالفلسطينيون إذاً هم كلّ شيء إلا فلسطينيين، هم سكان أصليون، وعرب، وفي بعض الخطابات هم جهاديون وإسلامويون ومن دون دولة، وغيرها من الصفات، وكل واحد من هذه الخطابات يفترض وضعية إما ذات انتماء “أممي” أو “قومي”.

الأثر السياسي لـ”اتهام” الفلسطينيين بلاغياً، بأنهم سكان أصليون، يعني أننا في زمن الحكايات فقط، و”اتهامهم” بأنهم عرب، وهنا نركز على كلمة اتهام، يحيل إلى  بلاغة التشريد والتهجير التي تتبناها إسرائيل والحقوق المنقوصة التي تتبناها الدول العربيّة، كلا الكلمتين إذاً ليستا إلا مصادرة للحق الفلسطيني.

نحو مقتلة جماعيّة ذكيّة

كشف تحقيق “مصنع اغتيالات جماعيّة” عن توظيف الذكاء الاصطناعي لاستهداف ساكني قطاع غزّة، الذين تحولوا إلى بيادق بشريّة “يأمرهم” الجيش الإسرائيلي بالتحرك بين “البلوكات”التي يفوق عددها الـ2700، وذلك لتفادي الموت، البلوكات ذاتها موجودة في الولايات المتحدة تحت اسم “محميات السكان الأصليين” تفصل بينها الأراضي الخاضعة للحكومة الفدراليّة.

 اللافت في التحقيق السابق، هو عبارات مرعبة على لسان ضباط في الجيش الإسرائيلي والاستخبارات الإسرائيليّة، إحداها “لا يوجد ما يسمى حادث… هذه ليست صواريخ عشوائيّة. كل شيء مُتعمّد. نعرف بدقة مقدار الأضرار الجانبية في كل منزل”.

لا يمكن استخدام وصف “إبادة” كون المؤسسات التي تمتلك سلطة إطلاق هذا الوصف، شديدة الحيثية. والأهم، تعريف الإبادة، و الإبادة كجريمة ضد الإنسانيّة، تمّ تبنّيها بعد الحرب العالميّة الثانية، كجهد بيروقراطي وإداري للقتل بكميات كبيرة، ولا ينطبق على أي أحد هكذا صوّر أكوام الجثث وبثها لـ”العالم”!. لكن هذا لا يهم.

ما يهم أننا أمام ماكينة تدرك بدقّة من تقتل ومن لا تقتل، وكل من قتل كان محسوباً، لكننا لسنا أمام مواجهة، فلا يمتلك “الهدف” حقاً بالاستسلام، أو الدفاع عن النفس، أو حتى الخيانة والانضمام إلى الجانب المقابل،  فلا اشتباك وجهاً لوجه، بمجرد صدور قائمة الأهداف (حوالى 250 هدف يومياً) فالموت محتم.

المقتلة الذكيّة إذاً تدشين لعصر جديد من القتل الجماعي، بدأ مع باراك أوباما، ملك الدرونات والضربات عن بعد، ثم درونات حرس الحدود الأوروبيّة وتقنيات التعرف على الوجه، والآن بلغ أوجه مع نظام Habsora لتوليد الأهداف، الكتاب المقدس إن أردنا ترجمة الكلمة، ذاك الذي كلامه لا ريب فيه، كل من يُذكر اسمه فيه، هدف لا بد من إصابته.

هذا التصميم على نسف السلالة وترسيخ صيغة “السكان الأصليين” لاختزال القدرة السياسيّة مقصود دوماً، وليس حادثاً أو ضرراً جانبياً، منذ عامين فقط، اكتُشفت في كندا مقابر لأكثر من ألف طفل من السكان الأصليين، أُخذوا من أهلهم نحو مدارس خاصة، كي “يبعدوا من ثقافتهم الأصليّة”، بصورة ما، للحد من تكاثر الأصليين، والحفاظ عليهم كأقليّة تزيينيّة لـ”الفئة المهيمنة”.

بغض النظر إن كانت المقتلة بيروقراطيّة إدارية أو ذكيةّ تكنولوجيّة، فئة السكان الأصليين لا تعني سوى العنف، والتغني بالزينة والرقص والرموز و”نظام التمثيل” ونزع فئة من السكان من مفهوم الأقليّة الفاعلة نحو الأقلية التزيينية، إن صحّ مصطلح كهذا!.

أي أصل نتحدث عنه؟

خطاب السكان الأصليين أيضاً يحوي غموضاً، أيّ أصل بدقة نتحدث عنه؟ أي في أي فترة زمنية بدقة؟ قبل 50 عاماً؟ قبل 100؟ قبل 2000 عام؟ هذا الأصل غامض ويدخلنا في دوامة مليئة بالمغالطات التاريخية والأساطير والقوى السحريّة، التي تتحول في النهاية إما إلى أساطير يوميّة خالية من المعنى السياسي أو نظريات عنصرية عن العرق، لكن قبول المصطلح يعني نوستالجيا لأرض ضاعت من دون عودة، لم يبق منها سوى رقصاتها.

بالعودة إلى الشاب الذي يرقص أمام النار، نحن أمام شكل من أشكال الدبكة كما هو واضح، وضرب الأرض تقليد قديم، إذ نضرب الأرض حتى تنبت زرعاً، التشابه والمحاكاة هنا لا علاقة لهما بالتقاليد ما قبل الإبراهيميّة، ربما هو محض مصادفة أو مخيلة تسلم بالموت الجماعي، والأهم، لا حديث عن الأصل هنا، ربما ما زال هذا الشاب حياً، كان يحاول ممارسة فعل سياسي حُرم منه.

المفارقة في مقاربة السكان الأصليين هذه هي ظهور بوسترات تصوّر فلسطينياً وأميركياً أصليين يرقصان، بعضها كان يحوي فتاةً بشعر مطلق، ثم تحولت إلى فتاة محجّبة، فأي أصل هنا يُحال له؟.

يشير سامي الكيال في مقال له، الى أن استخدام هذا اللفظ محاولة لـ”تصفية الذات السياسية للفلسطينيين” فـ”رد الفلسطينيين تماماً إلى هوية (سكان أصليين) ومن دون أي حديث عن إعادة بناء سياسي لهم، فلن يوصل إلا إلى التقاطع مع التفكير الإسرائيلي بإعطاء حكم ذاتي ما لـ(السكان المحليين) بعد إنهاء كل حديث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني”،  ونضيف هنا ما قاله نتانياهو بوضوح، إن اتفاق أبراهام يخرج الفلسطينيين من معادلة “القضية الفلسطينيّة”.

أزمة إعادة الإعمار

يُمنح السكان الأصليون في أميركا السيادة فوق الأرض التي يثبت أنها تعود لهم، وهم في غالبيتهم يقيمون فوقها كازينو، كون قوانين المقامرة لا تنطبق عليهم بصورة كليّة، كذلك يحتفظون بالمقابر القديمة، لما تحمله من قيمة جنائزيّة وتاريخيّة. بالطبع، يرى نقّاد هذا الشكل من “الاعتراف” أن تراكم المال لدى السكان الأصليين سيفقدهم ثقافتهم كونهم سيغادرون أرضهم ومحمياتهم، بالتالي سيفقدون “أصالتهم”. أي، هناك خياران، إما ابقوا معزولين في المحميات والمقابر والكازينوهات لتبقوا أصليين أو غادروها لتفقدوا هويتكم.

هناك تأكيدات من إسرائيل يرافقها ذكر لعدد من الدول العربيّة بأن غزّة بعد “تصفية حماس” سيعاد إعمارها، وقد تتحول إلى فردوس، أي بصورة ما، الدمار كله سيختفي لتظهر عوضاً عنه ناطحات سحاب، لن تستهدفها إسرائيل كما تفعل الآن مع الأبنية العالية، وغالب الظن، سيتم الحفاظ على المقابر،  لكن السؤال، أين ستبنى بالضبط ناطحات السحاب؟ فوق مخيم جباليا؟ حول خان يونس؟.

هناك مفارقة لغويّة، وهي أن كلمة فردوس تعني الحديقةَ المسوّرة، مكاناً من نعيم، لا سياسة فيه، كل من في داخله يتمتع بهويّة نورانيّة مليئة بالملذات المتخيّلة، ويمنع أن يدخل إليه أحد، لكن ما أن يخرج منه أحدهم، حتى يفقد كل ما كان يمتلكه من مميزات، فهل نريد لغزّة أن تكون “فردوساً  للسكان الأصليّين”؟.