fbpx

لسنا كلّنا سعداء في بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم أن شيئاً ما، أبعد من الكارثة والحرب والحاضر، جعل من بيروت مدينة غريبةً ومعقدة ومتناقضةً، نحبها، لكننا بالطبع، لسنا جميعاً سعداء فيها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في المقعد المجاور لمقعدي، في فان رقم 4، تقول سيدةٌ خمسينية لصديقتها التي عرفتها منذ دقائق معدودة، والتي تعمل في محل لبيع ملابس الأطفال في منطقة الحمرا منذ أكثر من عشر سنوات، إنها تتوجّه يومياً منذ أسبوعين إلى الحمرا بهدف العثور على عمل، أي عمل. 

 تستفيض السيدة في شرح حالة زوجها، التي تجعله غير قادرٍ على العمل بشكل متواصل، وطفليها ومستلزمات الدراسة والمصاريف اليومية الصعبة. وترد على سؤال صديقتها عن عدم بحثها عن عمل ضمن منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، بالقول إن الرواتب في الحمرا مضاعفةٌ عن مثيلتها في الضاحية مقابل الوظيفة والدوام نفسيهما، وإن الناس في الضاحية لا يدفعون أكثر من 250 ألف ليرة مقابل ساعة تنظيف منزلي، بينما في الحمرا قد تتقاضى أكثر من 50 دولاراً لقاء الساعة.

تختم السيدة حديثها الطويل بتعليق آمالٍ كبيرة على صديقتها، بأن تساعدها في العثور على وظيفة، أو على الأقل، بأن تخبرها في حال سمعت أو عرفت عن حاجة أي محلٍ في الحمرا الى موظّفة، باستطاعتها، على حد قولها، القيام بكل شيء.

لم أقاطع حديث السيدتين بالطبع، ولم أشأ أن أخيّب ظن السيدة وتصحيح كلامها بأن الحياة لا تسير بالطريقة نفسها، وأن كثيراً من المحلات التجارية، في شارع الحمرا تحديداً، لها معايير مختلفة لاختيار موظفيها، وأن البيوت العادية لا تدفع أكثر من 5 دولارات مقابل ساعة واحدة، أو 10 دولارات في أحسن الأحوال. 

لم أشأ أن أحبطها وأخبرها أن الفساد والاهتراء والرأسمالية ابتلعت كل شيء، فصارت هناك شركات باستطاعتها باتصال واحدٍ، أن ترسل طاقماً متخصصاً، برداءٍ موحدٍ ومعدات تنظيف متخصصة، إلى منزلك أو أي مكان تريده، وهم جاهزون للقيام بكل شيء، من الألف إلى الياء. 

بين يأس الناس وعجزهم ومعاناتهم التي لم يعد الحديث عنها يتخطى عتبة الأماكن الضيقة، وبين صورة الحمرا البراقة، صورة معقدةٌ لبيروت، بيروت التي تحتوي على التناقضات كلها، وتعيش كل بقعة فيها اليوم حياةً لا تشبه الأخرى، بيروت التي بالطبع، ليس الجميع سعداء فيها.

بيروت الحرب

عاشت بيروت حرب إسرائيل في عام 2006، لذا، كان من السهل أن تنقسم عشية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إلى قسمين، المناطق التي يُعتقد أنها “آمنة” من القصف الإسرائيلي، والمناطق التي “قد” يتم استهدافها، إذا ما تصاعدت الأمور ودخل لبنان في حربٍ شاملة. 

كان ذلك كفيلًا بأن يضع الجميع خطة تعامل مستقبلي مع حربٍ لم تأت سوى نذورها بعد. وكانت خطتي الانفعالية كالتالي: لدي احتمالات عدة للبقاء في بيروت خارج منطقة الضاحية، التي حتماً ستكون الهدف الأول إذا ما نشبت حرب، إنما البديهي أن تتوجه العائلة كلها إلى منزل القرية في منطقة الهرمل، والذي هو في أسوأ احتمالات الحرب الممكنة، أكثر أماناً من البقاء في الضاحية حيث المعقل الأبرز لـ”حزب الله”.

في أيام التوجّس الأولى للحرب، كان أصدقائي في الجامعة في فرن الشباك، القادمون من أماكن بعيدة، يتحدثون عن أول اتصال هاتفي تلقوه من عائلاتهم يوم السابع من تشرين الأول، والذي كان مفاده بشكل متشابه: “ضبوا أغراضكم وارجعوا عند أول تصعيد”، بينما كان أصدقائي الساكنون مع عائلاتهم في بيروت “الآمنة” غير مكترثين وغير قلقين بالمقدار نفسه على الأقل.

 في حين كنت أنا، وصديقي محمد الذي يعيش في فرن الشباك، بينما تعيش عائلته في صور الجنوبية، نعرف أن نجاتنا في بيروت فردية، وأننا في ما لو تطورت الأمور، سنحمل على عاتقنا الخوف المستمر على عائلاتنا، التي لم تعرف بيروت كما عرفناها، ولم تفتح لها بيروت “الآمنة” أبوابها، كما فتحتها لنا بعامل المصادفة والضرورة.

حاولت، مع مرور الوقت، وتبلور الأمور، أن أتخلص من قلقي وخوفي على مصير كل من أحبهم وأعرفهم في هذه المدينة وغيرها، قلقي النابع من تجربة مريرة مع الحرب، وفهمي لأن بيروت ليست مدينة واحدةً كما يصورها البعض، لكنه عاد إليَّ مع خبر استهداف الضاحية في الثاني من هذا الشهر، والذي دفعني للهرع سريعاً إلى مكان الحادثة، من ثم إلى بيت عائلتي للحديث مجدداً عن احتماليات النجاة المطروحة على كل واحدٍ منا، في حال تطورت الأمور، وعادت بيروت مجدداً في ذهني، إلى بيروت المقسومة نصفين، بيروت الآمنة، وبيروت غير الأمنة في الحرب.

بين يأس الناس وعجزهم ومعاناتهم التي لم يعد الحديث عنها يتخطى عتبة الأماكن الضيقة، وبين صورة الحمرا البراقة، صورة معقدةٌ لبيروت، بيروت التي تحتوي على التناقضات كلها، وتعيش كل بقعة فيها اليوم حياةً لا تشبه الأخرى، بيروت التي بالطبع، ليس الجميع سعداء فيها.

بيروت التي تسرقنا

مع انهيار العملة وتدهور الوضع الاقتصادي بعد عام 2019، ارتفع منسوب السلب والسرقات في لبنان عموماً، وفي بيروت خصوصاً، في ظل انهيار المنظومة الأمنية التي تحوّل العمل فيها من امتياز إلى عبءٍ على صاحبه، مع تدني الرواتب وغياب أي تعويضات وضمانات من الدولة، فكثرت حوادث السرقة والنشل في مناطق متعددة، بحيث أصبح التجوال اليومي محفوفاً بالمخاطر.

لذلك، وضعت كل منطقة وسكانها هيكلية معينة لتأمين الحماية الذاتية بعيداً من الدولة، فصارت بيروت الواحدة مقسمةً إلى شارعين، الشارع الذي بإمكانك المرور فيه في أي وقتٍ كان، وركن سيارتك أو دراجتك النارية من دون خوفٍ من سرقتها، والشارع الذي يعد الخروج منه سالماً  والوصول إلى وجهتك انتصاراً يومياً لا يطاق.

في الشهر الماضي، وأثناء انشغال الناس في مجريات الحرب القائمة في غزة والجنوب، وانهماك الدولة المنفصلة عن الواقع، بتأمين مرور موسم الأعياد في بيروت وغيرها من مناطق سياحية في لبنان على ما يرام، سُرقت دراجة صديقي النارية من تحت منزله في فرن الشباك أمام عينيه عند الرابعة ليلاً، بعدما أشهر السارق سلاحه في وجهه مهدداً إياه بقتله في حال أثار أي ضجة تستدعي استيقاظ الجيران.

كان رد القوى الأمنية التي ناشدها محاولة التحرك قبل أن يخرج السارق من المنطقة، بأن ينتظر اتصالاً من فصيل بعبداً، الاتصال الذي لم يأت بالطبع. وقبلها بأيام معدودة، تعرضت فتاة أعرفها للسرقة، إذ أقدم شابان يستقلان دراجة نارية، على نشل حقيبتها التي تحتوي على حاسوبها النقال ومبلغ مالي كبير وأشياء أخرى، أثناء خروجها من منزل صديقها ليلاً في عين الرمانة متوجهةً إلى سيارتها. في الحالتين، تابع الصديقان حياتهما متأقلمين مع خسارتهما، ومن دون القيام بأي إجراء قانوني يائس لا معنى حقيقي له اليوم.

غيرت مشهدية الحرب، والموت الممتد لأكثر من 100 يومٍ، وما يحصل في جنوب لبنان، مفهوم الأمان لدى سكان بيروت تحديداً، فأصبح مجرد البقاء على قيد الحياة، والقدرة على التنقل من منطقة إلى أخرى بأقل الخسائر الممكنة، وممارسة الحياة اليومية، امتيازاً لا يسعهم أمامه إلا أن يكونوا ممتنين، أو على الأقل، أن يمثلوا ذلك.

بيروت الغارقة

ثلاثة أيام من عاصفة هوجاء، لم أغادر فيها المنزل في فرن الشباك إلا للضرورة، لأجنب نفسي التعرض لوعكة صحية جديدة، بعد شهرين جربت فيهما أنواع الأوجاع الجسدية كافة، التي فاقمها البرد والقلق.

خلال وعكتي، شاهدت المقاطع المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، من أنفاق وشوارع غرقت بكاملها في بيروت نتيجة المطر الكثيف في شوارع وساحات تفتقد الى أبسط أعمال الصيانة. سيارات عالقة وعائلاتٍ يحاول الدفاع المدني إنقاذها وسحبها إلى وجهةٍ آمنة، بينما كان باستطاعتي، في اللحظة عينها، أن أنزل إلى الدكان المجاور، من دون أن يغمر الماء أعلى كاحلي، لأن أحداً ما، ولا أعلم مَن تحديداً، قرر أن يتعلم من أخطاء الماضي المتكررة، وأن يجهز هذا الشارع بالذات، لعاصفة مشابهةٍ، لكي لا يتحول المرور الاضطراري فيه خلالها، والخروج منه بأقل ضررٍ ممكن، معجزةً مستحيلةً.

 وعلى رغم أن شيئاً ما، أبعد من الكارثة والحرب والحاضر، جعل من بيروت مدينة غريبةً ومعقدة ومتناقضةً، نحبها، لكننا بالطبع، لسنا جميعاً سعداء فيها.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.