fbpx

إصلاحات سيزيف… صفقة غامضة وتعامل أمني مع حاملي الدولار في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحكومة المصرية التي بدت عاجزة عن حل أزمة ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، بحكم أنها لا تملك أي أدوات اقتصادية تُمكنها من وقف انهيار العملة وكبح جماح التضخم، رأت أخيراً أن ما لا يمكن حله اقتصادياً يمكن حله سياسياً أو بالأحرى أمنياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“وانا ماشي في الشارع وراجع بالحوالة بحس إني مجرم وبكون خايف في أي وقت أمين شرطة يوقفني ويفتنشني ويتقبض عليا، رغم ان كل اللي بيكون معايا مبالغ بالمئات”، هكذا يصف محمد عبد الباسط (26 عاماً) في حديث مع “درج”، “مخاطرة” حصوله على أجره بـ”العملة الصعبة”، ذاك الذي يتلقاه من شركة أجنبيّة يعمل معها عن بعد.

يعمد عبد الباسط على صرف راتبه بالجنيه المصري في السوق الموازي (السوداء) بسبب فارق السعر، لكن مع زيادة التشديد على من يتعامل بالعملة الصعبة، يقول عبد الباسط إن مخاوفه ازدادت، خصوصاً مع تزايد الأخبار  عن القبض على كل من يحمل عملة أجنبية، حتى لو كان المبال صغيراً.

أصبح استلام الحوالات النقدية من البنك وحمل العملة الصعبة في الشارع مصدر قلق لعبد الباسط، الذي  يقول: “وانا ماشي في الشارع وراجع بالحوالة بحس إني مجرم وبكون خايف في أي وقت أمين شرطة يوقفني ويفتنشني ويتقبض عليا، رغم ان كل اللي بيكون معايا مبالغ بالمئات”.

القلق والخطر اللذان يختبرهما عبد الباسط أصبحا قاسماً مشتركاً بين كل المتداولين في السوق السوداء للدولار، فمحمد الدسوقي قال في حديثه لـ”درج”: “أعتمد في تبديل العملة على أصدقاء يحتاجون الىى العملة الصعبة في أسفارهم للخارج، أو شراء مستلزمات مشروعاتهم البسيطة من الخارج، وهذا يوفر قدراً من الأمان والثقة لي ولهم”.

 يضيف الدسوقي: “بعضهم تحول الأمر معه إلى مصدر للدخل البسيط، إذ يقوم بالشراء مني والبيع لمن هو أعلى منه، بهامش ربح بسيط للصديق، نظير الأمان في التعامل الذي يحققه لي”.

المشكلة التي واجهها كل من عبد الباسط والدسوقي، يواجهها أحمد السيد أيضاً، الذي قال في حديثه لـ”درج”: “أعتمد بشكل رئيسي على أقاربي الذين يعملون في التجارة، والذين يملكون بدورهم مصادر يثقون فيها ويبيعون الدولارات لهم، لكن لا أفضل التعامل مع شخص لا أعرفه حتى لا أواجه مشكلات أمنية”. 

الحلّ الأمني لخفض سعر الدولار

خلال الأسبوع الأول من شباطـ فبراير الحالي، تراجع سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية بنحو 20 جنيهاً، ليصل إلى 55 جنيهاً تقريباً، وليرتفع مجدداً إلى 63 جنيهاً حالياً، بعد رفض البنوك قبول الدولارات التي حصل عليها المستوردون من السوق الموازية لفتح الاعتمادات المستندية بغرض الاستيراد.

قلل هذا الرفض من الطلب على الدولارات في السوق الموازية، في خطوةٍ يراها البعض أنها تُمهّد لخفضٍ مُقبلٍ لقيمة الجنيه رسمياً بهدف مواكبة السعر في السوق الموازية، بغرض إنجاز اتفاقٍ وشيك مع صندوق النقد الدولي.

الحكومة المصرية التي بدت عاجزة عن حل أزمة ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، بحكم أنها لا تملك أي أدوات اقتصادية تُمكنها من وقف انهيار العملة وكبح جماح التضخم، رأت أخيراً أن ما لا يمكن حله اقتصادياً يمكن حله سياسياً أو بالأحرى أمنياً، وهنا نحاول معرفة الأسباب غير المفهومة لانخفاض الدولار في السوق الموازية، وإلى متى سيستمر هذا الانخفاض.

صفقة غامضة وتعامل أمني

لم يكن رفض النظام المصرفي دولارات السوق الموازية وحده المؤثر الوحيد على سعر الصرف، فقد تزامن ذلك، وبشكل متعمد من وسائل إعلامية مقربة من السلطة، مع تسريب معلومات عن صفقة مرتقبة بين عدد من الشركات الإماراتية والحكومة المصرية لبيع مدينة رأس الحكمة مقابل 22 مليار دولار، وجرى تداول تسجيلات مُسربة بين المذيع خيري رمضان والخبير الاقتصادي هاني توفيق، يتحدثان فيها عن الصفقة المنتظرة، وتقع مدينة رأس الحكمة على شواطئ البحر المتوسط في طريق الساحل الشمالي الغربي.

 ومع ترويج الإعلاميين المُقربين من السلطة هذه الأنباء على اعتبار أن الصفقة ستكون بمثابة الحل الشافي للأزمة التي يُعاني منها الاقتصاد المصري، وعلى رغم عدم تأكيد أي من الجانب المصري أو الإماراتي هذه الأنباء، إلا أن أخبار الصفقة كانت بالغة التأثير على الذين يأملون في حل الأزمة الراهنة التي فاقمت من الأوضاع المعيشية، لذا سرعان ما هدأت الأسواق وقل الطلب على الدولار، خصوصاً من صغار المتداولين الذين يسعون إلى حفظ قيمة مدخراتهم والتحوط من انخفاض قيمة العملة.

وبالتزامن مع إشاعات ضخ مليارات الدولارات، لجأت الحكومة المصرية إلى الخيار الأمني، وهو القيام بحملات بهدف القبض على تجار العملة والمتداولين في السوق الموازية، ومحاكمتهم بتهم الإضرار بالسوق ومخالفة القوانين، مع تركيز وسائل الإعلام التابعة للسلطة على تكثيف التغطية الإعلامية لهذه الأنباء، لإيصال رسائل تخويف مباشرة للمتداولين الصغار، وإن تناقض ذلك مع كون الحكومة المصرية نفسها هي أكبر المتعاملين في هذه السوق. وقد أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أحد المؤتمرات في حزيران/ يونيو من العام الماضي، أن الدولة كانت تشتري مليارات الدولارات من السوق السوداء لتدبير التزاماتها الخارجية.

تكبيل المستوردين لحماية الجنيه

في الربع الأخير من عام 2023، سمحت البنوك الحكومية للأفراد (مع غض طرف من المركزي المصري)، بإيداعات دولارية من دون السؤال عن مصدر العملة على أمل اجتذاب عملة صعبة إلى داخل الجهاز المصرفي الذي يُعاني من عجز في صافي الأصول الأجنبية بقيمة 27 مليار دولار.

سمحت البنوك أيضاً للمستوردين بإيداع العملة الصعبة لفتح اعتمادات مستندية وتمويل استيراد السلع الخارجية من دون السؤال عن مصدر العملة مقابل 20 في المئة من المبلغ المودع، وهو ما أدى إلى ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية في ظل الطلب المتنامي من المستوردين خلال الأشهر الماضية.

 بداية الشهر الحالي وفي ظل الإجراءات الصارمة التي اتبعتها الحكومة لوقف انهيار العملة، أمر البنك المركزي البنوك بإيقاف فتح الاعتمادات المستندية من دون إثبات مصدر العملة الصعبة، وهو ما حرم المستوردين من إمكان اللجوء إلى السوق السوداء لتدبير العملات الأجنبية، والذي ساهم بدوره في تخفيض قيمة الدولار في السوق السوداء، بحكم انخفاض الطلب عليه.

 لكن ليس من المرجح استمرار انخفاض الدولار، وذلك بحسب تحليل الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي في حديثه لـ”درج”، إذ يقول إن هذا الانخفاض بمصطلح البورصة، هو “هبوط تصحيحي” بما يؤهله للعودة الى الارتفاع.

 وعن المتحكم في سعر الدولار في السوق الموازي، يقول مجدي: “لم نعد نستبعد كون السوق الموازي يتحرّك أساسًا بمعرفة وإدارة الحكومة أو بعض النافذين الذين يتحركون بمعرفتها”.

 ويأتي ذلك كله ضمن استراتيجية السلطات لتوحيد سعر الصرف في السوقين الرسمي والموازي، وذلك عبر كف يد المستوردين عن السوق السوداء، وإشاعة الخوف بين المتداولين بالعملة الصعبة، ما يعني خفض الطلب على الدولار وتخفيض سعره تمهيداً لتوفيره للمستوردين والمتعاملين في البنوك عبر الاقتراض الخارجي. وهو ما يتفق مع وجهة نظر فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي ببنك “غولدمان ساكس”، إذ يقول إن “الاستراتيجية المفضلة للسلطات هي السيطرة على السعر في السوق الموازية قبل توحيد سعر الصرف”، ليكون التخفيض الخامس للعملة المصرية خلال 8 سنوات.

وفي حديث لـ”درج” مع  أحد المستوردين في قطاع الأقمشة والمنسوجات، يقول إنه يستورد المواد الخام عن طريق شراء الدولار من السوق الموازي وتحويلها إلى حسابات الشركات والأشخاص في الخارج الذين يبيعون له البضاعة، ويضيف أنه هو وكثيرين من المستوردين والمصنعين يلجأون إلى هذه الحيلة كبديل عن الاستيراد من خلال البنوك التي أصبحت لا تقبل الدولار من دون السؤال عن مصدره.

 وعن وقف اعتماد الدولار مجهول المصدر للمستثمرين، لفت الدسوقي: “ألقى ذلك بظلاله على المواطن الذي لديه دخل بسيط بالدولار، والذي يسعى الى التبديل في السوق الموازية أولاً بأول لأداء التزاماته، فمع ارتفاع تكلفة الالتزامات كان سعر الصرف في السوق الموازية مكافئاً لها، ليأتي انخفاض سعر الصرف من دون انخفاض تكلفة الالتزامات اليومية للمواطن كعقبة جديدة في مشوار الحياة اليومية”.

 وتتراكم بضائع بنحو 7 مليارات دولار في الموانئ والجمارك المصرية، في انتظار تدبير الحكومة عملة صعبة للإفراج عنها، لذا فمن غير المرجح أن تتمكن الدولة من حل أزمة الاستيراد في ظل شح شديد في الإيرادات الدولارية لديها مع تراجع تحويلات العاملين في الخارج وقناة السويس والصادرات التي تعتمد في معظمها على مدخلات إنتاج مستوردة.

هل حصيلة الصندوق كافية؟

ساهمت الأنباء الخاصة بقرب التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد في تقليل النظرة التشاؤمية للعملة المصرية، وبحسب تقرير بنك الاستثمار اﻷميركي “غولدن مان ساكس”، فإن مصر ستحصل بموجب حزمة التمويل الجديدة على 12 مليار دولار، منها 7 مليارات من الصندوق و5 مليارات عبارة عن تمويلات من الشركاء الإقليميين. 

“الاتفاق وحده لن يحل شيئًا”، هكذا يعلق عبد الهادي على مفاوضات الحكومة مع الصندوق، إذ يرى أن هذا النوع من الاتفاقات يؤجل المشكلات ولا يحلها، مثلما حدث عبر عقود. ويضيف: لا يُتوقع أن تُحل الأزمة بهذه البساطة؛ فالمشكلة سياسية أساساً وتتعلّق بضرورة إعادة هيكلة شاملة لمنطق عمل الاقتصاد والبدء فوراً بمعالجة منظومة الحوافز السلبية التي تدفع المواطنين الى التخلص من الجنيه وهروب المستثمرين من السوق المحلي” حسب قول الباحث.

فشلت مصر في الالتزام بتعهداتها في اتفاقات سابقة، وعلى رأس تلك التعهدات تخفيف قبضة الحكومة تحرير سعر الصرف، وبيع أصول مملوكة للدولة (بعضها مملوك للقوات المسلحة)، بالإضافة إلى المراجعات نصف السنوية لأداء الاقتصاد المصري. وهو ما أعاق الاتفاق السابق، الذي أبرم في كانون الأول/ ديسمبر عام 2022، بقيمة 3 مليارات دولار مع إتاحة تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار من شركائها، وبسبب عدم تنفيذ الحكومة المصرية شروط الصندوق والدول الخليجية، تأجلت المراجعات التي كان من المفترض أن تُعقد في آذار/ مارس وأيلول/ سبتمبر من العام الماضي. وتوقف البرنامج إلى أن دعم الشركاء والحلفاء الدوليون حزمة تمويلية جديدة لمصر، نظراً الى أهميتها على الصعيد الإقليمي والدولي.

 حتى إذا نجحت السلطات المصرية في تنفيذ الاتفاق والالتزام بشروط الصندوق، يتوقع البنك الأميركي أن تمويل الصندوق لن يكفي لحل الأزمة التمويلية ودعم سعر الصرف، إذ تبلغ احتياجات مصر التمويلية خلال السنوات الأربع المقبلة إجمالي 25 مليار دولار. إذ اعتمد البنك في حساباته على فرضية تمديد الدول الخليجية ودائعها في البنك المركزي، ورفع صافي الأصول الأجنبية للبنوك من سالب 27 مليار دولار في الوقت الحالي، إلى صفر، لذلك لن يكون أمام السلطات المصرية أي وسيلة لسد الفجوة التمويلية سوى مزيدٍ من الاقتراض.

أكبر من سعر الصرف

يضع صندوق النقد على رأس مطالبه تخفيض قيمة الجنيه المصري لحل مشكلات عجز ميزان المدفوعات، لكن يبقى السؤال حول إمكان مساهمة تخفيض سعر الصرف في حل التحديات الأساسية التي يواجهها الاقتصاد المصري حالياً، إذ يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصا أن التخفيضات السابقة للجنيه خلال 8 سنوات لم تؤد دورها في كبح التضخم وحل الأزمة، ولن يكون تخفيضاً جديداً مختلفاً عما سبق.

فمن المحتمل أن يؤدي تخفيض قيمة الجنيه إلى ارتفاع التضخم، ومع ارتفاع سعر الفائدة سترتفع تكاليف الاقتراض الداخلي، مع انخفاض معدلات النمو، فضلاً عن الاعتبارات السياسية المتمثلة في تخصيص دعم مالي لحماية الفئات الاجتماعية الأفقر، كما حدث في السابع من شباط/ فبراير الحالي، إذ أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قراراً برفع الحد الأدنى للأجور 50 في المئة ليصل إلى 6 آلاف جنيه شهرياً، بهدف تخفيف الأعباء المعيشية عن المواطنين ضمن أكبر حزمة  بقيمة 180 مليار جنيه، بحسب بيان صادر عن مجلس الوزراء المصري، وبالتالي، ستتكرر الدورات الماضية: استقرار مرحلي لسعر الصرف، اختفاء مؤقت للسوق السوداء، ثم عودة الى شح الدولار مرة أخرى بعد 3 أشهر على الأكثر وانتظار تعويم جديد، في حلقة مفرغة من الأزمات المتتابعة.

وإذا التزمت السلطات بشرط صندوق النقد المتعلق بترك قيمة الجنيه للعرض والطلب  مندون حماية، فإن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع غير مبرر للدولار أمام الجنيه، في ظل عدم توافر مصادر دولارية جديدة واستمرارية وجود فجوة تمويلية في الميزان التجاري، وميزان المدفوعات بفعل أقساط وفوائد الديون، ومن ثم ستتأذى الميزانية العامة للدولة التي تشهد بالفعل تدهوراً في أدائها بعد تحريك سعر الصرف مرات عدة.

وتبتعد شروط صندوق النقد ومطالبه من الحكومة المصرية عن المشكلات الأساسية في الاقتصاد المصري التي يحددها مجدي عبد الهادي في أربعة مستويات، هي المستوى الهيكلي (أي الإنتاج)، والمستوى المؤسسي (منظومة الإدارة والحوافز)، والمستوى المالي (الموارد النقدية) وأخيراً المستوى السيكولوجي (المضاربة). وتركز الحكومة المصرية كل جهدها فقط على المستوى المالي، حسب قول الباحث، بينما تكتفي بالحديث وحده على المستوى الهيكلي.

 على النقيض من ذلك، تبدأ المقاربة الصحيحة بالمعالجة الفورية لمشكلة المضاربة بالتوازي مع توفير الدولار؛ لأن ما تحتاجه البلاد في الوقت الحالي هو استعادة الثقة قبل أي شيء آخر، حسب عبد الهادي، فهي شرط لمعالجة المستويين المالي والسيكولوجي المذكورين، كما هي ضرورة للبدء في معالجة المستويين الأعمق الهيكلي والمؤسسي.