fbpx

هل من “رأس الحكمة” بيع أرض مصر بالقطعة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعلنت السلطات المصريّة توقيع عقد شراكة استثمارية مع الإمارات لـ”تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة”، الصفقة التي وصفها رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بـ”أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ البلاد”، وأشير إلى أنها حلّ سحري لانخفاض سعر الجنيه، لكن بعد إتمام”الصفقة” لم تتغير أسعار الدولار ومواد البناء، وما زال الفقر مهيمناً على حياة الكثير من المصريين، العاجزين عن تأمين قوت يومهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

صديق أبي إنسان مرح، ذكي، يتسم بالدهاء، ومصري أصيل. وبسبب أصالته تلك قرر أن يساعد الدولة الجديدة بكل ما يملك، خاصة وأنه واحد من الذين ناهضوا حكم الإخوان كما ناهض حكم مبارك، لهذا استبشر خيراً عقب أحداث 30 يونيو وقرر أن يقف بجوار البلد مهما كانت الظروف، وحين فُتح صندوق تحيا مصر كان أول المبادرين بالتبرع. كان المبلغ صخماً بحق ما استدعى استغراب، وأحياناً، لوماً من المحيطين، غير أنه كان يردد بيقين ومحبة صادقة: “كله في حب مصر”.

ومع انطلاقة الدعوة لشق قناة سويس جديدة، اشتري على الفور سندات تجاوزت ربع ثروته، وكنتُ أحذره. وكان هو يؤكد بأن العائدات ستكون بالدولار. 

بمناسبة  الحديث عن الدولار، تذكرت الآن حوار دار بيننا منذ عدة سنوات، وقتها قال لي بأنه قد تخلص من جميع الدولارات التي بحوزته، وكان صديق أبي هذا،  يعمل بمجال السياحة ومعظم مُدخراته بالعملة الصعبة. كان حينها على يقين بأن الدولار سيصل إلى ثلاثة جنيهات، وكنت أؤكد له بأن سعر الدولار سيرتفع ، وعليه ألّا ينساق للحملة الإعلامية وتصريحات رئيس الدولة بأن الدولار سيتراجع. 

بالطبع لم يتراجع الدولار، بل أخذ في التزايد المستمر ما أدى إلى خسارة صديق أبي بصورة فادحة، ولم يتحمل الصدمات المتتالية، فأُصيب بجلطة دماغية تسببت في شلل نصفي مؤقت.

كنا نعتقد جميعاً أن ما أصابه نتيجة حتمية للخسائر المالية التي تعرض لها، خاصة أنه هجر العمل والدنيا وانعزل بمسكنه،  لذلك عند زياراتي له كنتُ أتجنب الحديث في السياسة تماماً، لكنه  في الزيارة الأخيرة بادرني هو بالسؤال: “هو صحيح باع رأس الحكمة خلاص؟”

 أعلم أنه يقصد السيسي ويرمي إلى المشروع الذي بات حديث الإعلام والشارع المصري. ولكني، لم أكن أرغب في سحبه لكلام يضايقه. قلت له: “ما تشغلش بالك بحاجة.. اهتم بصحتك وريح بالك”.

ولم يرتح باله، كان يشرد قليلاً ثم يهز رأسه بحسرة ممزوجة بسخرية مريرة وهو يتساءل: “أين الحكمة من رأس الحكمة؟”

كان المبلغ صخماً بحق ما استدعى استغراب، وأحياناً، لوماً من المحيطين، غير أنه كان يردد بيقين ومحبة صادقة: “كله في حب مصر”.

” أين الحكمة من رأس الحكمة؟”

لم ينتظر إجابة على سؤاله، كان يقول أنه زار رأس الحكمة لعدة مرات، وأنها حقاً من أجمل بقاع العالم، خاصة بحيرة الأميرات التي تتميز بالمياه الفيروزية، موضحاً أنه كان يُطلق عليها في العصر الروماني (رأس الكنائس)، وقد ظلت مهجورة من قبل الدولة المصرية حتى عهد الملك فاروق الذي أسس أول قصر له هناك، وهو من أطلق عليها (رأس الحكمة)، ثم جاءت ثورة الضباط الأحرار 1952م لتتحول الملكية من الملك للرؤساء، وبالتبيعة تحول القصر إلى استراحة للرئيس الراحل أنور السادات ومن بعده مبارك.

يؤكد صديق أبي أن الخدمات العامة لم تدخل تلك القرية إلا في عهد مبارك حيث يقُال أن هايدي زوجة علاء مبارك أثناء زياراتها لرأس الحكمة انزلقت قدمها فانكسرت، وحين ذهبوا بها إلى المستشفى العام للمدينة وجدوها مغلقة، إذ كانت بلا معدات أو خدمات أو حتى أطباء، بعدها قرر مبارك أن يُدخل كافة الخدمات من كهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها من الخدمات العامة إلى “القرية.

يُستعجب من حال أهل القرية الذين عانوا من تجاهل الدولة لعهود طويلة، ولم يفكر فيهم رئيس أو حاكم كأبناء لهذه البلد، وهي العادة التي جرت على أبناء سيناء ومطروح وربما الساحل الشمالي بأكمله، الذين عانوا من تهميش الدولة المتعمد لسكان تلك البقعة من الوطن. وحين فكرت الدولة في استثمار تلك المساحات من أراضيها، لم تهتم لحظة بحال سُكانها الذين يواجهون اليوم تهجيراً قسرياً جديداً من قبل السلطة المصرية التي تسعي لتفريغ المنطقة من أجل مشروعها الجديد.

مشروع “رأس الحكمة” يحيطه الغموض، كعادة مشاريع الدولة مؤخراً، حتى أن رجال الإعلام المصري تتضارب أقوالهم، فمرة نسمع عن طرح القرية كاملة للبيع  ومرات أخرى نسمع عن حق انتفاع، حتى العائد من المشروع لا توجد لدينا معلومات دقيقة أو مؤكدة عنه ، مرة 100 مليار دولار، ومرة أخرى 22 مليار، ومرة ثالثة 42 مليار دولار. 

على رغم التضارب والغموض إلا أن رجال الدولة، ورجال الإعلام أيضاَ، يؤكدون أن هذا البيع ما هو غير حل فعال وسحري لأزمة الدولار في مقابل هبوط الجنيه المستمر، خاصة أن موقع رأس الحكمة المتفرد بشواطئه الممتدة من منطقة الضبعة لمرسى مطروح، والتي تبلغ مساحتها في حدود 55 فدانا، تلك المساحة الشاسعة قادرة على استيعاب 300 ألف نسمة بالإضافة إلى جذب 3 مليون سائح، مما دفع السلطة بمصر لاستثمار تلك القرية، ووضعها ضمن أولويات وزارة السياحة التي تطرحها اليوم للبيع!

ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

يبدو أن البيع سياسة الدولة الجديدة لحل أزماتها، وربما لخلق أزمات مبتكرة، فـ نحن أمام رئيس جمهورية لا يتردد في الإعلان عن نفسه كسلعة يرغب في ترويجها قائلاً: “والله العظيم… أنا لو ينفع أتباع لأتباع”.

 ليس من العجيب أن يكون البيع سمة رئيسية للسلطة القائمة في مصر حتى وإن كان هذا البيع يشمل الوطن ذاته والتفريط بأرضه، لذلك دشنت السلطة مشروعها الرئاسي بالتنازل عن تيران وصنافير بحجة أنهما جُزر تابعة لدولة السعودية. وقد كانت تلك الجُزر قديماً شاهدة على معارك حامية بين الجيش الاسرائيلي والجيش المصري أثناء حرب 1967م والتي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية حتى عام 1982م. وهي الجُزر نفسها التي قاتل فيها صديق أبي إلى جوار أبي وقت النكسة، وعاصر معه الهزيمة والنصر حتى رفعا معاً العلم المصري على أرض سيناء بالسادس من أكتوبر 1973م، وهي اللحظة التي كانت، ولا تزال، مصدر فخرهما دوماً.

بخصوص العلم المصري، أذكر الآن موقف الحكومة المصرية بعد التنازل عن الجُزر (تنازل أم بيع؟! غموض آخر)، والمطاردات الأمنية التي كانت تلاحق كل مواطن مصري يتجرأ على رفع علم مصر داخل بلاده، في الوقت الذي كانت تحمي فيه السلطة من يرفع العلم السعودي بالميادين العامة المصرية.

وبمناسبة سيناء نفسها، وتهجير أهلها قسراً بحجة الحرب على الإرهاب وتفريغها من سكانها، وهو التهجير ذاته الذي يعاني منه أهالي جزيرة الوراق حالياً، كنا نهتف في المظاهرات المنددة بغزو العراق قائلين: “اللي بيضرب في العراق بكرة يضرب في الوراق”.

 لم نكن ندرك وقتها أن الأمر سيتعدى حدود السجع، وسيصبح واقعاً أليماً نعاصره ونشاهده، فقوات الأمن المركزي جرفت البيوت بجرافات عملاقة بينما يقف الأهالي في مواجهة الطغيان المستجد الذي لم يرحم أحد، سواء بالاعتقال أو الضرب أو هدم المنازل أو إلقاء القنابل المسيلة للدموع أو القتل إن لزم الأمر. وهو المشهد ذاته الذي تكرر مع أهل مثلث ماسبيرو الذين تعرضوا أيضاً للتهجير القسري، والذي يتكرر مجدداً مع أهالي ضحية الجميل ببورسعيد، واستيلاء السلطة عليها في مقابل تعويضات هزلية.

 يعترف صديق أبي أخيراً بأن الأزمات الصحية المتتالية التي أصابته لم تكن بسبب الضائقة المالية، فـ هو كما يصف نفسه عاش عمر طويل في أحضان الفقر حتى اعتاد عليه، ولم يشغله المال، فالمال يصنعه الرجال (على حد قوله)، إنما حزنه الدفين، والحقيقي يكمن تفريط السلطة اليومي في تراب البلد، هذا التراب الذي ارتوى بدماء أصدقاء المحنة والنصر، والذي يُعرض للبيع يومياً قطعة تلو الأخرى وبحجج مختلفة ومتضاربة.. وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما يحدث لمصلحة مَن؟ 

“الصب في مصلحة المواطن”، تلك الجملة هي الأكثر تداولاً بين أبناء الشعب المصري، وأكثر سخرية أيضاً، بل هي المادة الخام للسخرية المعاصرة المريرة في “مصر الحديثة”، ومع ذلك لا يكف رجال الإعلام المصري عن ترديدها عقب كل قرار سيادي. 

أبرز دليل على عدم مصداقية (مشروع رأس الحكمة) هو “الحيلة ” التي مارستها السلطة، والتي أرادت من خلالها أن تجعل المواطن المصري يشعر بالتغيير الإيجابي والفوري. ففي اليوم التالي على إعلان بيع قرية رأس الحكمة، انخفض  سعر الدولار  في السوق السوداء (من 65 جنيه مصري إلى 55)، وانخفض سعر مواد البناء كالاسمنت والحديد، إلى 10 آلاف جنيه للطن.

تلك “الحيلة” لم تنطل على أبناء الشعب الذي اعتاد التضليل الحكومي والإعلامي، ليرتفع سعر الدولار في اليوم التالي مباشرة لـ 62 جنيه قبل الظهيرة، ثم عاد لموقعه بعد العصر ليستقر عند 65 جنيه، في حين عاد الحديد والإسمنت لسعره القديم قبل الانخفاض.

هذا الحلم بالنجاح السريع من قبل السلطة واجه فشلاً ذريعاً ومُستحقاً، أما على أرض الواقع فلا تزال معظم السلع الأساسية ما بين الارتفاع في الأسعار والاختفاء، مع انتشار البطالة، وسوء الخدمات العامة كالصحة والتعليم،كل هذا يجعلنا نعود لأصل السؤال: التفريط في أرض الوطن.. لمصلحة من؟

 أتذكر الآن صديقي أبي مجدداً، وأشعر أن حاله هو حال شعب كامل قام بثورة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فلم يجد غير الجوع والقهر والتهجير القسري الداخلي والديون المتراكمة. شعب انتفض دفاعاً عن وطن يُباع اليوم بالجملة والتجزئة.