fbpx

“تلات ستات”… وقائع عاملات الجنس في مصر أم وقائع مأساة مجتمع بكامله؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صدر مؤخراً عن دار المرايا كتاب “تلات ستات” الذي “يوثق” فيه الصحافيان محمد العريان وعمر سعيد، ثلاث قصص حقيقة لعاملات جنس في مصر، كاشفاً المخاطر التي تعيشها هذه الفئة، وطبقات القمع الذكورية والقانوني والاجتماعي التي تتعرض له النساء الثلاثة، راسماً صورةً عن مأساة مجتمع بأكمله.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يفتتح كتاب “تلات ستات” فصله الأول، بقصة قصيرة ومكثّفة، صادمة، تشي بحجم المخاطر التي تعيشها عاملات الجنس التجاري في مصر. إذ يتتبع الكتاب الصادر عن دار المرايا للصحافيين محمد العريان وعمر سعيد، ثلاث قصص حقيقية لعاملات جنس في مصر.

 يمكن النظر إلى القصة القصيرة مطلع الكتاب، كقطعة فنية بديعة من وجهة نظر الأدب، على رغم أنها واقعية تماماً، إذ تبدأ بسائق تاكسي،  وهو يغتصب في سيارته بطلة الفصل الأول من الكتاب، “سمرا”، أثناء توصيلها إلى الملهى الليلي الذي تعمل فيه. حجته كانت أنها كانت تبيع جسدها للزبائن، فمن حقّه أن يستبيح جسدها رغماً عنها، ولا يحق لها أن ترفض.

خوفاً من أن يضربها السائق بآلة حادة، تدّعي “سمرا” الاستسلام، ويمنعها الخوف من المقاومة وإظهار الاشمئزاز، “ينتهي” السائق خلال خمس دقائق، ثم يطلب رقم هاتفها، تقنعه بأنه أمتعها كذكر، فيزداد يقينه وغطرسته الهشة التي لا تستند في الواقع إلى شيء سوى لحظة تجبّر زائلة.

عندما يصل بها إلى الملهى الليلي، تطلب منه الانتظار، تحكي للبودي غارد، الذين يأتون بسائق التاكسي ويحطّمون وجهه، يهددونه بقطع عضوه الذكري، فلا يملك ذلك السائق سوى التوسل المهين، في انقلاب كبير لرجولته المتغطرسة.

أصوات من أقصى الهامش

هذا كتاب أزمة، وكذلك ضرورة  تأخرت عقوداً، لأنه في المنطقة العربيّة من الخطر أن نعطي صوتاً لثلاث نساء يعملن في الجنس التجاري، ويعشن في قاع القاهرة وعالمها السفلي والمظلم، كما في كتاب “تلات ستات”.

يبدو الكاتبان واعيين بالمخاطر التي تنتظرهما، لذا كانا حريصين على تقديم ما يشبه الدفاع المسبق عن اختيارهما، موجهاً للجميع، للقوى المحافظة لأسباب مفهومة بالطبع، وللقوى التقدمية تخوفاً من أي خطأ قد لا يناسب الصوابية السياسية.

يعلن الكاتبان منذ البداية، أن تصوّرهما للقصص الثلاث المنتقاة، والتي جاءت من مقابلات مباشرة مع النساء الثلاث، بدأت كرحلة قبل سنوات من خلال العمل على الموضوع نفسه، عبر تقرير صحافي ثم فيلم تسجيلي من إنتاج دار النشر نفسها.

حرص الكاتبان على أن يدونا ثلاث قصص على ألسنة النساء، من دون حكم أخلاقي أو وصم اجتماعي أو وصم ديني أو قانوني، وإن كان ذلك يبدو وفق أحكام المهنة موقفاً بديهياً لا يحتاج إلى شرح، إلا أن الحاجة إلى ذكره، تجعل الأمر حقاً أشبه بعريضة دفاع، تحمي نفسها بقلق.

عمد الكاتبان كذلك، إلى أن يجعلا من حماية خصوصية المعلومات عن العاملات الثلاث، أولوية تسبق المنتج الصحافي أو الثقافي المنشود، وهو أمر فرض عليهما ابتكار مشروع كتابة مختلفة، يفوت فرصة الاشتباك الصحافي المعلوماتي أو حتى الإنتاج السينمائي، وتحرراً من القواعد التي ترسيها الصحافة على نحو تقليدي، لذا لم تأت كتابة توثيقية صرفة، أو أدبية صرفة، لكنها جمعت بين جماليات الحكاية والسيرة الذاتية الأدبية، على أن تلتزم بالحقيقة كمعيار، إذ “تُمد خطوط الأدب بسرد فيه بعض الخيال الملتزم بأمانة الحقائق، كل مشهد في الكتاب كان يحتاج إلى بعض الخيال ليكتمل”.

أزمة ضمائر المُتكلّم

الأزمة الأولى الواضحة أنهم في النهاية، ذكور، لذا توقفاً عند سؤال ليس هيناً، ولا تبدو إجابته واضحة، هل اختيار ضمير المتكلم للسرد، هو منح النساء فرصة للكلام بلسانهن، أم سطو ذكوري مقنع على ذلك اللسان؟ بخاصة أنه ينقل أحاديث عن مشاعر وجسد وتجارب من المستحيل تمثلها من زاوية التقرير الصحافي لمن لم يعشها. لكن في النهاية، يظل استخدام ضمير المتكلم هو الخيار الأفضل، حتى ولو لم يكن الأكثر مثالية، لذا كان قدم التأرجح بين الثقافة والأدب، الحقيقة والخيال، التخلي عن الإسقاطات أو البلاغة التي قد تضيع الحقيقة، لمحاولة الحفاظ على الصوت الأصلي للعاملات حلاً مثالياً، وهو ما نجحا فيه نسبياً.

 كان صوت الكاتبين كمثقفين لا كذكور، واضحاً في بعض المونولوجات التي لا تخلو من تأمل فلسفي، لكن يمكنك في النهاية أن تتبين أن ذلك الصوت الأصيل للنساء ما زال واضحا في تعبيره عن أزمته. على رغم ذلك، فالعمل مع ثلاثتهن لم يكن بسيطاً؛ لأنهن اضطررن لاستجرار صدمات عاشوها من عقود زمنية، والتمعن فيها بأم العين، الى حدّ أن بعض المواقف كنّ يدركن معناها في اللحظة التي يروين تفاصيلها للكاتبين. وما زاد الصعوبة، أن إخراجهن من الموقع الدفاعي للكلام بأريحية كان صعباً.

أسماء مستعارة لطبقات الفقر

اختيار العاملات المستهدفات للحديث أيضاً إشكالية، فهناك أشكال كثيرة معقدة للعمل في الجنس التجاري، كما أن هناك طبقات، بعض من قابلنهن لا يتعدى دخلهن في أفضل الأحوال بضعة آلاف من الجنيهات شهرياً، بينما البعض الآخر يتحصّل على هذا المقابل من زبون واحد، وأخريات يعملن لدى قوادين، ومنهن من يعمل بشكل حرّ، وأخريات ضمن مؤسسات عائلية.

وعلى رغم أن اختيار الكاتبين وقع على ثلاث نساء، من الطبقات الأكثر فقراً بين عاملات الجنس، إلا أنهن مثلن ثلاثة نماذج مختلفة. الأولى في العشرينات، أم عزباء تعمل مع قوادين أو صالات رقص، الثانية أم لأربعة أبناء تعمل في الجنس التجاري خارج مصر، والثالثة ستينية تعمل في صالة جيم، والثلاث نساء “سمرا وعفاف وانشراح”، يحملن في الكتاب أسماء مستعارة، مع الحرص على طمس التفاصيل التي تدل على شخصيتهن وأسرهن ومحيطهن الاجتماعي.

يصف العريان وسعيد النساء الثلاث بأنهن “استثنائيات، يكافحن على مدار الساعة للعيش، مع الوضع في الاعتبار أن انتماءهن إلى الشريحة الأدنى دخلاً يعني دائماً ازدياد المخاطر. اعتداء من زبون، التقاط مرض جنسي، استغلال القوادين أو حتى عنفهم، واستبداد المنظومة القانونية التي تحوّل “الإتجار بالبشر” لـ “فسق وفجور”، فتتحوّل العاملة من مجنٍ عليها إلى جانية، ويحوّل الزبون إلى شاهد على “الإجرام”.

القهر الذكوريّ

لم يكن الكتاب معنياً بالسبب الاجتماعي، لكن القهر الذكوري حاضر وبقوة، إذ يحاصر سمرا على سبيل المثال بين الموت أو الهروب من دون أي سند من تعليم أو مال للنجاة بحياتها، ومن ثم لا تملك إلا الوقوع في أيدي القوادين ورحمتهن.

الاختيار الأدبي للسرد كان حلاً مثالياً، فقد تعطل أشد العقول رجعية أمام سحر الأدب القادر، الذي يعرف القارئ بتناوله الحياة الإنسانية متجاوزاً أحكام واقعنا الضيق، فلا يسعك سوى أن تترك نفسك لإدراك الشروط القاسية التي تحكم هذا العالم، الذي لا نجرؤ في حياتنا العادية على أن نتصور وجوده. على رغم ذلك، لم تغب الحقيقة الصادمة، والتي تدعو الى التفكير عبر سلاحي الفن والتوثيق الصحافي.