fbpx

الحالة المُحيّرة لـ “نيويورك تايمز”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أثار تحقيق صحيفة نيويورك تايمز الأميركية “صرخات من دون كلمات: كيف سلّحَت حماس العنف الجنسي في السابع من أكتوبر”، جدلاً عالمياً حول مصداقية العمل الصحفي وأسلوب جمع الشهادات والانحياز إلى السردية الإسرائيلية على حساب المهنيّة، فهل مازالت مصداقية نيويورك تايمز على حالها ؟.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 28 كانون الأول/ ديسمبر الفائت، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية القصة الصحافية الأكثر إثارة للجدل في الأشهر الأخيرة، وهي تحقيق استقصائي بعنوان “صرخات من دون كلمات: كيف سلّحَت حماس العنف الجنسي في السابع من أكتوبر”، يروي قصصاً مفترضة من مختلف الكيبوتسات والمستوطنات التي هوجمت آنذاك، عن اغتصاباتٍ ممنهجة لنساء إسرائيليات على أيدي مقاتلي حماس يوم هجومهم التاريخي.

على رغم تفاعل العالم مع التحقيق – و”العالم” هنا ليست مبالغة، إذ تفاعل معه رؤساء وقادة حكومات ومئات الصحف والقنوات والأمم المتحدة- إلا أنه جاء بمثابة “بوميرانغ” ارتدّت نحو غرفة أخبار الصحيفة الأميركية النخبوية الأكثر قراءة وتوزيعاً في العالم.

بدأ الأمر مع إنكار عدد من الشخصيات التي روى التحقيق قصتها تفاصيل جاءت فيه، وإدلاء أقارب “المرأة ذات الرداء الأسود” (ذات الجثة المتفحمة)، الشخصية التي شغلت قصتها تقريباً ثلث التحقيق، بشهادات لصحيفة يديعوت أحرونوت تقول إن صحافيي التايمز تواصلوا معهم مراراً وتكراراً وأوضحوا مدى أهمية نشر القصة للهاسبارا؛ وهو جهاز الدعاية الإسرائيلي. 

تزامن ذلك مع انتقاداتٍ وجّهتها وسائل إعلام أخرى ومنصات تدقيق للمعلومات ومنظمات نسوية، شكّكت في الرصانة الصحافية للتحقيق الذي غابت عنه الأدلة الجنائية أو شهادات اختصاصيي الطب الشرعي، ما دفع هيئة تحرير الصحيفة الى تكليف مُعدّ التقرير الرئيسي، الصحافي الحائز جائزة البوليتزر جيفري جيتيلمان، بإعداد تقرير آخر يردّ على تلك الانتقادات.

تطوّر الأمر بعد ذلك إلى الكشف عن حدوث جدل داخلي بين أقسام الصحيفة عن مهنية التحقيق وجاهزيته للنشر بشكله الذي خرج فيه، ما أدّى إلى إعداد حلقة من البرنامج الصوتي الأكثر شعبية بين إنتاجات الصحيفة، بودكاسات “ذا دايلي” (The Daily) كان من المخطط بثّها في 9 كانون الثاني/ يناير الفائت، طرح فيها فريق إعداد البودكاست زاوية جديدة لرواية العنف الجنسي وقدّم مساحة لمساءلة الشهادات والمعلومات الواردة في تحقيق الصحيفة، لكن منظمة “كاميرا”، وهي منظمة ضغط إسرائيلية تسعى الى ترسيخ المنظور الإسرائيلي للأحداث في وسائل الإعلام الغربية، حالت دون نشر الحلقة.

إلى أن جاءت الفضيحة الأكبر أخيراً، إذ أكّد مسؤولون رفيعو المستوى في نيويورك تايمز، يوم الأحد الفائت، أنهم يحققون مع “الصحافية” أنات شوارتز، التي ساهمت في إعداد التحقيق المُشار إليه حول العنف الجنسي المزعوم الذي ارتكبته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وتقارير عدة أخرى لصالح الصحيفة، بعدما تبين خلال الأيام الأخيرة أن صانعة الأفلام الإسرائيلية المستقلة أُعجبت بتدوينة نشرها المحرر ومقدم الراديو الإسرائيلي ديفيد مزراحي فيرثايم على موقع إكس (تويتر سابقاً) دعا فيها إسرائيل إلى تحويل قطاع غزة إلى “مسلخ”، من دون اعتبار لأية ضوابط، إلى جانب إعجابها بمحتويات أخرى تدعو الى الإبادة وتهزأ من الفلسطينيين.

نشاط شوارتز على وسائل التواصل الاجتماعي، دفع الى التشكيك في حيادها والتزامها بالمبادئ الصحافية العامة للنزاهة والحياد، وبجديّة المعايير الناظمة التي تتبجّح بها نيويورك تايمز أمام قرّائها، إذ بدأت تُثار تساؤلات حول جدارة شوارتز، التي تعمل كمخرجة أفلام في هيئة البث الإسرائيلية، بحسب معلومات حسابها على موقع لينكد إن، وابن أخيها آدم سيلا، الصحافي الشاب الذي تخرج منذ أقل من عامين.

كلاهما لا يملكان في سجلّهما المهني أي أعمال أو خبرات مُثبتة في الصحافة الاستقصائية، لكنهما شاركا جيفري جيتيلمان في إعداد القصة التي ظهرت كافتتاحية الصفحة الأولى من العدد الأخير من نسخة الصحيفة المطبوعة للعام الفائت؛ وهو مسعى يفني فيه صحافيون حائزون جوائز سنوات من مسيرتهم للوصول إليه.

الانحياز التأكيدي والحاجة لنشر القصة

صحيفة نيويورك تايمز لديها قواعد ومعايير صارمة للعمل معها، هذا ما يمكن أي صحافي حاول التواصل أو العمل مع الصحيفة سابقاً إخبارك به. من الناحية الأخرى، لم تكن لدى شوارتز خبرة سابقة في إعداد التقارير، خصوصاً من هذا النوع وعلى هذه الدرجة من الحساسية، لكن شريكها (ومديرها المؤقت) في التحقيق، جيفري جيتيلمان، المحرر الدولي الذي يعمل مع مساعدي الأخبار والصحافيين المستقلين على تطوير القصص عندما يُرسل إلى أحد المكاتب، شرح لها الأساسيات، كما قالت شوارتز في مقابلة إذاعية يوم 3 كانون الثاني، أنتجتها القناة 12 الإسرائيلية وأُجريت باللغة العبرية.

أقرّت  شوارتز في المقابلة، بأن جيتيلمان كان قلقاً من إمكان تلبية توصيات هيئة التحرير بالحصول على مصدرين على الأقل لكل التفاصيل التي توضع في المقالة، والتحقق ثنائياً من المعلومات التي ترد فيها (أي مطابقتها من مصدرين مختلفين). تقول شوارتز: “هل لدينا أدلة جنائية؟ هل لدينا أدلة مرئية؟ بصرف النظر عن إخبار قارئنا بأن ‘هذا حدث’، ماذا يمكننا أن نقول؟ هل يمكننا أن نقول ماذا حدث لمن؟”. لكن جيتيلمان كان صريحاً إلى حدّ ما في حديث لاحق برر موقفه قائلاً: “أنا لا أبحث عن الدليل، فـ ‘الدليل’ مصطلح قانوني، وهذه ليست مهمتي. مهمتي رواية القصص”.

أعربت شوارتز عن تردّدها في البداية من تولّي المهمة لسببين: الأول هو أنها لم ترغب في النظر إلى الصور المرئية للاعتداءات المحتملة، والثاني إقراراً منها بأنها تفتقر إلى الخبرة اللازمة لإجراء مثل هذا النوع من التحقيقات، “ضحايا الاعتداء الجنسي هم النساء اللاتي تعرضن لشيء ما، ثم يأتين ويجلسن أمام امرأة للتحدث حياله، من أنا على أي حال لأكون تلك المرأة؟ ليست لدي أي مؤهلات لتبوؤ ذلك المكان”.

مع ذلك، بدأت العمل مع جيتيلمان في القصة، حسب ما أوضحت في مقابلة البودكاست. وقالت مصادر عدة في غرفة أخبار مطلعة على العملية لموقع ذا إنترسبت الأميركي، إن شوارتز وابن أخيها سيلا قاما بالغالبية العظمى من التقارير الميدانية، بينما ركز جيتيلمان على التأطير والكتابة.

وعلى رغم ما يشي به نشاط شوارتز على وسائل التواصل الاجتماعي من عداء للفلسطينيين، وافتقارها إلى الخبرة في الصحافة الاستقصائية، لكنها لم تكلّف نفسها وسيلا بتغطية واحدة من أكثر قصص الحرب الصحافية أهمية، بل جاء ذلك من القيادة العليا في صحيفة نيويورك تايمز.

كشفت شوارتز عن ذلك في مقابلة إذاعية أخرى مع إذاعة الجيش الإسرائيلي في 31 كانون الأول/ ديسمبر العام الفائت (أي بعد نشر القصة بيومين)، فأشارت: “قالت صحيفة نيويورك تايمز، ‘دعونا نجري تحقيقاً في العنف الجنسي’، كان الأمر يتعلق أكثر بالحاجة إلى نشر تلك القصة”. ليقاطعها مضيفها قائلاً: “لقد كان الأمر برمّته اقتراحاً من صحيفة نيويورك تايمز”، لتردّ شوارتز: “بشكل لا لبس فيه. بوضوح. لا شكّ في ذلك. بالطبع. لقد دعمتنا الصحيفة بنسبة 200 في المئة، وأعطتنا الوقت والاستثمار والموارد اللازمة للتعمّق في هذا التحقيق بقدر الحاجة”.

قد تكون الفضيحة الأكبر هي عملية إعداد التقرير نفسه، والأثر الذي غيّر حياة الآلاف من الفلسطينيين الذين بُرّرت وفاتهم بالعنف الجنسي المنهجي المزعوم الذي مارسته حماس، والذي زعمت الصحيفة أنها كشفته. في مقابلة البودكاست، ثمة تفاصيل عن شوارتز وجهودها المكثفة للحصول على تأكيد من المستشفيات الإسرائيلية، ومراكز أزمات الاغتصاب، ومرافق التعافي من الصدمات، والخطوط الساخنة للاعتداءات الجنسية في إسرائيل، بالإضافة إلى عدم قدرتها على الحصول على تأكيد واحد من أي منها.

وما يجدر التأكيد عليه هنا، أن السؤال لم يكن أبداً عمّا إذا كانت أعمال الاعتداء الجنسي قد وقعت في السابع من تشرين الأول، فالاغتصاب ليس أمراً غير مألوف في عملية إرسال الآلاف من المقاتلين الغاضبين إلى أراضي العدو لتنفيذ مهمة شملت قتل مئات الأهداف العشوائية وأسرها، ناهيك بحقيقة أن مئات المدنيين الفلسطينيين تدفقوا إلى إسرائيل من غزة في ذلك اليوم في “الموجة الثانية”، ما ساهم في المشاركة في تأزيم الفوضى والعنف.

القضية المركزية هنا هي ما إذا كانت صحيفة نيويورك تايمز قد قدمت أدلة قوية لدعم ادعائها بأن هناك تفاصيل أُبلغ عنها حديثاً “تثبت أن الهجمات ضد النساء لم تكن أحداثاً معزولة، بل تشكل جزءاً من نمط أوسع من العنف القائم على النوع الاجتماعي في 7 تشرين الأول”، في استطرادٍ للادعاء الأوسع الذي ورد في العنوان الرئيسي أن حماس استخدمت العنف الجنسي عمداً كسلاح حرب.

تقول شوارتز في مقابلتها، إنها بدأت عملها حول أحداث العنف التي وقعت يوم 7 تشرين الأول من خلال زيارة مرافق “الغرفة 4” المخصصة في 11 مستشفى إسرائيلياً، والتي تفحص الضحايا المحتملين للعنف الجنسي وتعالجهم، بما في ذلك الاغتصاب. “بدايةً اتصلت بهم جميعاً، وقالوا لي: لا، لم نتلق أي شكوى بشأن اعتداء جنسي”. “لقد أجريت مقابلات كثيرة لم تؤد إلى أي شيء. على سبيل المثال، ذهبت إلى جميع أنواع المستشفيات النفسية، وجلست أمام الموظفين، وجميعهم قدموا الإجابة نفسها حول عدم التقاء أحد منهم بضحية اعتداء جنسي”.

كانت الخطوة التالية لشوارتز هي الاتصال بمدير الخط الساخن للاعتداء الجنسي في جنوب إسرائيل، وهو الأمر الذي أثبت عدم جدواه كذلك. إذ أخبرها أنه ليست لديهم أي تقارير عن العنف الجنسي. ووصفت المكالمة بأنها “محادثة متعمقة ومجنونة”، إذ ضغطت للحصول على تقارير لحالاتٍ محددة. تقول: “هل اتصل بك أحد؟ هل سمعت أي شيء؟ كيف يمكن أنكم لم تتلقوا شيئاً؟”.

عندما بدأت شوارتز تكثيف جهودها الخاصة للعثور على أدلة على الاعتداء الجنسي، بدأت تظهر أول ادعاءات الاغتصاب. فادعى شخص وُصف في مقابلات إعلامية بأنه مسعف من “الوحدة الطبية 669” التابعة للقوات الجوية الإسرائيلية، أنه رأى أدلة على تعرّض فتاتين مراهقتين في كيبوتس ناحل عوز للاغتصاب والقتل في غرفة نومهما.

ومع ذلك، قدم الرجل ادعاءات شنيعة أخرى، ما أدى إلى التشكيك في شهاداته بنهاية المطاف. إذ ادعى أن منقذاً آخر “أخرج من القمامة” طفلاً تعرض للطعن مرات عدة، وقال أيضاً إنه رأى “عبارات عربية مكتوبة على مداخل المنازل… بدماء الناس الذين كانوا يعيشون فيها”، فيما لم توثق أي صورة مثل هذه الرسائل، وكُشف زيف قصة الطفل في سلة المهملات. أما المشكلة الأكبر المتعلقة بتحقيق التايمز، فهي أنه لا توجد فتاتان في الكيبوتس تناسبان وصف المصدر. وفي مقابلات لاحقة، غُيِّر الموقع إلى كيبوتس بئيري. لكن لم يتطابق أي من الضحايا الذين قُتلوا هناك مع ذلك الوصف أيضاً، بحسب ما ذكرت صحيفة موندوويس.

بعد رؤية هذه المقابلات، بدأت شوارتز بالاتصال بالناس في كيبوتس بئيري والكيبوتسات الأخرى التي استُهدفت في 7 تشرين الأول، في محاولة لتتبّع القصة. “لا شيء”، قالت “لم يكن هناك شيء. لم ير أو يسمع أحد أي شيء”. ثم وصلت إلى “مسعف الوحدة 669” الذي نقل إلى شوارتز القصة نفسها التي رواها لوسائل الإعلام الأخرى، والتي تقول إنها أقنعتها بوجود طبيعة منهجية للعنف الجنسي. “أقول لنفسي، حسناً، لقد حدث ذلك، لقد رأى شخص ما يحدث في بئيري، لذلك لا يمكن أن يكون شخصاً واحداً فقط، لأنهما فتاتان. أختان. وحدث الأمر في الغرفة. شيء ما بالأمر منهجي، شيء ما يبدو لي أنه ليس عشوائياً”.

ولفتت شوارتز الى أنها بدأت بعد ذلك سلسلة من المحادثات المكثفة مع مسؤولين إسرائيليين من “زاكا”، وهي منظمة إنقاذ خاصة يهودية متشددة، العاملون فيها ليسوا أطباء شرعيين مدربين أو خبراء في مسرح الجريمة، وثقت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إسائتها التعامل مع الأدلة ونشر قصص كاذبة عدة حول أحداث 7 تشرين الأول، بما في ذلك الادعاءات الكاذبة بقطع رؤوس الرضّع واستخراج الجنين من جسم المرأة الحامل.

وقال يوسي لانداو، أحد كبار مسؤولي زاكا، واصفاً عمل المجموعة في مواقع هجوم 7 تشرين الأول: “عندما نذهب إلى المنزل، نستخدم خيالنا. كانت الجثث تخبرنا بما حدث”. لكن لانداو ظهر في تحقيق التايمز على أية حال، ولم يُذكر أي شيء عن سجلّه الموثق في نشر القصص المثيرة عن الفظائع التي ثبت كذبها لاحقاً. وبينما واصلت شوارتز التواصل على الهاتف مع مسؤولي الإنقاذ، بدأت تشاهد مقابلات تبثها القنوات الإخبارية الدولية مع شاري مينديز، وهي مهندسة معمارية أميركية تعمل في وحدة حاخامية تابعة للجيش الإسرائيلي، زعمت فيها مينديز أنها رأت أدلة ضخمة على الاعتداءات الجنسيّة.

في الوقت نفسه، قالت شوارتز إنها شعرت بالتضارب أحياناً، وتساءلت عما إذا كانت أصبحت مقتنعة بمهنية القصة الشاملة على وجه التحديد، بعدما وجدت نفسها تبحث فقط عن أدلة تدعم ادعاءها: “ظللت أتساءل طوال الوقت، عما إذا كنت أسمع عن الاغتصاب وأشاهده وأفكر فيه، وما إذا كان ذلك لمجرد أنني أسعى نحو ذلك”. لكنها دفعت تلك الشكوك جانباً بحلول الوقت الذي أجرت فيه مقابلة مع مينديز، التي اعتمد تحقيق نيويورك تايمز شهادتها أيضاً، رفقة عدد من الشهود الآخرين الذين لديهم سجلات حافلة من تقديم ادعاءات غير موثوقة ويفتقرون إلى أوراق اعتماد الطب الشرعي، من دون ذكر أي أسئلة حول مصداقية مينديز.

في البودكاست، قالت شوارتز إن خطوتها التالية هي الذهاب إلى منشأة علاجية شاملة جديدة أُنشئت لمعالجة صدمة ضحايا 7 تشرين الأول، بخاصة أولئك الذين هوجموا في مهرجان نوفا الموسيقي الشهير. إذ افتُتح المرفق بعد أسبوع من الهجمات، وبدأ الترحيب بمئات الناجين الذين يمكنهم طلب المشورة، وممارسة اليوغا، وتلقي الطب البديل، بالإضافة إلى الوخز بالإبر، والشفاء الصوتي، والعلاجات الانعكاسية.

أطلقوا عليه اسم “ميرهاڤ ماربي”، أو مساحة الشفاء. وقالت شوارتز مرة أخرى في مقابلة البودكاست، إنها لم تجد أي دليل مباشر على عمليات اغتصاب أو عنف جنسي في زياراتها المتكررة للمرفق. وأعربت عن إحباطها من المعالجين والمستشارين في المنشأة، قائلة إنهم شاركوا في ما وصفته بـ “مؤامرة صمت”. وأضافت: “الجميع، حتى أولئك الذين سمعوا هذه الأشياء من الناس، شعروا بالتزام شديد تجاه مرضاهم، أو حتى تجاه الأشخاص الذين ساعدوا مرضاهم فقط، وعدم الكشف عن تلك الأشياء”.

في النهاية، خرجت شوارتز فقط بالتلميحات والبيانات العامة من المعالجين حول كيفية تعامل الناس مع الصدمات، بما في ذلك العنف الجنسي والاغتصاب. وقالت إن الضحايا المحتملين قد يخجلون من التحدث علناً، أو يشعرون بالذنب لدى الناجين، أو ما زالوا في حالة صدمة. وتكهنت شوارتز بأن ذلك قد يعود جزئياً الى طبيعة المجتمع الإسرائيلي المحافظة، وأضافت: “علاوة على ذلك، ربما يكون هناك البعد الإضافي للجانب الديني الوطني، وهو أن الفعل قام به إرهابي، أو شخص من حماس. كان هناك الكثير والكثير من الطبقات التي دفعت الضحايا الى عدم التحدّث”.

سُئلت شوارتز في المقابلة مع القناة 12 العبرية، عما إذا كانت هناك شهادات مباشرة لنساء نجون من الاغتصاب في 7 تشرين الأول. فأجابت: “لا أستطيع أن أتحدث عن هذا حقاً، لكن الغالبية العظمى من النساء اللاتي تعرضن للاعتداء الجنسي في ذلك اليوم، أُطلقت النار عليهن بعد ذلك مباشرة، وهنا يكبر عدد الضحايا، فالغالبية جثث، بينما تمكنت بعض النساء من الفرار والبقاء على قيد الحياة”.

وأضافت: “أدرك أهمية فصل الوعي والمشاعر عندما يتعلق الأمر بالاعتداء الجنسي، لذلك في كثير من الأحيان لا يتذكرن. إنهنّ لا يتذكرن كل شيء. إنهن يتذكرن أجزاء من الأحداث، ولا يمكنهن دائماً وصف كيف انتهى بهن الأمر على الطريق وكيف أُنقذن”.

وسلّطت شوارتز الضوء على أن تحقيق التايمز الذي استمر لمدة شهرين، كان لا يزال قيد التحرير والمراجعة عندما بدأت تشعر بالقلق بشأن التوقيت. “لذلك قلت لنفسي: ‘نحن نفتقد الزخم. ربما لا تعالج الأمم المتحدة مسألة الاعتداء الجنسي لأنه لن تخرج أي وسيلة إعلامية بإعلان حول ما حدث هناك. وإذا لم تُنشر قصة التايمز قريباً، فقد لا تكون مثيرة للاهتمام بعد الآن”. لكنها أوضحت أن سبب تأخير النشر شُرح لها داخلياً من باب “لا نريد أن نجعل الناس حزينين قبل عيد الميلاد”.

من ناحية أخرى، لفتت أيضاً الى أن المصادر التي تحدثت إليها في الشرطة الإسرائيلية ضغطت عليها للإسراع في النشر. إذ سألوها: “ماذا، ألا تعتقد صحيفة نيويورك تايمز أنه كانت هناك اعتداءات جنسية هنا؟”. شعرت شوارتز وكأنها كانت بين مطرقة كونها إسرائيلية وسندان العمل لدى صحيفة نيويورك تايمز وما يلقيه ذلك من عبء، بحسب وصفها.

نُشرت القصة في نهاية المطاف ونالت ما نالته من أصداء واحتفاء وانتقاداتٍ وتبعات، وكان مقدّراً لها ذلك على رغم العقبات وتشكيكات زملاء شوارتز في الاجتماعات التحريرية الأسبوعية التي يجريها محررو نيويورك تايمز وكتابها، إذ قالت إنها اطلعت على الملفات الثلاثة التي كان جيتيلمان في صدد العمل عليها عندما بدأت تعاونها مع الصحيفة في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، وكان العنف الجنسي واحداً منها.

في المقابل، قال مراسل ومحرر آخر للصحيفة، لموقع ذا إنترسبت، “سيكون الكثير من التركيز موجهاً بشكل مفهوم، وعن حق، إلى شوارتز، ولكن من الواضح أن ذلك قرار تحريري سيّئ [نشر القصة] يقوض كل العمل الرائع الآخر الذي يُنجز بلا كلل عبر مختلف أقسام الصحيفة، سواء كان مرتبطاً بالحرب أو غير مرتبط بها على الإطلاق”.

نيويورك تايمز… من يضمنها يضمن “اللغة الصحيحة” 

بعد وقت قصير من اندلاع الحرب، اشتكى بعض المحررين والمراسلين في صحيفة نيويورك تايمز من أن معايير الصحيفة تمنعهم من الإشارة إلى حماس على أنها “منظمة إرهابية”. كان الأساس المنطقي لقسم المعايير، الذي أداره الصحافي فيليب كوربيت لمدة 14 عاماً، هو أن حماس كانت الحاكم الفعلي لمنطقة معينة، ذات تمثيل سياسي، وليست جماعة إرهابية عديمة الجنسية. ووفقاً لهذه الحجة، فإن قتل المدنيين عمداً لم يكن كافياً لوصف مجموعة ما بأنها إرهابية، لأن هذه التسمية قد تمتد إلى جهات دولية عدة ونطاق واسع.

وقالت مصادر عدة إن كوربيت دافع، بعد السابع من تشرين الأول، عن هذه السياسة في مواجهة الضغوط، لكنه خسر. وفي 19 من الشهر ذاته، أُرسل بريد إلكتروني نيابة عن المحرر التنفيذي جو كان، يفيد بأن كوربيت طلب التنحي عن منصبه. وأوضحت إدارة التايمز: “بعد 14 عاماً من العمل كتجسيد لمعايير التايمز، أخبرنا فيل كوربيت أنه يود التراجع قليلاً والسماح لشخص آخر بتولّي هذا الدور القيادي الحاسم”. فيما قالت مصادر في غرفة أخبار الصحيفة، إن الخطوة مرتبطة بالضغوط التي تعرض لها لتحوير التغطية لصالح إسرائيل، خصوصاً أن الصحيفة كانت موضع انتقاد وضغط من المنظمات الإسرائيلية منذ بداية الحرب.

من الواضح أن شوارتز، وتحقيق “صرخات من دون أصوات”، هما مجرد أعراض لمشكلة أكبر بكثير تتعلّق بالتغطية الإسرائيلية/ الفلسطينية الصادرة عن صحيفة نيويورك تايمز. الدليل الأبرز على كيفية وصول الصحيفة إلى ما وصلت إليه، يأتي من نظرة فاحصة على محررها التنفيذي جو كان، الذي أظهر احتفاءً خاصاً بصدور التحقيق إياه. إذ إنَّ والد كان، ليو كان، كان عضواً منذ فترة طويلة في مجلس إدارة لجنة الدقة في إعداد التقارير والتحليلات في الشرق الأوسط، أو منظمة “كاميرا” التي أشرنا إليها في بداية التقرير، والتي سعت، لعقود، إلى فرض الالتزام بالخط المؤيد لإسرائيل في تغطية وسائل الإعلام من خلال تشويه سمعة الصحافيين الذين لا تتفق مع عملهم وشن حملات مقاطعة وتشهير ضد المؤسسات الإخبارية التي تعتقد أنها لا تستجيب لطلباتها ” باحترام كافٍ”.

ووفقاً للملف التعريفي الذي نشرته صحيفة التايمز عن جو كان، والذي نُشر عندما أصبح المحرر التنفيذي للصحيفة في عام 2022، فإن الأب والابن يقومان في كثير من الأحيان “بتشريح التغطية الصحافية معاً”. وبينما تنفي صحيفة التايمز أن يكون لـ “كاميرا” أي تأثير خاص على تقاريرها، تشير الأخيرة إلى عشرات التصحيحات التي أجرتها الصحيفة بناءً على طلباتها، آخرها كان في 26 شباط/ فبراير الماضي.

إضافة إلى ذلك، لم تكن تلك العلاقة العائلية الوحيدة التي تثير تساؤلات جدية حول قدرة الصحيفة على تغطية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بطريقة تتناسب مع هالة النزاهة الصحافية البرّاقة التي تخلقها. إذ كشف الصحافيان الاستقصائيان دانييل بوغوسلو وريان غريم، أنه “على مدى العشرين عاماً الماضية، تطوّع أبناء ثلاثة مراسلين لصحيفة التايمز في جيش الدفاع الإسرائيلي بينما كان الآباء يغطون القضايا المتعلّقة بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”.

وبحسب ما يذكره زيف شافيتز، المستشار الإعلامي لمناحيم بيغن في السبعينات ورئيس مكتب الإعلام الحكومي في ديوانه، فإن نيويورك تايمز تُعتبر لدى صانع القرار الإسرائيلي، ومنذ عقود طويلة، وسيلة الإعلام الأهم التي يجب التفكير دوماً بكيفية التعامل معها واحتوائها.

وفي ضوء ذلك، يمكن تبرير شغل أبراهام روزنتال منصب رئيس تحرير الصحيفة في تلك الفترة، وهو أحد أشدّ المتطرفين في دعمهم لإسرائيل، إضافة إلى خلفه ماكس فرانكل، والذي شغل منصب المحرر التنفيذي العام في الصحيفة خلال فترة الانتفاضة الأولى، والذي كان أشد ولاءً لإسرائيل، حتّى أنّه قال في مذكّراته: “لقد كنت مكرّساً نفسي لإسرائيل إلى حد فاق قدرتي على التعبير”، بحسب ما ينقل إريك ألترمان في كتابه We Are Not One.

الجدير ذكره أن الصحيفة تكتّمت لعقود على مصطلحات أساسية ذات علاقة بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وأرضه، وعلى رأسها كلمة “النكبة”، التي لم تظهر في أي مقال في نيويورك تايمز إلا عام 1998، وضمن ملف خاص في الذكرى الخمسين لتأسيس دولة الاحتلال، على رغم شيوع الكلمة وانتشارها في الخطاب العام في الولايات المتحدة في ما يتعلق بفلسطين، لا سيما في الأوساط الأكاديمية وبين الطلبة في الجامعات.

وبحسب دراسة صادرة عن معهد مركز جون شورينستاين التابع لجامعة هارفارد حول تغطية الصحيفة القضية الفلسطينية، فقد ظلّت الكلمة حبيسة المخزن التحريري في التايمز، وبما يعكس غيابها المطلق في البيت الأبيض والإدارات الأميركية المتعاقبة، وغياب هذه الكلمة في التايمز، وهي الصحيفة السائدة، يعني غيابها في النقاش الصحافي السائد/العام، على اعتبار أنّها الصحيفة التي لها نصيب غير قليل في تشكيل هذا السائد وتحديد المفردات و”اللغة الصحيحة” التي يجدر اللجوء إليها أولاً لتوصيف القضايا الراهنة، بحسب وصف الباحث الصحافي والكاتب في “مجلة الصحافة” محمد زيدان. 

لكن تحت هذه الطبقات السطحية من التحيّز ضد الفلسطينيين، قد تكون هناك قضية أعمق وأبسط. وكما جادل نعوم تشومسكي وشريكه الراحل إدوارد هيرمان في كتاب Manufacturing Consent، فإن أحد التحيزات المميزة لوسائل الإعلام الرئيسية بشكل عام، كان الاحترام العميق والتقارب الأيديولوجي مع اعتبارات الأمن القومي الأميركي.

وكان ذلك صحيحاً بالفعل عند تغطية الصحيفة حرب فيتنام؛ عندما قصف الرئيسان ليندون جونسون وريتشارد نيكسون البلد الآسيوي لسحق ثورة الفلاحين. وكان ذلك صحيحاً بالنسبة الى حرب العراق، عندما نشرت صحيفة التايمز من دون أي انتقاد أو مساءلة، أكاذيب إدارة جورج دبليو بوش حول “أسلحة الدمار الشامل”، وإن اعتذرت لاحقاً. لذا، لا ينبغي لنا أن نتفاجأ عندما نكتشف أن هذا صحيحاً في ما يتعلق بحرب الإبادة في غزة.

ألهمت هذه الديناميكية نكتة كلاسيكية عن زيارة تشومسكي لطبيب الأسنان، رواها جور فيدال وكريستوفر هيتشنز، إذ قال طبيب الأسنان لتشومسكي: “أسنانك بخير ولكن عليك أن تتوقف عن صَرّها”. اعترض تشومسكي قائلاً إنه لم يصرّ أسنانه أبداً، لكن طبيب الأسنان أكد أنه فعل ذلك بدليل تآكل المينا. وكانت زوجة تشومسكي حاضرة كذلك، وأكدت لطبيب الأسنان أن تشومسكي لم يكن يصرّ على أسنانه ليلاً أثناء نومه. في وقت لاحق، اكتشف الزوجان حقيقة الأمر. كان تشومسكي يصرّ دوماً على أسنانه عندما تكون زوجته خارج الغرفة، بينما يشرب قهوة الصباح “ويقرأ صحيفة نيويورك تايمز”.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.