fbpx

مصر: الوصاية الدينيّة والسلطويّة السياسيّة ما بين الأزهر والكنيسة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على الرغم من عدم دستورية مادة “ازدراء الأديان” في مصر، ومخالفتها الحق في التعبير وحرية الاعتقاد، إلا أن العمل بها أيضاً يمثل الوصاية الدينية التي تسعى الدولة الى فرضها، إما من خلال توجيه تلك التهمة الى من يعارض الدين الإسلامي، أو من خلال الكنيسة نفسها التي تلجأ إليها، لتفرض هي الأخرى الوصاية على من يبحث عن إجابات أو يفتح نقاشات دينية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الثالث من كانون الثاني/ يناير، توجه كيرلس لقسم الشرطة لتحرير محضر، يشكو فيه شخصين حضرا إلى مقر عمله، وقاما بتهديده، ليجد نفسه متهماً إثر محضر حُرر ضده وأمر ضبط وإحضار على ذمة التحقيقات  بتهمة ازدراء الديانة المسيحية.

كيرلس رفعت، مدرس مساعد في كلية الهندسة بجامعة المنوفية، دخل في مناقشات دينية مع عدد من كهنة كنيسة الشهيد مار جرجس بمدينة منوف، إلا أن تلك المناقشات انتهت بتحرير الأنبا بنيامين مطران المنوفية، بلاغاً يتهم فيه كيرلس بازدراء الديانة المسيحية.

وجهت النيابة العامة لكيرلس تهم “الاعتداء على المبادئ والقيم الأسرية في المجتمع المصري”، و”انتهاك حرمة الحياة الخاصة” للأنبا بنيامين مطران المنوفية، وسبّه وقذفه، و”ازدراء الدين المسيحي”. 

سُجلت الدعوى تحت رقم 144 لسنة 2024 جنح اقتصادية طنطا، والتي قررت المحكمة إثرها حبسه ستة أشهر مع وقف التنفيذ، وغرامة 100 ألف جنيه، إضافة إلى تعويض مدني مؤقت قدره 20 ألف جنيه.

الحبس نتيجة النقاش!

النقاشات الدينية، التي من المفترض أن تبدأ وتنتهي بنقاشات تبحث عن أسئلة، زجت بكيرلس في الحبس. ووفقاً لشقيقه أبانوب، فإن الأمر وصل الى منعه من دخول الكنيسة، بعدما اتهمه عدد من كهنة كنيسة مار جرجس بأنه بروتستانتي، ومُنع من دخول الكنيسة ومن الخدمة الكنسية في الكنائس الأرثوذكسية.

المنع السابق هو ما دفعه إلى الذهاب لتحرير محضر، بعد شكوته للأنبا بنيامين مطران المنوفية، ليجد نفسه مطلوباً على ذمة قضية، والتحفظ عليه.

 لجأت أسرة كيرلس وفقاً لشقيقه إلى المحاولات الودية، والتحدث للأنبا مقدم البلاغ، الذي وضع شرطاً واحداً أمام التنازل عن البلاغ: “أخوك يسيب المنوفية خالص ويكتب تعهد على نفسه، ويسيب الجامعة وميدخلش أي كنيسة في المنوفية”.

ما تعرض له كيرلس، يعكس بوضوح شكل الوصاية الدينية التي تتبناها المؤسسات الدينية في مصر، التي تتبع نهج الدولة. ففي حالة كيرلس، تأتي المفارقة أن مادة ازدراء الأديان، أو المعروفة باسم 98 من القانون المصري، كانت توجه غالباً ضد الأقباط، لكن هذه المرة أحد رجال الدين المسيحيين هو من لجأ إليها، ضد أحد أبناء الكنيسة، لا لشيء سوى فرض الوصاية.

وصاية المؤسسات الدينيّة وسطوة القانون

الكنيسة ليست وحدها هي من تفرض تلك الوصاية، بل المؤسسات الإسلامية أيضاً، مثل الهجمات الأمنية التي انتشرت منذ فترة ضد المجاهرين بالإفطار في نهار رمضان، على الرغم من أنه فعل يندرج تحت الحريّة الشخصية، ولا يهم أي شخص سوى صاحبه، إلا أن المؤسسة الدينية تدخلت به، لتفرض وصايتها الدينية والأخلاقية على المواطنين، وتعاقب المخالفين لمعتقداتها.

عام 2016، نشرت دار الإفتاء عبر صفحتها الرسمية على “فيسبوك”، فتوى مفادها أن “الجهر بالإفطار في نهار رمضان فيه اعتداء على مشاعر المسلمين”، ووصفت الأمر بأنه “لا يدخل ضمن الحرية الشخصية للإنسان بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام ومجاهرة بالمعاصي”. حذفت الدار نص الفتوى من صفحتها بعد هجوم عليها، واتهامات بأنها فتوى تحريضية ضد المجاهرين بالإفطار.

الكاتب والباحث في العلوم السياسية خليل العناني، يرى أن تلك الوصاية ترجمة لتفكير الأنظمة السلطوية، التي تتحكم في الأجهزة كافة، من بينها المؤسسات الدينية، وتسمح بالخوض في كل ما له علاقة بالفرد، وتسمح أيضاً بفرض الوصاية الأخلاقية عليه، وأقرب مثال هو القبض على عدد من مستخدمي تطبيق “تيك توك”، وتوجيه تهم نشر الفسق والفجور. 

يتابع العناني قائلاً إن السلطوية الدينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلطوية السياسية، فالأنظمة السلطوية تسعى دائماً الى فرض تسلّطها القيمي والأخلاقي على المجتمع.

عام 2017، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية،  تعليقاً مفصلاً على مقترح قانون مكافحة الكراهية والعنف باسم الدين، والذي قدمته مشيخة الأزهر وأعلنت إرساله الى رئاسة الجمهورية. 

وأوضحت أنه مشروع قاصر عن مواجهة خطاب الكراهية والتحريض الديني، كما أنه يعد بمزيد من التضييق على مساحات الحريات الدينية كنوع من أنواع الوصاية المنحازة إلى تقييد حرية المعتقد وحرية التعبير، لصالح أفكار وتوجهات المؤسسة الدينية الرسمية، بالشكل الذي يحافظ على نفوذها وهيمنتها المدعومة من الدولة.

عام 2020، وافقت اللجنة الدينية في مجلس النواب من حيث المبدأ، على مشروع تعديل بعض مواد قانون تنظيم الخطابة والدروس الدينية، وهو المشروع الذي وسّع من نطاق القانون ليشمل حظر الحديث في الشأن الديني في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو الإلكترونية، إلا بترخيص رسمي من الأزهر أو الأوقاف، وتغليط عقوبات مخالفة القانون لتصل في بعض الحالات إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

نصّ المشروع على أنه “كل من أبدى رأياً مخالفاً لصحيح الدين، أو منافياً لأصوله أو مبادئه الكلية المعتبرة، إذا ترتبت على آرائه إشاعة الفتنة أو التحريض على العنف والحض عليه بين أبناء الأمة بالحبس، لمدة قد تصل إلى سنة وغرامة قد تصل إلى 100 ألف جنيه، وتُضاعف في حالة العود، وتصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة”.

ربما تأخذ الوصاية شكلاً مختلطاً بالأعراف الاجتماعية، وهو ما حدث مع جرجس ملاك، الذي تعرض للتوبيخ من أحد كهنة الكنيسة التابع لها بمحافظة أسيوط، بسبب نقل ابنه الذي لم يكمل عامه الثاني من الحضانة التابعة للكنيسة الى حضانة أخرى قريبة من المنزل. 

ويُروى أن الكاهن وبّخه واتهمه بأنه يسعى الى إبعاد ابنه عن الكنيسة والجو الكنسي، على رغم أن سبب النقل هو أن زوجته حامل، وكان من الأفضل له ولها البحث عن حضانة قريبة من المنزل، وعلى الرغم أن الأمر شخصي لا يهم سوى الأسرة، إلا أن الكاهن اعتبر نفسه وصياً على تلك الأسرة.

ازدراء الأديان

الدكتور وديع منصور، الكاتب والناشط والمهتم بشأن الحريات الدينية، يشير إلى نوع آخر من الوصاية المتمثل في مادة ازدراء الأديان، والتي شاع استخدامها ضد المسيحيين، وأحياناً يمتد الى العلمانين حين يدخلون في نقاشات أو أسئلة حول الدين الإسلامي، واصفا إياها بأنها مادة  قمع وتمييز ديني، على رغم أن الكثير من المؤسسات المعنية بالحقوق المدنية والحريات الدينية، قدمت مقترحات ومذكرات عدة حول عدم دستورية تلك المادة، إلا أنه لا يزال العمل بها مستمراً.

على الرغم من أن الاستراتيجية الوطنية التي أطلقت في 2021، تضمنت باباً كاملاً حول حرية الدين والمعتقد، يؤكد في مضمونه المضي في خطوات للتسامح الديني، إلى جانب تحسين الخطاب الديني، إلا أن تهمة ازدراء الأديان، وما تحمله من شكل من أشكال الوصاية الدينية، لا تزال توجه إلى عدد من المواطنين، الذين يعاقب بعضهم بسببها، ما يتعارض مع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والذي وقعت عليه مصر، ويضمن حرية الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي.