fbpx

حين وجدت جثة أخي متحلِّلة بعد فقدانه في خان يونس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

جاءني اتصال من صديقي يقول فيه: “محمد وجدت البطاقة الشخصية لسهيل أخوك فوق جثة مع جهاز الدفاع المدني، اذهب بسرعة إلى مستشفى أبو يوسف النجار”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان أخي سهيل محباً ويعاملني كابنه الصغير تنفيذاً لوصية والدي. كان قريباً جداً مني، أشكو له أحزاني ويشكو لي، وكنا نخرج سوياً ونحرص على أن نكون موجودين مع بعضنا البعض في أحلك الظروف.

خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عشنا أياماً صعبة منذ الأيام الأولى لها، إذ كنا نتنقّل من منزل الى آخر برفقة باقي أفراد العائلة بحثاً عن الأمان والابتعاد من أماكن المنازل التي تتعرض للغارات الجوية الإسرائيلية.

مع اشتداد القصف الإسرائيلي وطلب الجيش الإسرائيلي من السكان في منطقة سكننا في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة، الإخلاء والخروج من المنطقة، نزحت أنا وأخي وعائلته وذهبنا إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة وشيّدنا خيمة.

عشنا أيام النزوح والجوع والعطش، وغياب الأمن، وبرد الشتاء، وحرارة الصيف، وكنا نخرج يومياً للبحث عن طعام لشرائه وتأمين المساعدات التي كان يصل جزء قليل منها الى وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.

لم يقبل أخي الاستمرار في حياة النزوح، وطلب مني العودة إلى مدينة خان يونس والمكوث في المنزل، ولكن كنت أنصحه بأن منطقتنا تتعرض لقصف عنيف وقتال مستمر، ووجودنا هناك خطر على حياتنا.

استجاب أبو جهاد لطلبي على مضض وأجّل العودة إلى المنزل، وعدنا إلى حياة الخيام مرة أخرى. وهنا، بدأ المذياع الصغير الذي بيده ينطق لنا بأخبار حول انسحاب الجيش الإسرائيلي من مدينة خان يونس وإنهاء العملية البرية.

طار أخي فرحاً بهذه الأخبار وقال في حينها: “الآن بدنا نرجع على بيوتنا ونهدم هي الخيام”، وبالفعل عاد أبو جهاد إلى خان يونس، حيث منزله وهواء المدينة الذي نشأ فيها، والجدران التي تعرفه والأرض الذي اعتاد على المشي عليها.

بدأ أخي في تنظيف بيته الذي تبقت منه غرفة واحدة فقط وحمام، بعد تعرضه لقصف من الطائرات الإسرائيلية خلال هجومها العنيف على مدينة خان يونس، وجلب معه بعض الدقيق والماء.

كنا نتواصل مع أخي عبر الهاتف بصعوبة كبيرة، وفي كل مرة كان يدعونا إلى العودة للمنزل مجدداً وتنظيف الركام عنه، وإنهاء حياة الخيام، فهو لا يطيق العيش في الذل والبعد عن مسقط الرأس.

 عاش أخي في منزله شبه المدمّر قرابة العشرة أيام، وكان يعتمد على نفسه في إعداد الطعام والحصول على الماء من بئر قريب موجود في مجمع ناصر الطبي، الذي يبعد من منطقة سكنه 200 متر.

وفي ليلة صعبة، سمعنا أصوات انفجارات من مكان نزوحنا في مدينة رفح، وكان مصدرها خان يونس التي تبعد من رفح قرابة الـ3 كيلومترات، وبدأ الخوف والقلق يدخل قلوبنا على أبو جهاد، وبدأنا نتّصل على هاتفه فوجدناه مغلقاً.

مرت علينا تلك الليلة كأنها مئة عام. ومع بزوغ الفجر، توجهنا أنا وأخي محمود وأختي أحلام إلى خان يونس، ولكن لم نستطع الدخول إلى المدينة بسبب كثافة القصف، فقررنا الوقوف على مدخل المدينة، وسؤال من يخرج منها عن أخي، ولكن لم يقدم لنا أحد أي أخبار مطمئنة حوله.

بعد 14 ساعة من الانتظار عند مدخل خان يونس الغربي في منطقة المواصي، دبّ اليأس في قلوبنا، فعادت أحلام ومحمود إلى رفح وبقيت أنا في خيمة قريب لنا بخان يونس.

كنت أذهب يومياً إلى مدخل المدينة أبحث عن أخي أبو جهاد، ونشرت مناشدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتسآب مع صورة له، ولكن لم يأتِ لنا أحد بأي خبر عنه سواء كان مطمئناً أو سيئاً.

بعد 20 يوماً من فقدان أخي، أعلن الجيش الإسرائيلي انسحابه الكامل من خان يونس، وهنا هرول الجميع إلى منزل أبو جهاد فوجدنا فراشه وجاكيته وبعض الدقيق والماء، وهنا علمنا أنه لم يتعرض للقصف داخل منزله، فدبّ الأمل في قلوبنا أنه معتقل.

مرّ يومان على انسحاب الجيش الإسرائيلي ولم يتم العثور على أخي، ولكن عصر الاثنين الماضي، جاءني اتصال من صديقي يقول فيه: “محمد وجدت البطاقة الشخصية لسهيل أخوك فوق جثة مع جهاز الدفاع المدني، اذهب بسرعة إلى مستشفى أبو يوسف النجار”.

كنت موجوداً في خيمة بالقرب من المستشفى الكويتي، فهرولت سريعاً إلى مستشفى أبو يوسف النجار، ووجدت جثثاً كثيرة، وبدأت البحث في الأسماء المكتوبة على أكياس النايلون، وهناك كانت الصدمة، إذ وجدت اسمي أخي ومعه هويته.

أخبرت الطبيب بأني أريد رؤيته والتعرف عليه، فلم يقبل وأخبرني أن الجثة متحلّلة ويجب دفنه لإكرامه.

اتصلتُ بإخوتي وأخبرتهم بنبأ العثور على أبو جهاد جثة، وما هي إلا أقل من ساعة حتى حضروا مع أبناء عمي، ومن دون أي تفكير قررنا الذهاب به إلى مقبرة العائلة في خان يونس ودفنه هناك.

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصراً، والمسافة بين خان يونس ورفح في ظل الركام والحرب تستغرق أكثر من ساعة.

بحثنا عن وسيلة لنقل جثة أخي الى خان يونس فلم نجد، تواصلت مع مدير مستشفى أبو يوسف النجار وأخبرته بضرورة توفير سيارة إسعاف، فكان رده أنه لا يمكن إرسال إسعاف الى خان يونس كونها خطيرة حتى الآن.

الوقت يمضي سريعاً وكنا نخشى دخول الليل وعدم إمكانية دفن أخي في المقبرة، فذهبت إلى الشارع العام وأوقفت أكثر من سيارة وطلبت من السائقين نقل جثمانه إلى خان يونس، ولكن كان الجميع يجيب بالرفض.

اضطررنا إلى نقله بـ”التوك توك” إلى خان يونس لكسب الوقت وإكرامه ودفنه، بخاصة أن جثته متحلّلة تماماً.

وصلنا إلى خان يونس حيث الدمار في كل مكان، ودخلنا المقبرة مع عدد قليل من الأقارب، وقمنا بالصلاة عليه، وأكرمنا أخي من خلال مواراة جثمانه الثرى.