fbpx

الجيش الفرنسي يواجه اتهامات بالتمييز الجندري والتغطية على اعتداءات جنسيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما تتعرض له الإناث في الجيش الفرنسي ليس استثناء، فكل امرأة فرنسية عرضة للتحرش والتمييز الجندري والاعتداءات الجنسية، بمن فيهن الوزيرات والنائبات. لكن التحولات التي تشهدها المؤسسة العسكرية التي لطالما “احتكرها الذكور وهيمنوا عليها”، تفسر أسلوب التعامل الجديد مع الضحايا والمُتهمين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“في البداية، كان يطلق دعابات ذات محتوى جنسي ويقدم لي هدايا ذات طابع جنسي، ثم بدأ يعرض علي مشاهدة أفلام إباحية. كان يدخل إلى المطبخ، حيث أعمل، يمرر يده على مؤخرتي ويفرك عضوه بجسدي”. هذا جانب مما أدلت به مانون دوبوا للإعلام الفرنسي.  

عام 2019، تطوعت دوبوا في البحرية الفرنسية وفُرزت للعمل كطاهية في إحدى القطع العسكرية. بداية الأمر،  تجاهلت التحرش الذي تعرضت له. لكن عندما بلغ الأمر حد الاعتداء وتكرر بمعدل مرة أو مرتين أسبوعياً، رفعت الأمر إلى رؤسائها الذين اكتفوا بتوجيه إنذار الى المعتدي. 

عام 2021، اجتمعت دوبوا مجدداً بالشخص ذاته أثناء وجودهما على متن فرقاطة عسكرية. حين كرر اعتداءه عليها، تقدمت بشكوى في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. الصدى الإعلامي الذي عرفته قضية دوبوا دفع بالصحافة الفرنسية الى التساؤل عما إذا كانت فرنسا على عتبة حملة “مي تو عسكرية”. 

النائبة عن حزب النهضة (الموالي للرئيس إيمانويل ماكرون) ليتيسيا سان- بول، اعتبرت في اتصال مع موقع “درج”، أن “التفاعل الإعلامي الواسع مع قضية دوبوا يعود الى كشفها عن هويتها”. 

المرة الأولى التي سردت فيها دوبوا تفاصيل ما حصل معها، كانت في 12 شباط/ فبراير 2024 لصحيفة Ouest France. آنذاك، فضّلت التستر على هويتها، لكن حملة التضامن معها حفّزتها على الكشف عن هويتها الحقيقية لصحيفتي Ouest France و Le Monde في 19 و20 آذار/ مارس. 

لكنّ سبباً آخر ساهم في انتشار هذه القضية، وهو الحكم المخفّف الصادر بحق المعتدي، على رغم اعترافه بأن دوبوا لم تسمح له بهذه “المساحة الحميمية”.  في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، غُرِّم بمبلغ 600 يورو مع خضوعه لدورة تأهيلية. حكم لا يرقى إلى مستوى الفعل وفقاً لمحامي دوبوا، معتبراً أن المتهم حظي “بمعاملة تفضيلية”. بناءً على توصية من الجيش، لم يُحل الملف إلى المحكمة الجنائية، ما جنّبه إدراج الحكم في سجله العدلي وتسريحه من الخدمة. 

المفارقة، أن دوبوا هي التي باتت خارج المؤسسة العسكرية، قرار اتخذته بعد إصدار الطبيب النفسي تقريراً يشير إلى عدم أهليتها للعمل نظراً الى تعرضها لاضطراب ما بعد الصدمة، ما دفع بالسيناتور جريجوري بلان الى استجواب الحكومة وطلب توضيحات.  

 تضيف النائبة ليتيسيا سان – بول لـ”درج”، أن وزير الدفاع الفرنسي أصدر في 26 آذار الفائت، تعليمات حول آلية التعامل مع هذا النوع من الشكاوى، مبادرة غير كافية بنظرها، إذ صدرت على عجل. هذه النائبة تنشط  منذ سنوات للتصدي للاعتداءات الجنسية داخل الجيش الفرنسي، وقد حفّزتها خلفيتها المهنية على تبنّي هذه القضية.

فقبل فوز سان- بول بالمقعد النيابي، كانت تخدم في الجيش الفرنسي وبلغت رتبة النقيب. هي المرة الأولى، منذ العام 1918 ، التي يُنتخب فيها أحد العسكريين نائباً في الجمعية الوطنية وهو ما يزال في الخدمة. 

كشفت سان – بول لـ”درج” أيضاً، العمل على إعداد اقتراح قانون يشدد العقوبات ويوسع صلاحيات في خلية Thémis المعنية بتلقّي شكاوى التحرش والاعتداءات الجنسية داخل الجيش الفرنسي. 

حوادث متكررة

 ما حصل مع مانون دوبوا ليس سابقة، إذ كُشف عن حالات تحرش واعتداءات جنسية عدة داخل الجيش خلال السنوات السابقة. 

أبرز ما نشر في هذا الصدد، كتاب من توقيع الصحافيتين الاستقصائيتين، جوليا باسكوال وليلى مينانو، حمل عنوان “حرب غير مرئية: الكشف عن العنف الجنسي داخل الجيش الفرنسي”.

الشهادات الواردة في هذا الكتاب، الصادر عام 2014، دفعت بوزير الدفاع في حينها جان إيف لو دريان، إلى إنشاء خلية Thémis التي تلقت 220 شكوى في العام 2022. 

أبرز ما نُشر في الإعلام كان تحقيقاً لصحيفة Libération في 22 آذار 2018، تطرق إلى التمييز الجندري الذي تواجهه الإناث في في كلية Saint Cyr العسكرية.

 التحقيق أشار إلى وجود تجمّع شبه منظم لطلاب ذكور: أعضاؤه ذوو ميول ميزوجينية، من خلفية اجتماعية محافظة ومتديّنة، وبعضهم من أبناء الضباط. غايتهم التضييق على زميلاتهن بكل الوسائل لدفعهن إلى ترك الكلية أو الرسوب (افتعال ضجيج لمنعهن من النوم، عدم نقل تعليمات الأساتذة، التهديد…). 

أصداء هذا التحقيق وصلت إلى وزيرة الدفاع، التي تعهدت بطرد هؤلاء الطلاب، واصفة إياهم بالأقلية التي تسيء إلى مؤسسة بكاملها.  

من جهتها، أكدت النائبة سان – بول تلقيها باستمرار رسائل من مجندات تتناول ما يتعرضن له أثناء خدمتهن العسكرية من تمييز ومضايقات وتحرش واعتداءات، مضيفة أن وتيرة تلك الرسائل ازدادت بعد إدلاء مانون دوبوا بشهادتها. القاسم المشترك بين تلك الرسائل، وفقاً للنائبة الفرنسية، هو شعورهن بغياب المحاسبة، مؤكدة مواكبتها حالات مشابهة أثناء خدمتها. 

في مقالتها المعنونة “العنف الممارس على النساء في الجيش”، اعتبرت أودريه أريسون، وهي ضابطة في البحرية برتبة نقيب، أن ما تتعرض له الإناث في الجيش لا ينفصل عن العنف الممارس على النساء عموماً. 

برأي ليتيسيا سان – بول، ما يحصل داخل الجيش ليس استثنائياً لجهة الأرقام، الفارق يكمن في النظام العسكري القائم على الانضباط الصارم والطاعة الهرمية، ما يفرض “يقظة مضاعفة”. بسبب هذا النظام العسكري، قد تخضع هذه الملفات للبروتوكولات والنظم العسكرية،.

 بالتالي، الغاية من تلك اليقظة احتواء الأزمات النفسية للضحايا اللواتي قد يشعرن بمصادرة حقهن في التعبير بسبب هذه النظم الصارمة، على عكس ما نشهده في مختلف القطاعات المدنية.

كلام النائبة الفرنسية يفسر جانباً من الصدى الإعلامي والسياسي في كل مرة ينشر فيها تحقيق من هذا النوع، إلا أن سبباً آخر يحمل بدوره تفسيراً لما تتعرض له المجندات: “مقاومة” تأنيث الجيش.

يشكل العنصر النسائي 16.5 في المئة من مجمل أفراد الجيش الفرنسي، وترتفع هذه النسبة لتبلغ 21 في المئة إذا أضفنا المتطوعات اللواتي يشغلن وظائف مدنية. هذه الأرقام التي وضعت فرنسا في المرتبة الرابعة عالمياً، هي نتاج جهود تراكمية بدأت في العام 1909. 

لكن الإشكالية بدأت مع انضمامهن الى الوحدات القتالية وفقاً لما ورد في مقالة “تأنيث الجيوش الفرنسية: بين الرغبة المؤسساتية والمقاومة الداخلية”  للباحثين في علم الاجتماع كلود فيبير وكاميل بوترون. 

في العام 1996، ألغت فرنسا الخدمة العسكرية، ما شرّع الباب أمام تطويع الإناث على نحو أوسع، نظراً الى الحاجة إلى زيادة عدد العسكريين المتفرغين، فاعتُبرن تهديداً للأسس التي قامت عليها المؤسسة العسكرية. 

برأي الباحثة في علم الاجتماع إيمانويل بريفوه، فإن ارتباط العسكرية بالرجولة هو نتاج موروث تاريخي كان ينظر الى كل رجل كمقاتل.  بريفوه عملت لسنوات كباحثة معتمدة لدى الجيش الفرنسي، وهي صاحبة إصدارات عدة أعدتها بناءً على دراسات ميدانية. 

الخوف من “تأنيث الجيش”

 في مقالتها “تأنيث القوات البرية ورجولية مهنة السلاح”، رأت بريفوه أن انخراط الإناث في الجيش تحوّل إلى قضية إشكالية لتناقضه مع الصورة النمطية التي تربط الحياة العسكرية بالذكور. مسألة وردت أيضاً في كتاب مينانو وباسكوال على النحو الآتي: “تساءل أحد العسكريين الذكور عن السبيل لبناء نفسه كرجل وسط النساء”. 

لم تلحظ بريفوه تشكيكاً في مؤهلات المتطوعات المهنية، بقدر اعتبارها مؤهلات “نسائية بحتة” تجعل منهن ممرضات وإداريات ناجحات داخل الجيش، ليس أكثر.  بريفوه لمست حالة تململ من انخراط الإناث في الأعمال القتالية، إذ اعتبرها الذكور عبئاً إضافياً لاضطرارهم إلى توفير الحماية لهن. الغاية من تصدير صورة العسكري الذكر الحامي لزميلته في أرض المعركة، هي لتكريس سلطة الرجل على المرأة في جميع النواحي الحياتية، وفقا لبريفوه.

تطرق  فيبير وبوترون بدورهما إلى هذه النقطة: “إيكال مهمات قتالية للإناث، ينظر إليه كعامل تخريبي من شريحة من الرأي العام عدا عن كونه مخاطرة بنظر قيادات عسكرية”.  

من جهة أخرى، أشارت بريفوه الى أن البعض ينظر الى المتطوعات في الجيش كمنافسات، مسألة وردت في تحقيق لصحيفة Libération، إذ نقل عن بعض الجنود الذكور قولهم: “الأماكن محدودة لنا، فكيف إذا دخلت الإناث على الخط”.  

في المقابل، لم تلحظ بريفوه أية حالة تضامن جندري تجمع المتطوعات في الجيش، بعضهن أدركن أن تقدمهن المهني مرهون بالانصياع للقواعد الذكورية. كلام أكدته ليلى مينانو وجوليا باسكوال خلال عرضهما شهادة إحدى المجندات، بعدما لمست آليس صعوبة تحدّي العقلية الذكورية وبعد تعرّضها للتنمر والتمييز والتحرش.

تقول المجندة آليس: “بدأت بارتداء ثياب تخفي ثدييّ، خلال المهمات الخارجية كنت أتبول واقفة وأستحم معهم”. لكن هروبها إلى الأمام لم يشفع لها، وهو ما اتضح حين نصحها أحد زملائها بتفادي النوم على الجنب “كي لا تثيرهم مؤخرتها”.  

شهادة آليس تناولتها إيمانويل بريفوه: “مهما فعلت المجندة ستكون محط انتقاد، إن تصرفت بأنوثة لن ينظر إليها كشخص مؤهل للحياة العسكرية، وإن انصاعت للقواعد الذكورية ستُنتقد لافتقادها الأنوثة”.

بريفوه توقفت أيضاً عند التحولات في العلاقات الاجتماعية الناتجة من تأنيث الجيش، والتي ينظر إليها البعض بكثير من الريبة: تسود خشية من سيادة الفوضى إذا ضعف الذكور أمام الإناث، ما يطيح بالانضباط العسكري. وقد يتحوّل الاختلاط إلى مساحة لإقامة علاقات جنسية، ما يحوّل الجيش إلى “مكان للهو”. 

تضاف إليها المنافسة المحتملة بين الذكور للتقرب من إحدى المتطوعات وما ينتج منه من حساسية وصدام.  بحسب كلود فيبير وكاميل بوترون، قد ينظر الرأي العام إلى هذه التحولات كضرر يضعف المؤسسة العسكرية.

ما تتعرض له الإناث في الجيش الفرنسي ليس استثناء، فكل امرأة فرنسية عرضة للتحرش والتمييز الجندري والاعتداءات الجنسية، بمن فيهن الوزيرات والنائبات. لكن التحولات التي تشهدها مؤسسة لطالما “احتكرها الذكور وهيمنوا عليها”، تفسر خصوصية وحساسية ما حصل مع مانون دوبوا وأقرانها.