fbpx

ماكرون في مواجهة السترات الصفر وشهر ديسمبر الحاسم في فرنسا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تشهد فرنسا موجة احتجاجات إجتماعية هي الأكبر منذ سنوات طويلة، تقودها جماعة تطلق على نفسها “السترات الصفراء”، ترفع للمرة الأولى شعار “إسقاط الرئيس”.هناك إنقسام كبير في فرنسا والعالم حول تلك الحركة الإحتجاجية التي قد تكون أصعب التحديات التي يواجهها ايمانويل ماكرون.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تشهد فرنسا موجة احتجاجات إجتماعية هي الأكبر منذ سنوات طويلة، تقودها جماعة تطلق على نفسها “السترات الصفراء”، ترفع للمرة الأولى شعار “إسقاط الرئيس” في الشارع وتجمع على الإستمرار في التصعيد حتى تحقيق كامل مطالبها وعلى رأسها إلغاء الضريبة على الهيدروكربون التي تسبّبت في زيادة 1.51  يورو على كل ليتر من المازوت. وكان قرار الضريبة ضمن خطة ايكولوجية لتخفيف سيارات المازوت والانتقال لاستعمال السيارات الخضراء أو الكهربائية.

إنقسام كبير في فرنسا والعالم حول تلك الحركة الإحتجاجية، انعسكت اختلافاً في الرؤية والتحليل عند عشرات المفكّرين الفرنسيين. ففي حين ارتدى جان-كلود ميشيا، آلان فلينكلكروت وميشال أونفري السترات الصفراء ودافعوا عمّا سمّوه ميني-حركة “جاكية” (jacquerie) في استعادة لثورة الفلاحين ضد طبقة النبلاء في بداية صيف 1358، اتخذ قسم آخر كبرنارد-هنري ليڤي موقفا عدائيا وشبّه اللحظة بتلك التي سبقت صعود اليمين المتطرّف في أوروبا بعد “الكساد الكبير” الذي بدأ سنة 1929 مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية وما تركه من ارتدادات على ايطاليا وألمانيا وفرنسا بشكل خاص.

وإذا كانت تلك التحليلات ترتكز إلى عامل سياسي مؤثّر في توجيه الإحتجاجات فإنّ “السترات الصفراء” بدت حتى اللحظة من دون قيادة فعلية، تعتمد على 7 ناطقين يمثّلون ال 44 مسؤولاً اقليمياً. وإذا كان هذا يدلّ على شيء فهو حتماً مشاركة الآلاف من الفرنسيين في المظاهرات وقطع الطرقات ومداخل المدن دون العودة إلى البطاقة السياسية التي ينتمون إليها.

ورغم الكلام الكثير الذي يثار حول هوية المشاركين في الحراك واتهامهم بزعزعة الأمن والفوضى – وفي ذلك كلام حقّ وطويل عن تصدّر مجموعات اليمين المتطرف (ultra droite) لصدامات الشانزيليزيه تحديداً في ساحة الإيتوال بشعاراتهم الفاشية وبأعلامهم السوداء والرموز الملكية والكاثوليكية – لا يمكن اختزال الشارع بصوت اليمين المتطرّف أو اليسار المتطرّف. هنالك غليان اجتماعي في فرنسا اليوم، اعترف به ماكرون شخصياًَ، وليس الأمر وليد الشهور الثمانية عشر التي قضاها الرئيس في الإليزيه. عشرات السنوات من السياسات الإقتصادية القاسية أسّست لفشل مزمن في حلّ مشاكل البطالة والقدرة الشرائية ورفع الحد الأدنى للأجور والعمل على تحقيق التوازن في خزينة الدولة لسد الحاجات الهائلة في التقديمات الإجتماعية لا سيّما تلك المتعلقة بنظام الضمان الصحي وضمان المتقاعدين.

فرنسا المهمّشة، المنسيّة عمداً والمتروكة لوحوش المال والسياسة الضرائبية، التي تعرف اسمها جيدا في “الأطراف” وتلتقي مع مئات آلاف الفلاحين والصناعيين والحرفيين وعمّال السكك الحديدية تنتفض اليوم في قلب العاصمة، في مركز السياسة والأمن والإقتصاد وتشكّل الإمتحان الأصعب في عهد الرئيس الشاب الذي يبدو مصرًّا على المضي قدماً في إصلاحاته مراهناً على مجموعة المستشارين المحيطين به وعلى خبرة رجالات اشتغلوا في حكومات اليمين واليسار.

تأخذ اليوم حركة “السترات الصفراء” بعداً يتجاوز الحدود الوطنية، إذ تشهد بروكسل حراكاً متزايداً بعد تأسيس أول مجلس محلي للحركة في بلجيكا الأسبوع الفائت. وفي أول بحث عن جذر تلك الحركة، تبيّن أنّ مطالب المجلس المحلي تركّز على تصعيد وتيرة الاحتجاجات في البلاد كشكل من أشكال الإحتجاج على سياسات الإتحاد الأوروبي. فبعض الشعارات التي ترفع في ساحات فرنسية وأوروبية أخرى كالدعوة إلى التمثّل ببريطانيا والخروج من الإتحاد الأوروبي، والتركيز على موضوع المهاجرين كعامل مؤثر في زعزعة الإقتصادات الأوروبية وضرب إنتاجها وزيادة البطالة في مجتمعاتها، ستكون الورقة الأقوى التي يعوّل عليها تحالف اليمين الشعبوي في الإنتخابات القادمة في أيار/مايو 2019.

هو “صوت الشعب” في مواجهة “النخب والعولمة والنيوليبرالية”، عنوان عريض وصارخ يرفعه يمينيون ويساريون اليوم في لحظة مصيرية يجتمع فيها الإثنين على مواجهة أول المستفيدين من لعبة “الأنتي-سيستيم” (ماكرون الذي أسس حملته الإنتخابية على مبدأ أنه مرشح من خارج الاطر الحزبية التقليدية) الذي قد يكون أوّ ضحايا معارضة هيكلة الحياة السياسية الفرنسية.  

تذكّرنا هذه الأزمة بأزمات عديدة ضربت فرنسا في خريف عامي 86 و95 وانتهت بتراجع الحكومة عن قرارتها آنذاك واستقالتها في الحالة الثانية مع حكومة جوبيه الشيراكية. لذلك يراهن كثيرون على هذا الشهر الذي شهد أعنف المواجهات الإجتماعية مع حكومات اليمين واليسار على السواء.

أزمة 86 الطلابية : قانون دوڤاكيه الذي انتهى في سلّة المهملات

لم تشهد فرنسا تحركات لها وقعها وتأثيرها منذ أيار/مايو 68، تلك الثورة الطلابية ضد كل المحظورات التي تركت مدى وأثراً عميقين في الحياة السياسية والإجتماعية الفرنسية. إلى أن جاء نوفمبر 1986 وحمل وزير التربية في حكومة جاك شيراك في عهد الرئيس ميتيران مشروعا لإصلاح النظام التربوي في الثانويات والجامعات بشكل خاص. منشأ الأزمة يعود إلى جذر سياسي, اذ شهدت فرنسا للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة “مساكنة” بين اليسار واليمين, فالرئيس الإشتراكي ميتيران وجد نفسه مكبّلاً ومضطراً لتكليف شخصية يمينية جمهورية تشكيل الحكومة بعد فوز تحالف اليمين الحزبي الذي مثله “التجمع من أجل الجمهورية” (ديغولي) و”الوحدة من أجل الديمقراطية الفرنسية” (أسسه ڤاليري جيسكار ديستان وهو حزب محسوب على يمين الوسط) في الفوز في انتخابات مارس 86 النيابية. وقع الإختيار على جاك شيراك الذي كان يصعد بشكل لافت في معسكر اليمين الجمهوري.

قدّم النائب جان فوييه (أحد واضعي دستور الجمهورية58) ووزير العدل في عهد ديغول مشروعاً لإصلاح الجامعات بعد مشاورات مع شخصيات تربوية وطلابية محسوبة على الديغوليين ك ريمون بار وميشال أليو-ماري وجان-كلود غودان. رأت حكومة أن المشروع لن يمرّ لأنه راديكالي جدا في هيكلة النظام التعليمي، لذلك قام جاك شيراك بتكليف وزير التعليم العالي والبحث العلمي آلان دوڤاكيه العمل على مشروع قانون جديد للبحث والتصويت عليه لاحقاً.

تخفّظت اتحادات الطلاب على مشروع دوڤاكيه وهاجمت بشكل خاص البند الذي منح استقلالية أكبر للجامعات ما يتيح لها تثبيت الأقساط الجامعية وتغييرها دون العودة للوزارة كما ركّز الطلاب والنقابيون اعتراضهم على الهيكلية الجديدة المقترحة لتحضير كادرات البحث العلمي.

بدأت الإحتجاجات الطلابية في جامعة ديجون وانتقلت إلى كان (Caen) واجتاحت في وقت قصير جدا من شهر نوڤمبر كل الجامعات وأصبحت السوربون في باريس رمزاً للحركة الإعتراضية التي تميّزت بشعارات يسارية حملها كل من كريستوف كامباديليس وايزابيل توما التي غدت الناطق الأول والأخير باسم الحركة الطلابية على وسائل الإعلام. جمعت مظاهرات ويك اند 22 و23 نوفمبر ما يقارب ال 200 ألف فرنسي في شوارع باريس وبدأت تستقطب طلاباً محسوبين على المنظمات الطلابية اليمينية كما أسّست لجيب جديد من المسؤولية السياسية في الأطر الأكاديمية، تسلّمت في الغد القريب مناصب سياسية مرموقة في بنى حزبية وحكومية وبرلمانية.

لكنّ تلك الموجة الإحتجاجية التي عرفت ب “ساندروم الشارع الطلابي” أصبحت علامة فارقة في الحياة الطلابية والإجتماعية الفرنسية بعد حادث مقتل الطالب الفرنسي (جزائري الأصل) مالك أوسكين (22 عاماً) الذي شارك في تلك الإحتجاجات. وفي تفاصيل “الإغتيال” كما وصفه النائب (ورئيس الحكومة الإشتراكي الأسبق) بيار موروا في مواجه حادة في البرلمان مع وزير الداخلية شارل باسكوا الذي أعطى أوامره لفرق ال PVM (فرقة الدراجات النارية التي اشتهرت بملاحقة المحتجين وقمعهم، وتم حلّها في عهد الرئيس شيراك) : فرّ الطالب الفرنسي- الجزائري مالك أوسكين، واحد من بين مئات اليساريين الذين شاركوا في أحداث السوربون، إلى أحد الأحياء الفرعية المؤدية إلى شارع موسيو- لو- برنس في الدائرة السادسة فيما عمدت الشرطة إلى ملاحقة “المشاغبين” حتى ساعات متأخرة من الليل. عند منتصف الليل، كانت الأمور قد هدأت، ذهب مالك أوسكين إلى نادي الجاز في الحي اللاتيني وعندما خرج لاحقته الشرطة وحاصرته عند مدخل أحد الأبنية وانهالت عليه بالهراوات وتركته ينزف على مدخل المبنى وقد أعلنت مستشفى كوشان عن وفاته في الساعة الثالثة من صباح الغد.

تلقّف فرانسوا ميتيران بدهاء كبير حركة الشارع وطلب بشكل علنيّ من جاك شيراك تفهّم حركة الشارع في 3 ديسمبر قبل أن يعلن دعمه للطلاب عشية مقتل مالك أوسكين في 6 ديسمبر واستقباله لمجموعات طلابية غاضبة صباح المظاهرة الكبرى التي توجّهت إلى مقبرة بير-لاشيز وقدّر عدد المشاركين فيها ب 600 ألف شخص حسب المنظمين و126 ألف حسب وزارة الداخلية.

وسط كل هذا الضغط وانفلات أمنيّ وصدامات بين الطلاب ومجموعات اليمين المتطرف في باريس، خرج رئيس الحكومة جاك شيراك صباح 8 ديسمبر ليعلن عن تراجع حكومته عن قانون آلان دوڤاكيه الأمر الذي عدّ أول انتصار طلابي منذ مايو 68.

إضراب 95 : الشارع يسقط حكومة جوبيه.

في نوفمبر1995، شهدت فرنسا انفجاراً شعبيا اجتمعت فيه أطر نقابية وعمالية وشارك فيه بشكل أساسي المتقاعدون الذين شعروا باستهداف مباشر في ما عرف ب “برنامج جوبيه” الحكومي الذي أعاد الحديث عن “الشرخ الإجتماعي” والفاتورة العالية التي يدفعها الموظفون والعمال والمتقاعدون لقاء حصولهم على التقديمات الإجتماعية.

بدأت تلك الموجة الإحتجاجية في ربيع 95 في مصنع رونو للسيارات بعد احتجاج عمال المصنع على عدم زيادة رواتبهم وتطوّرت في أكتوبر من العام نفسه بعد دعوة الكونفدرالية العامة للشغل إلى إضراب لعمال القطاع العام نتيجة ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية  إضافة إلى رغبة الحكومة في زيادة الضرائب على كل من المتقاعدين والعاطلين عن العمل من أجل دعم نظام “الضمان الإجتماعي”. ترافق ذلك الغضب الإجتماعي مع غضب آخر في قطاع النقل العام لا سيما السكك الحديدية التي أعلن عمالها عن مشاركتهم في الإحتجاجات في شهر نوفمبر.

أخذت وسائل الإعلام في غالبيتها العظمى موقفا معاديا للحراك الإجتماعي – والحال لا يختلف كثيرا عن جزء كبير من إعلام اليوم الذي يقف ضد حراك “السترات الصفراء” وإن اختلفت الظروف والمطالب والتبعات- واتهمت بعض الأقلام ك جان-فرانسوا ريڤيل وبعض الأصوات اليمينية جاك شيراك ب “رخويته” وعدم قدرته على شرح أهمية تلك الإصلاحات في برنامجه الإنتخابي ورأت أنّه مسؤول بشكل غير مباشر عن توريط آلان جوبيه في مواجهة مفتوحة مع الشارع.

في 15 ديسمبر، تراجعت الحكومة عن البنود المتعلّقة بإصلاح نظام التقاعد لكنّه أصرّ على المضي قدماً في البند الذي يتناول “الضمان الإجتماعي”، الأمر الذي انعكس غضباً كبيرا في الشارع ما استدعى عقد “قمة اجتماعية” عاجلة في في القصر الحكومي لمعالجة الأزمة، الأمر الذي يشبه كثيرا “خلية الأزمة” والقمة التي عقدت بالأمس فور عودة ايمانويل ماكرون من قمة العشرين.

يكشف رينيه موريو، الباحث السياسي والإجتماعي، في كتابه Le syndicalisme en France أنّ تلك الموجة الإحتجاجية أعادت تشكيل عصب النقابات العمالية في فرنسا لكنّها كشفت في الوقت عينه عن تراجع “النفس الإحتجاجي” في المؤسسات العامة التي أصبحت “أقل قدرة على المواجهة” نتيحة التغيّرات التي أصابت الطبقة الوسطى وجسمها  في الوظيفة العامة.

على أنّ أحداث 95 لم ولن تكون الأخيرة لأنّ الشارع الفرنسي يملك حساسية مفرطة إزاء أي سياسة حكومية تمسّ نظام التقديمات الإجتماعية، وإن اختلفت الظروف وتبدّلت أحوال الأطر الحزبية والنقابية فإنّ تجدد الإحتجاجات سنة 2006 ضد “عقد الوظيفة الأولى” (CEP) وفشل حكومة دومينيك دو ڤيلبان في التعاطي معها، وعودة الشارع إلى المواجهة في حكومات كل من عهدي ساركوزي وهولاند، تعطي فكرة واضحةً عن مدى المعركة التي يخوضها أصحاب “السترات الصفراء” ضد حكومة ادوارد فيليب الذي قد يكون كبش فداء في أصعب التحديات التي يواجهها ايمانويل ماكرون بعد سنة ونصف على انتخابه.