fbpx

الكاتبة اليمنيّة بُشرى المقطري عن كتابها “ماذا تركت وراءك”: لأوّل مرّة في حياتي رأيتُ رجلاً يبكي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نجحت بُشرى المقطري في رهانها وصار كتابها “ماذا تركت وراءك/ أصوات من بلاد الحرب المنسية” مطبوعاً على ورق. وقد كان رهاناً صعباً أن تعمل على توثيق قصص الحرب وضحاياها من الجانبين حيث الصوت المُحايد والمُستقلّ لم يعد له مكان

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نجحت بُشرى المقطري في رهانها وصار كتابها “ماذا تركت وراءك/ أصوات من بلاد الحرب المنسية” مطبوعاً على ورق. وقد كان رهاناً صعباً أن تعمل على توثيق قصص الحرب وضحاياها من الجانبين حيث الصوت المُحايد والمُستقل لم يعد له مكان في الساحة اليمنية الدامية بل صار مُطارداً ومُعرّضاً للأذى في أي وقت. لكن المقطري صمدت وقاومت وأنجزت كتابها الصادر عن دار رياض الريّس/ بيروت، والذي قامت بتوقيعه في معرض بيروت للكتاب بعد رحلة استمرت من صنعاء إلى بيروت ، ساعات طوال بلغت أكثر من يومين، تخلّلها حالة توقيف تعرّضت له في مطار عدن من جهة الأمن القومي وسؤالها عن الكتاب نفسه قبل أن يُسمح لها بالسفر.

وفي حديثها الخاص لـ” درج ” تقول بشرى عن شغلها بأن فكرته من البداية كانت أن يطلع “كتاباً يؤرّخ للوضع الحقيقي للضحايا أنفسهم”. وفي هذا السياق جهدت هذه الكاتبة اليمنية على مرورها في كتب عديدة تتحدّث عن سيرة الحرب ومنها أعمال البيلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش والعديد من النصوص السورية والتي تحكي عن الحرب.

  • لماذا كانت مسألة الاعتماد على نصوص سابقة؟

–        هذا لأن العمل السردي في نصوص الحرب غائب في اليمن. رغبت المرور على تارب كتابية سابقة في هذا السياق والاستفادة منها قدر الإمكان.  أمّا عن الكتاب نفسه فقد كان الأمر بالنسبة لي ظاهراً كفعل مقاومة، وأيضاً كي لا أتحوّل إلى ضحية، المقالات تقرأ وتُنسى بينما الكتاب يبقى كوثيقة تأريخية ضد الحرب. اليمن على عكس التجربة السورية. في سورية أعمال أدبية عظيمة تحكي عن الضحايا، كيف تعرّضوا للتعذيب وقامت تلك النصوص بتدوين شهاداتهم. في اليمن ليس لدينا هذا الأمر، لا نصوص ولا توثيق.

  • حدّثينا عن ظروف تدوين هذا الكتاب.

–        كنت، من خلال إقامتي في صنعاء، أعيش تجربة الحرب، وقلت لنفسي سأقوم بتسجيل أصوات الضحايا. نوع من المغامرة وحتّى أكسر الخوف الذي في داخلي.  في أحد الأيام أخذت جهاز التسجيل وخرجت إلى الشارع. لكن صنعاء ليست منطقتي فأنا من مدينة تعز. من هنا كانت الإشكالية الأولى. تواصلت مع أًصدقاء ناشطين لإيصالي للضحايا في صنعاء . لتظهر مُعضلة أكبر: يوجد لدى اليمني ما يسمّى القدرية، اعتقاد بأن لا يوجد شيء سيعوّض ما خسره،  مضطهَد يعتقد أن ابنه قُتل ولم تعد تفرق معه نهائياً. ماذا سوف تفيد الكتابة لطفل قد مات ورحل!  كان هذا التحدّي الإضافي. إلى كل ذلك هناك إشكالية كوني من تعز وأنت صحافي من تعز يُسجّل في صنعاء، إذا أنت مع “الشرعية” ومع “العدوان السعودي” على اليمن. أقبح شيء في هذه العملية أن يتمّ تصنيفك على نحو مناطقي وطائفي. هذا لا يساعد شغلك ولا يسمح له بالتقدّم. كان عليّ أن أتجاوز هذا التحدي أيضاً، ومع إيماني بحق الضحايا في عدم الكلام، هو حق لهم. لكن لقيت ضحايا رفضوا الحديث لأن جماعة الحوثي حاولت استقطاب ذوي الضحايا أو الضحايا لدول التحالف وإجبارهم على عدم الكلام. لهذا كان التحرّك في صنعاء أكثر صعوبة

معظم دور النشر رفضت نشر الكتاب بتبريرات حملت أسباباً مرتبطة بدرجة انحيازها لجهة ما من جهات الحرب في اليمن، مَن يقف مع مَن ومن يشتغل لحساب مَن!

  • لكن هل من نقطة محورية دفعتك للذهاب في مشروع الكتابة هذا؟ مرحلة توقف مثلاً والتراجع عن الكتابة وتسجيل الشهادات؟

–        مند بداية الحرب كان التوثيق الذي أفعله يومياً، على شكل يوميات. لكن شعرت أن في هذا النوع من التدوين أنانية، شكل قبيح من أشكال الترف، لهذا توقفت عن مسألة نشرها. من الصعب أن تكون يوميات الحرب شخصية. لا بد من تكون حاملة لصوت جماعي. هو صوت الضحايا. من بعدها، قرّرت التركيز على تسجيل تلك الأصوات.  أن تكون محصوراً في ذاتك ويومياتك، هذا من شأنه جعلك أن تجد نفسك عبئاً على الحياة نفسها في حين الضحايا لا يجدون قلماً يكتب عنهم.

  • بداية رحلة العذاب

تخبرنا بشرى المقطري بأنه كان عليها الخروج من صنعاء إلى أماكن أخرى للاستماع إلى أصوات ضحايا آخرين. وكان الأمر يتطلب ميزانية خاصة، وهو ما كانت تحاول توفيره من العائد المادي الذي كان يأتي من وراء كتابتها الصحافية. لكن معضلة جديدة أتت حين الوصول إلى تلك المناطق، “في عدن كان أغلب ضحايا قصف التحالف يخافون التحدّث، لأنه تم تقيدهم كضحايا للقصف الحوثيين. كان بعضهم يقوم بالتسجيل معي ثم ما يلبث لاحقاً أن يرفض طالباً منيّ عدم النشر. كنت أتفهم رفضه على طول. كانت الأدوات الإماراتية تنزل إلى أُسر الضحايا وتقدّم لهم تعويضات مالية وتطلب منهم عدم الحديث لأي كان”.

  • وماذا عن رحلتك إلى مدينة تعز ؟

–        في تعز، وهي منطقتي، اكتشفت أن ضحايا الطيران يعانون من إهمال كبير، يتم تجاهلهم، يتم التركيز أكثر على ضحايا الحوثيين. غير مسموح بالحديث عن ضحايا قصف التحالف العربي. كان الخوف يمنع البعض من الضحايا من التحدث أو حتى من التواصل معي. في حين يظهر ضحايا القاعدة في تعز على نحو مُخيف. عدد منهم توصل معي، أسر تواصلوا بعد أن هربوا إلى صنعاء أو من مناطق أخرى. كانوا يتعرضون لاتهامات كونهم من جماعة الحوثي. لقد تم إخفاء عدد منهم من قبل القاعدة، مع أن البعض منهم كانوا متحالفين مع الشرعية أي الرئيس عبد ربه منصور هادي. وفوق ذلك، في بعض الأماكن كانت تجرى إعدامات لأشخاص لمجرد أنهم متهمون بكونهم من أنصار علي عبد الله صالح أو الحوثين أو حتى أشخاص تم تكفيرهم. لقد كانت حركتي في تعز مقيدة، أتهمت بمحاولة نبش وشقّ الصف. لاحقاً بعد سنتين، عندما بدأت القاعدة توجه سلاحهم لها، بدأ الخطر يصل إلى الجميع فظهر الحديث علناً عن الموضوع. البعض لا يحكي عن الحالة إلا حين يصل الأذى إليه.

  • في حديثك المدوّن على صفحتك الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك” نقرأ بأن مرحلة تدوين الشهادات في مدينة الحديدة ، (التي صارت اليوم تحت إشراف الأمم المتحدة) ، هل هي واحدة من أكثر التجارب قسوة في رحلة إنتاج هذا الكتاب؟

–        كل مرحلة في الكتاب كانت صعبة وقاسية. لكن يبدو أن مرحلة مدينة الحديدة هي الأصعب. في صنعاء منطقة خاضعة للحوثيين، لكن كان يوجد في ذلك الحين الرئيس الراحل علي صالح (قبل انهيار تحالفه مع الحوثيين ومقتله)، كان يوجد نوع من التوازن يتيح الحركة. لكن الحديدة كانت تجربة مخيفة. أي صحافي، أي كاتب يتعرض للتوقيف. الفنادق مراقبة، اضطرنا لتغيير أكثر من فندق بهوية مختلفة. أهالي الحديدة الخوف يتملكهم الخوف، الناس هناك مسلوبة حتى قدرتها على الكلام. كان الأمر صعباً أن تجعل الناس تتحدث. عندما نزلت كان أغلب الوقت قصف طيران، لذلك أغلب زياراتي كانت إلى المستشفيات للتسجيل مع الضحايا. دواعي الخوف كانت كثيرة في الحديدة وقد يمكنني الحديث عنها وقت لاحق.

الجارح في المسألة كان اكتشافي بأن الموت اليمني ليس سوقاً مُغرية

  • هل هناك شهادات لم تُنشر في كتابك ؟

–        هناك تسجيلات وأمور كثيرة موثقة قد تنشر لاحقاً. أي كاتب يعمل على ذاكرة توثيق الحرب يجب أن يوثّق. وثّقت فوق الـ ٨٠٠ تسجيل. اخترت جزءاً منها في الكتاب بحيث يكون هناك شكل من التنسيق، الواقع العجيب والمُحزن الذي يعيشه اليمن أجبرني على وضع توازن بين ضحايا كل الأطراف المتحاربة.  لكن المرعب في الأمر، الذي يمكن الحديث بخصوصه  يتمثل هنا في معضلة النُخب اليمنية نفسها التي تتحمّل مسؤولية ما وصل إليه الوضع من ترخيص لحياة اليمنيين، لا يُعامل أهل اليمن في البلدان التي يهربون إليها على هيئة لاجئين هاربين من الموت، لكن المصيبة بأن الحكومة “الشرعية” المأمورة من السعودية والمُقيمة في الرياض لا تعتبر ما يحصل في اليمن بأنه حرب، صحيح بأن انقلاباً حوثياً قد حصل وموجود إلى اليوم لكن هناك فعلاً حرب حقيقية وضحايا لا صوت لهم.

  • ما بين رحلتك في توثيق شهادات الضحايا وبين رحلة البحث عن طبع الكتاب، مسافة هل بإمكانك الحديث عنها؟

–        كانت تجربة صعبة، أقصد مرحلة البحث عن دار نشر تتكفل بطبع الكتاب. اكتشفت بأن الحرب في اليمن قد وصلت ليس فقط لدور النشر اللبنانية بل لمستوى الصحف اليومية. أتحدّث عن حالة الاصطفاف الحاصلة، معظم دور النشر رفضت نشر الكتاب بتبريرات حملت أسباباً مرتبطة بدرجة انحيازها لجهة ما من جهات الحرب في اليمن، مَن يقف مع مَن ومن يشتغل لحساب مَن! وظهر بأن مشكلة الكتاب بأنه يتحدّث عن كل الأطراف المشاركة في الحرب. لم أكن أتوقع أن جد صعوبة في نشر “ماذا تركت وراءك” إلى درجة اليأس التي بلغتها. وهي على العموم تجربة أوضحت لي حقيقة كيف ينظر العالم العربي إلى الحرب في اليمن.

  • ما أكثر شيء أحزنك وأصحابك بالألم في هذا الأمر؟

–        سأعود لما قلته سابقاً، عن مرحلة البحث عن النصوص والشهادات السورية التي خرجت من بعد الحرب هناك. كنت أقرأ، بحكم رغبتي في اكتساب طرق متفاوتة في آليات التدوين وكنت ألقى نماذج متنوّعة وكثيرة. لاحقاً اكتشفت بأن كل هذا الإقبال على الموضوع السوري كان بسبب كون الحرب السورية عبارة عن سوق يُغري دور النشر على حسب انتماء كل دار نشر لطرف ما. الجارح في المسألة اكتشافي بأن الموت اليمني ليس سوقاً مُغرية. وبأن الموت اليمني لا قيمة له.

  • وماذا بعد يا بشرى المقطري ؟

–        هذا الكتاب أتى لي بنوع من القوة. لكن مع ذلك أشعر بمستويات عديدة خلاله وبسببه بكوني ضحية. مثل ريهام بدر صديقتي التي قُتلت في نفس يوم وصول رسالة تبلغني بقبول نشر الكتاب. وفوق ذلك، عندما تقوم بالتسجيل مع الضحايا تضع مسافة بينك وبينكم. تتحوّل إلى مجرّد مستمع. لكن حين تعاود الاستماع إلى التسجيلات تشعر بالألم مضاعفاً. تجربة ألم نفسي مضاعفة. كنت أبكي باستمرار. أحد الضحايا فقد زوجته وأطفاله كانت يتحدّث ويبكي بحرقة وأحاول أن أخفف عنه. كان حديثه عن زوجته. كنت لأوّل مرّة على الإطلاق أرى رجلاً يبكي. كان يقول: “ليتني أقدر الصعود إلى السماء وإرجاعها إلى حياتي”.

إقرأ أيضاً:
سلاح المجموعات… المشكلة الأم في اليمن
منظّمة “مواطنة” توثق أهم الآثار التي هدمتها الحرب في اليمن