fbpx

الجانب المُظلم لعلم نفس شبكات التواصل الاجتماعي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان هدف موقع “فيسبوك” الأساسي في بدايته، “جعل العالم أكثر انفتاحاً وتواصلاً”، وفي الأيام الأولى من ظهور وسائل التواصل الاجتماعي… ولكن كيف تغيّر؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لنفترض أن القصة التوراتية للخلق كانت صحيحة: خلق الله الكون في 6 أيام، بما في ذلك قوانين الطبيعة والثوابت الفيزيائية التي تنطبق على الكون بأكمله. والآن تخيل أنه في يوم من الأيام، في أوائل القرن الحادي والعشرين، شعر الإله بالملل، وعلى سبيل التسلية فقط، ضاعف ثابت الجاذبية. كيف سيكون الأمر لو أنكَ تعيش في مثل هذا التغيير؟ سننجذب جميعاً نحو الأرض، وستنهار مبانٍ، وستسقط الطيور من السماء، وستقترب الأرض من الشمس، ما سيؤدي إلى تغيُّر مدارها إلى منطقة أشد حرارةً.

لنُعد تطبيق هذه التجربة الفكرية مرة أخرى في العالم الاجتماعي والسياسي، بدلاً من العالم المادي. كان دستور الولايات المتحدة بمثابة ممارسة عملية لنظرية التصميم الذكي أو الرشيد. فقد أدرك الآباء المؤسسون أن الأنظمة الديموقراطية السابقة كانت بمعظمها غير مستقرة وقصيرة الأجل. ولكنهم كانوا من علماء النفس البارعين، ولذا سعوا إلى خلق المؤسسات والتدابير القادرة على مواكبة الطبيعة البشرية لمقاومة القوى التي مزقت المحاولات الأخرى للحكم الذاتي.

على سبيل المثال، في كتابه “الأوراق الفيدرالية، ورقة رقم: 10″، كتب جيمس مادسون عن خوفه من قوة “التحزب”، والتي كان يقصد بها الانتماء الحزبي القوي أو المصالح الفئوية التي “ألهبت في البشر مشاعر البغضاء المتبادلة”، وجعلتهم ينسون المصلحة العامة. إضافة إلى ذلك، فقد تصور أن اتساع مساحة الولايات المتحدة قد يوفر بعض الحماية من ويلات الانقسامات الطائفية، وذلك لأنه من الصعب على أي شخص أن ينشر السخط والكراهية على مثل هذه المسافة الكبيرة. فقد افترض ماديسون أن القادة المُنشقين مثيري الفتنة أو الداعين إلى الانقسام “يُمكن أن يشعلوا الجذوة الطائفية داخل ولايتهم، لكنهم سيظلوا عاجزين عن أن ينشروا حريقاً عاماً في الولايات جميعها”. وتضمن الدستور آليات من أجل معالجة الأمور بروية وتهدئة المشاعر وتشجيع التفكّر والتأني والتشاور.

أثبت تصميم ماديسون أنه قوي وقابل للاستمرار. ولكن ماذا قد يحدث للديمقراطية الأميركية إذا ظهرت في يوم من الأيام، في أوائل القرن الحادي والعشرين، إحدى التقنيات الحديثة التي غيرت -على مدى عقد من الزمان- الكثير من المعالم الأساسية للحياة الاجتماعية والسياسية؟ وماذا لو أدت هذه التقنية إلى زيادة “العداء المتبادل” بصورة هائلة، وكذلك السرعة التي ينتشر بها السخط والكراهية؟ تُرى هل نشهد المُقابل السياسي لانهيار المباني، وسقوط الطيور من السماء، واقتراب الأرض من الشمس؟

وربما الولايات المتحدة تمر بهذه الفترة، في وقتنا الحالي.

ماذا غيرت وسائل التواصل الاجتماعي

كان هدف موقع “فيسبوك” الأساسي في بدايته، “جعل العالم أكثر انفتاحاً وتواصلاً”، وفي الأيام الأولى من ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، اعتقد كثر أن الزيادة العالمية الهائلة في القدرة على التواصل من شأنها أن تُفيد الديموقراطية. لكن بمرور الوقت، صاحبه تبدد التفاؤل الذي صاحب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتنامت قائمة الأضرار المعروفة أو المتوقعة: والواقع أن المناقشات السياسية التي تحدث على شبكة الإنترنت (غالباً بين مجموعات من الغرباء المجهولين) أصبحت أكثر غضباً وأقل تحضراً مقارنةً بالمناقشات التي تحدث في الحياة الواقعية، وصارت الشبكات التي تضم الموالين لاتجاه معين تُساهم في خلق وجهات النظر العالمية التي قد تصبح أكثر تطرفاً، وتفاقمت حملات التضليل الإعلامي، وباتت الأيديولوجيات العنيفة تُغري الأفراد المعنيين بالانضمام إليها.

قد لا تكمن المشكلة في التواصل بحد ذاته، بل في الطريقة التي تُغير بها وسائل التواصل الاجتماعي هذا القدر الكبير من التواصل إلى عرض علني أمام شريحة واسعة من الجمهور.

قد لا تكمن المشكلة في التواصل بحد ذاته، بل في الطريقة التي تُغير بها وسائل التواصل الاجتماعي هذا القدر الكبير من التواصل إلى عرض علني أمام شريحة واسعة من الجمهور. غالباً ما نفكر في التواصل على أنه طريق ذو اتجاهين. تنشأ الألفة والعلاقات الحميمية بين الأشخاص عندما يتناوبون الأدوار، ويتبادلون الضحكات، ويتشاطرون المعلومات معاً. ولكن ماذا قد يحدث حين تُنصب المدرجات على جانبي ذلك الطريق، وبعد ذلك تمتلئ بالأصدقاء والمعارف والمنافسين والغرباء، وجميعهم يصدرون الأحكام ويقدمون التعليقات؟

ابتكر عالم النفس الاجتماعي مارك ليري مُصطلح “سوشيوميتر”، لوصف المقياس العقلي الداخلي الذي ينبئنا، لحظة بلحظة، بكيفية رؤية الآخرين لأفعالنا من منظورهم الشخصي. يرى ليري أننا لا نحتاج حقاً إلى الاعتداد بالذات، ولكن بدلاً من ذلك، تتلخص الحتمية التطورية في حمل الآخرين على النظر إلينا كشركاء مرغوب فيهم في مختلف أشكال العلاقات. فقد نجحت وسائل التواصل الاجتماعي، بما تقدمه من إعجابات، وأصدقاء، ومتابعين، وإعادة تغريدات، في انتشال مقياس “السوشيوميتر” الكامن في أفكارنا الخاصة ونشره على الملأ لكي يراه الجميع.

إذا كنت تبدي غضباً في محادثاتك الخاصة باستمرار، فمن المحتمل أن يجدك أصدقاؤك مُملاً، ولكن عندما يكون هناك جمهور، فإن النتائج قد تختلف، إذ إن الغضب في هذا السياق قد يُعزز مكانتك. في دراسة أعدها ويليام برادي ومجموعة من الباحثين في جامعة نيويورك عام 2017، تم قياس مدى انتشار نصف مليون تغريدة، ووجد الباحثون أن كل كلمة تنطوي على معنى أخلاقي أو عاطفي وردت في التغريدة زادت من معدل انتشارها بنسبة 20 في المئة في المتوسط. بينما أظهرت دراسة أخرى عام 2017، أعدها مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center)، أن المشاركات التي تنطوي على “أمر خلافي مثير للسخط” تلقت نحو ضعف نسبة المشاركة -بما في ذلك الإعجابات والمشاركات- مقارنة بالأشكال الأخرى من المحتوى التي تظهر على “فيسبوك”.

اقترح اثنان من الفلاسفة، هما جستين توسي وبراندون وارميك، استخدام العبارة الفعالة “المزايدات الأخلاقية” لوصف ما يحدث عندما يستخدم الناس النهج الأخلاقي في الحديث لتعزيز مكانتهم في المحافل العامة. مثل مجموعة من الخطباء الذين يتعاقبون في وعظ جمهور يُخيم عليه الشك حول قضية ما، فيسعى كل منهم إلى التفوق على من سبقه من الخطباء، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور بعض الأنماط المشتركة في أدائهم. عادةً ما يتبع الأشخاص الذين يتحدثون بطريقة تهدف إلى جذب الانتباه وإقناع مريديهم، نهجاً ينطوي على “اختلاق الاتهامات الأخلاقية، وتضخيم قضايا التشهير على الملأ، والإعلان أن أي شخص يخالفهم الرأي هو خاطئ بوضوح، أو المبالغة في استعراض المشاعر”. وهنا تقع الحقيقة والفوارق الدقيقة التي لا تكاد تدرك، ضحية في هذه المنافسة لكسب تأييد الجمهور. إذ يُمحص هؤلاء الأشخاص كل كلمة ينطق بها معارضيهم -بل وحتى أصدقائهم أحياناً- بحثاً عن فرصة لإثارة الغضب الشعبي. أما سياق الحديث فينهار. ويتم تجاهل هدف المتحدث.

تطور الجنس البشري على الثرثرة والتأنق والتفاخر بالنفس والتلاعب ونبذ الآخرين. ولذا نجد أنفسنا منجذبين بسهولة إلى هذا السيرك الجديد من مُبارَزات المُصارعين، على رغم أننا ندرك أنه قد يجعلنا قُساة وسطحيين. وكما قالت عالمة النفس في جامعة ييل مولي كروكيت، فإن القوى الطبيعية التي قد تمنعنا من الانضمام إلى مجموعة من الغوغاء الغاضبين -مثل الوقت الذي نحتاجه للتفكّر وتهدئة أنفسنا، أو مشاعر التعاطف التي نستحضرها عندما نرى شخصاً يتعرض للإهانة- تضعف عندما لا تمكننا رؤية وجه الشخص، وعندما يُطلب منا، مرات عدة في اليوم، أن ننضم إلى صفوف الشاجبين من خلال ضغط زر “الإعجاب” علانية.

بعبارة أخرى، تعمل وسائل التواصل الاجتماعي على تغيير الكثير من مواطنينا الأكثر انخراطاً في السياسية إلى هؤلاء القادة المُنشقين المثيرين للفتنة الذين تحدث عنهم مادسون في تصوره: وهم مشعلو الحرائق الذين يتنافسون على ابتكار أكثر المنشورات والصور التحريضية المؤججة للمشاعر، والتي يمكنهم نشرها وتوزيعها في مختلف أنحاء البلاد في لحظة، بينما يعرض مقياس “السوشيوميتر” الخاص بهم إلى أي مدى وصلت إبداعاتهم.

أداة رفع مستوى السخط والكراهية

في أول تأسيسها، كانت وسائل التواصل الاجتماعي شديدة الاختلاف عن وقتنا الحالي. ظهرت مواقع مثل “فريندستر” و”ماي سبيس” و”فيسبوك” دفعة واحدة ما بين عامي 2002 و2004، موفرةً وسائل لمساعدة المستخدمين على التواصل مع أصدقائهم. وقد شجعت تلك المواقع المستخدمين على نشر نسخ منمقة للغاية ومُختارة بعناية من حياتهم، لكنها لم تقدم وسيلة لإثارة عدوى السخط والكراهية. تغير هذا تدريجياً عبر مجموعة من الخطوات الصغيرة -المصمَّمة لتحسين تجربة المستخدم- التي غيّرَت جماعياً طريقة انتشار السخط والأخبار في المجتمع الأميركي. لإصلاح وسائل التواصل الاجتماعي -وتقليل أضرارها على الديمقراطية- علينا محاولة فهم هذا التطور.

عندما تأسس موقع “تويتر” في عام 2006، كان الابتكار المميز الرئيسي فيه هو “الخط الزمني” (Timeline): وهو عبارة عن تدفق مستمر للتحديثات أو التغريدات -المكونة بحد أقصى من 140 حرفاً- من الحسابات التي اختار المستخدم متابعتها، والتي يمكن مشاهدتها على الهاتف أيضاً. مثَّل الخط الزمني طريقةً جديدة لاستهلاك المعلومات، من خلال تدفق لا نهائي من المحتوى بطريقة بدت لكثيرين مكثفةً حدَّ الإرهاق.

في وقت لاحق من العام ذاته، طرح “فيسبوك” نسخته الخاصة من “الخط الزمني”، وأطلق عليها “آخر الأخبار” (News Feed). وعام 2009 أضاف الموقع زر “الإعجاب”، وأنشأ لأول مرة مقياساً عاماً لمدى شعبية المحتوى. ثم أضاف ابتكاراً آخر أحدث انقلاباً كبيراً: عبارة عن خوارزمية تحدد المنشورات التي سيراها المستخدم، بالاعتماد على “الإقبال” المتوقع، أي احتمال تفاعل أحد المستخدمين مع منشورٍ معين، ويتم الاستدلال على ذلك من إعجابات المستخدم السابقة. قنّن هذا الابتكارُ التدفقَ الكثيف اللانهائي للمحتوى، وحوَّله إلى تدفّقٍ مؤطَّر ومُختار بعناية.

اقترح اثنان من الفلاسفة، هما جستين توسي وبراندون وارميك، استخدام العبارة الفعالة “المزايدات الأخلاقية” لوصف ما يحدث عندما يستخدم الناس النهج الأخلاقي في الحديث لتعزيز مكانتهم في المحافل العامة.

دمر ترتيبُ المحتوى لخوارزمية “آخر الأخبار” التسلسلَ الهرمي للمصداقية. فوَفقاً لهذه الخوارزمية، يمكن أن يظل أي منشور لأي صانع محتوى ظاهراً في أعلى صفحة “آخر الأخبار” طالما أنه يحقق إقبالاً أو تفاعلاً. قد تزدهر “الأخبار الزائفة” في مثل هذه الأجواء، فطالما أن منشور إحدى الصفحات الشخصية يشبه مقالة لصحيفة “ذي نيويورك تايمز” في طريقة صياغة المحتوى والمظهر، ستعتبره الخوارزمية منشوراً للصحيفة.

أجرى “تويتر” عام 2009 تغييراً رئيسياً، بإضافة زر “إعادة التغريد”. فحتى ذلك الوقت، كان على المستخدمين نسخ التغريدات ولصقها في خانات تحديثات الحالة الخاصة بهم، وهي مجرد عقبة صغيرة تتطلب بضعة ثواني من التركيز والاهتمام. ولذا فقد أتاح زر إعادة التغريد، بشكلٍ أساسيّ، إمكان نشر المحتوى بمجهود أقل، إذ يمكنك بضغطة بسيطة نقل تغريدة شخص آخر إلى جميع متابعيك، مع منحك حصة من الثناء على المحتوى المنقول. قدم “فيسبوك” عام 2012 نسخته الخاصة من إعادة التغريد -وذلك بإتاحة زر “المشاركة”- إلى أسرع جمهوره تزايداً، وهم مستخدمو الهواتف الذكية.

كان كريس ويثيريل أحد المبرمجين الذين صمموا زرَّ إعادة التغريد لموقع تويتر. وقد اعترف لموقع “باز فيد” (BuzzFeed) في وقت لاحق من هذا العام أنه ندم الآن على ذلك. فعندما رأى ويثيريل أول حشود غوغائية على تويتر تستخدم أداته، قال لنفسه: “ربما كل ما فعلناه هو أننا أعطينا طفلاً في الرابعة من عمره سلاحاً معبَّأً”.

الضربة القاضية

أتت الضربة القاضية في عامي 2012 و2013، عندما شرَع موقع “آبورثي” (Upworthy) وغيره من المواقع في استغلال مجموعة الأدوات الجديدة تلك، وأخذ الريادة في فن اختبار العناوين عبر عشرات المتغيرات للعثور على النسخة التي ستحقق أعلى نسبة نقر. كانت هذه بداية مرحلة المقالات المعنونة بعبارات تبدأ بـ”لن تصدق كذا” وما شابهها، والمصحوبة بصورٍ تمَّ اختبارُها وانتقاؤها لتجعلنا ننقر على الرابط باندفاع. لم يكن المقصود غالباً من هذه المقالات هو إثارة السخط والكراهية (فقد كان مؤسس موقع آبورثي أكثر اهتماماً بارتقاء الموقع)، ولكن نجاح الاستراتيجية ضَمِن انتشار اختبار العناوين -ومع تغليفه القصة بقالب عاطفي- في جميع وسائل الإعلام الحديثة والقديمة على حدٍّ سواء، تكاثرت العناوين المُشينة والمشحونة أخلاقياً في السنوات التالية.

تناول لوك أونيل، في مقالة لمجلة “إسكواير” (Esquire) التغيرات التي طرأت على وسائل الإعلام الرئيسية، معلناً عام 2013 “عامَ انفصالنا عن الإنترنت”. في العام التالي، بدأت وكالة أبحاث الإنترنت الروسية بتعبئة شبكتها بالأخبار الزائفة في جميع منصات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى، مستغلةً أداةَ إثارة السخط والغضب الجديدة في تأجيج الانقسامات الحزبية وتعزيز الأهداف الروسية.

لا يتحمل عالم الإنترنت وحده -بالتأكيد- المسؤولية عن نبرة الغضب السياسية المنتشرة اليوم. فقد عمل الإعلام على إثارة الانقسامات منذ عهد الرئيس جيمس ماديسون، ويَعزو علماء السياسة جزءاً من ثقافة الغضب السائدة في يومنا هذا إلى وقت ظهور التلفاز الكبلي (cable TV) والبرامج الإذاعية في الثمانينات والتسعينات. ربّما كانت هناك قوى عدة تدفع أميركا نحو مزيدٍ من الاستقطاب، لكن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منذ عام 2013 وسيلةً قوية وفعالة لأي شخصٍ يريد إثارة الفتن.

اندثار الحكمة

حتى لو كان بالإمكان معالجة آثار وسائل التواصل الاجتماعي المثيرة للغضب والكراهية، فستظل تثير مشكلات تؤثر على الاستقرار الديمقراطي. إحدى هذه المشكلات هي مدى هيمنة أفكار وصراعات اللحظة الراهنة على أفكار ودروس الماضي، لتحل هي محلها. فمع نمو الأطفال في أميركا، يتدفق سيلٌ من المعلومات باستمرار إلى عيونهم وآذانهم، مُشكّلاً خليطاً من الأفكار والروايات والأغاني والصور وغيرهم الكثير. لنفترض أنه يمكننا تجميع وتقدير كمية ثلاثة تدفقات تحديداً من المعلومات وهي: المعلومات الحديثة (الناتجة خلال الشهر الماضي)، والمعلومات متوسطة العمر (الناتجة منذ فترة تمتد من عشرة أعوام إلى خمسين عاماً، بواسطة الجيل الذي يشتمل على آباء وأجداد الأطفال)، والمعلومات القديمة (الناتجة منذ أكثر من مائة عام).

بغضِّ النظر عن أرصدة هذه الفئات الثلاث ودرجة التوازن في ما بينها خلال القرن الثامن عشر، فإن هذا التوازن تغيَّر بالتأكيد خلال القرن العشرين ليصب في فئة المعلومات الحديثة، إذ أصبحت أجهزة الراديو والتلفاز منتشرة في جميع المنازل الأميركية. وصار هذا التغيُّر أكثر وضوحاً وسرعة بلا شكٍ خلال القرن الحادي والعشرين. فعندما بدأ معظم الأميركيين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام، عام 2012 تقريباً، تواصلوا بشكلٍ مفرِط للغاية على نحوٍ زاد بشكلٍ هائل من استهلاكهم للمعلومات الحديثة، بينما قلّل من مشاركتهم المعلومات القديمة. إذاً ما تأثير هذا التغير؟

عام 1790، كتب الفيلسوف ورجل الدولة الأنجلو-إيرلندي، إدموند بيرك “نحن وجلون من ترك الناس يحيون ويتبادلون المنافع كلٌّ بحسبِ منطقه الخاص، إذ إنّنا نعتقد بضآلة هذا المنطق الفردي، ونرى من الأفضل أن ينتفع الأفراد من رأسمال ومخزون الأمم والأجيال العام”. نبدأ اليوم، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تجربة عالمية جديدة، ستضع تحت المحكّ مخاوفَ بيرك لنرى إن كانت حقيقة أم لا، فتلك الوسائل تدفع الناس من جميع الأعمار إلى تسليط انتباههم على الفضائح والنكات أو الصراعات اليومية، لكنها قد تكون عميقة الأثر على الأجيال الشابّة خصوصاً، وهي الأجيال التي تضاءلت فرصتها في اكتساب الحكمة والمعارف قبل الانخراط في تيار التواصل الاجتماعي.

ربما لم يكن أسلافنا الذين اتسموا بقدر أكبر من الثقافة أكثر حكمةً منّا في المتوسط، إلّا أن الأفكار التي أورثونا إيّاها قد خضعت لعملية ترشيح. فغالباً ما نتعلم أفكاراً رأت أجيالٌ متعاقبة جدارتَها، بالتوريث والانتقال إلى خلَفَهم؛ ولكن هذا لا يعني صوابيّةَ هذه الأفكار دائماً، وإنما يعني أن قيمتها، على المدى الطويل، تَرجُحُ معظمَ المحتوى الذي نشأ خلال الشهر الماضي. ومع امتلاك جيل التسعينيات (مواليد ما بعد عام 1995 تحديداً) إمكانيةَ وصولٍ غير مسبوقة لجميع ما كُتِب وخُزّن رقمياً، فإنهم قد يجدون أنفسهم أدنى درايةً بالحكمة الإنسانية المتراكمة من أيّ جيلٍ آخر في القرن الماضي، ومن ثَمَّ فهم أكثر عرضةً لتبنّي أفكار تجلب لهم الوجاهة الاجتماعية في شبكتهم المقرَّبة، ولكنها في نهاية المطاف تكون أفكاراً مضلِّلة.

على سبيل المثال، ساعدت بعضُ منصات التواصل الاجتماعي اليمينيّة في تمكين أكثر الأيديولوجيات تعرّضاً للنقد خلال القرن العشرين (النازيّة) من اجتذاب الشباب المتعطّشين إلى أيّ إحساسٍ بالمعنى والانتماء، فصاروا على استعدادٍ لمنح تلك الأيديولوجية فرصةً ثانية. أمّا الشباب ذوو الميول اليساريّة فيَبدوا، على النقيض، إنهم يتبنّون الاشتراكية بل حتى الشيوعية، في بعض الحالات، مع حماسةٍ قد تبدو أحياناً منتزَعةً من تاريخ القرن العشرين. تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أنّ الشباب عبر جميع الأطياف السياسيّة، بدأوا يفقدون الثقة والإيمان بالديموقراطية.

هل من سبيل إلى العودة؟

غيّرت وسائل التواصل الاجتماعيّ حَيَوات ملايين الأميركيين، فجأةً وبقوّة لم يتوقّعهما كثيرون. والسؤال الآن حول إمكان أن تفنّد تلك التحديات ما افترضه جيمس مادسون وغيره من “الآباء المؤسسين” (للولايات المتحدة) حين كانوا يصمّمون نظاماً للحكم الذاتي. مقارنةً بالأميركيين في القرن الثامن عشر، بل حتى في القرن العشرين، فالمواطنون اليوم أكثر ترابطاً، وبطرائق تَزيد الأداء العام وتعزّز التظاهر الأخلاقي في ما بينهم، على منصات صُمّمَت لنشر الغضب والإساءات فيما توجّه عقول الناس للتركيز على الصراعات المباشرة والأفكار غير المجرَّبة والمتحرّرة من التقاليد والمعارف والقيم التي كان لها سابقاً تأثيرٌ في التوازن والاستقرار. ولهذا نعتقد أن الأميركيين ومواطني دولٍ كثيرة أخرى يجدون الديموقراطية ميداناً كلّ ما فيه أصابه الجنون.

ليس حتماً أن تكون الحال هكذا. فوسائل التواصل الاجتماعي ليست سيئة بطبيعتها، وتتمتع بالقدرة على إعطاء نتائج جيّدة، مثلما هو الحال حين تسلّط الأضواء على الأضرار والمآسي التي كانت خفيّة في السابق، وحينما تمنح صوتاً ومنبراً للمجتمعات التي كانت ضعيفةً وعاجزة في الماضي. كل تقنية اتصال جديدة تأتينا مصحوبةً بمجموعة من التأثيرات البنّاءة والهدّامة، ومع مرور الوقت نجد أساليب لتحسين التوازن بين تلك التأثيرات. كثر من الباحثين والمشرِّعين والمؤسسات الخيريّة وأشخاص من داخل القطاع التقنيّ يعملون الآن في تضافرٍ بحثاً عن مثل هذه التحسينات. هنا نقترح ثلاثةَ أنماطٍ من الإصلاح، قد تكون مفيدة وتساعد في هذا الأمر.

(1) خفض وتيرة الأداء العام وحدته: إن كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد خلقت محفّزاتٍ للتظاهر الأخلاقي بدلاً من التواصل الحقيقي الأصيل، فعلينا أن نتطلّع إلى سبل جديدة لتقليل هذه المحفزّات. من أمثلة تلك السبل، التي بالفعل تختبرها بعض المنصات، هو “إخفاء الأرقام” demetrication، ومهمتها إخفاء الأرقام التي تُشير إلى عدد الإعجابات والمشارَكات التي تتلقّاها منشورات المشترك بالموقع؛ وذلك ليكون من الممكن تقييم المحتويات التي ينشرها بناءً على ما تستحقه هي بالدرجة الأولى؛ ولكي لا يكون مستخدمو تلك المواقع خاضعين للتنافس المستمر على الشعبية العامة.

تطور الجنس البشري على الثرثرة والتأنق والتفاخر بالنفس والتلاعب ونبذ الآخرين. ولذا نجد أنفسنا منجذبين بسهولة إلى هذا السيرك الجديد من مُبارَزات المُصارعين، على رغم أننا ندرك أنه قد يجعلنا قُساة وسطحيين.

(2) خفض نطاق الحسابات غير المؤكَّدة: أكثر مَن يستفيدون من النظام الحالي هم الجهات الفاعلة السيئة، من المتصيّدين والعملاء الأجانب والمحرِّضين المحلّيّين. ففي هذا النظام يمكن أي إنسان أن يُنشئ مئات الحسابات الزائفة ويستخدمها في التلاعب بملايين الناس. لذا، ستصير وسائل التواصل الاجتماعي أقلّ سُمّيةً بكثير، وستصبح الديموقراطيات أقلَّ عُرضةً للاختراق إذا ما صارت المنصّات الكبرى تطلب أبسط درجات التحقّق من الهُويّة قبل أن يفتح أي إنسان حساباً فيها، أو على الأقل بالنسبة إلى نوعية الحسابات التي تسمح لمستخدميها بالوصول إلى جماهير عريضة. (ربّما يمكن أن يظلّ النشر في حد ذاته من دون شروط التحقّق من الهويّة، ويمكن أن يتمّ التسجيل بطريقة تحمي معلومات المستخدمين الذين يعيشون في بلاد قد تحاول حكوماتها عقابَ المعارِضين. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يتم التحقّق من الهويّة بالتعاون مع منظمة غير ربحيّة مستقلّة).

(3) الحد من انتقال عدوى المعلومات ذات الجودة المنخفضة: ازدادت سُمّيّة وسائل التواصل الاجتماعيّ مع انتزاع عامل الاحتكاك والتفاعل بين موقعٍ ما وبين مستخدميه. ولذا فإن إضافة هذا العامل كما كان في الماضي، أثبتت جدارته في تحسين جودة المحتوى. على سبيل المثال، حين كان المستخدم يكتب تعليقاً نجد أن الذكاء الصناعيّ يمكنه التعرّف إلى النص وإن كان شبيهاً بتعليقاتٍ سابقة موصوفة بالخطر، فيسأل المستخدم
“هل أنت متأكد من رغبتك في نشر هذا التعليق؟”. ظهرت تلك الخطوة الإضافية لمساعدة مستخدمي “إنستاغرام” على إعادة التفكير في نشر المشاركات المؤذية والمسيئة للآخرين. بالمثل، يمكن تحسين جودة المعلومات التي تُنشَر للآخرين من خلال خوارزميات التوصية، وذلك من خلال منح مجموعة من الخبراء إمكان تدقيق الخوارزميات لاكتشاف مكامن الأذى والتحيّزات.

قد يعتقد كثير من الأميركيّين أنّ الفوضى التي نشهدها في الوقت الحالي ناتجة عن الرئيس الحالي في البيت الأبيض، وأنّ الأمور ستعود إلى طبيعتها مع رحيله. غير أنّه لو ثبتت صحّة تحليلنا فلن يحدث هذا. فقد تغيّرت الكثير من المعايير الجوهريّة للحياة الاجتماعيّة، وظهر تأثير هذه التغيّرات عام 2014. تلك التغيرات نفسُها ساعدت في انتخاب دونالد ترامب.

إن أردنا نجاح ديموقراطيّتنا -وبالأحرى لو أردنا لفكرة الديموقراطية نفسها أن تستعيد جدارتها ومكانتها في زمن يتزايد فيه السخط عليها- فعلينا أن نفهم الطرائق التي بها تخلق منصّات التواصل الاجتماعيّ ظروفاً قد تكون مُعادِية لنجاح الديموقراطية. حينها سيتعيّن علينا اتخاذ إجراءات حاسمة لتحسين هذه المنصّات.

هذا المقال مترجم عن theatlantic ولمراجعة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.