fbpx

رحلة التحضير لنهاية قاسم سليماني والاغتيال كأداة سياسية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في مجال الاستخبارات، تزخر الجنائز بكمّ معلومات عن السياسات الداخليّة للعدو. يراقب المحللون لمعرفة من أرسل باقات الزهور الفاخرة، ومن الشخصيّات الواعدة والمتطلّعة يحتلّ المَقاعد الأماميّة

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين تنخرط الدول القوميّة في الحسابات الدمويّة للقتل، تتلاشَى الحدود بين مَن بإمكانِهم استهدافه ومَن لا يمكنهم استهدافه. في 3 كانون الثاني/ يناير، شنّت الولايات المتّحدة هجمةً بطائرة موجَّهة اغتالَت اللواء قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس”، وهو وحدة استخباراتيّة وقوّات خاصّة من النخبة في إيران. كان سليماني أحد أقوى القادة الإيرانيّين، وكان يدير العمليّات شبه العسكريّة في أنحاء الشرق الأوسط، ومنها حملة تفجيرات بالقنابل على جنبات الطرق وغيرها من الهجمات التي شنّها وكلاء إيران، وأدّت إلى مقتل 600 أميركيّ على الأقلّ في حرب العراق.

منذ اتّفاقيّة لاهاي عام 1907، حظر “قانونُ النزاعات المسلّحة” عموماً قتلَ أيِّ مسؤول حكوميّ أجنبيّ خارجَ أوقات الحرب. حين أعلنت إدارة ترامب أوّل مرّة مقتل سليماني، أشار المسؤولون إلى أنّه شكّل تهديداً “وشيكاً” للأميركيّين. لاحقاً، وبعد تشكيكاتٍ وانتقادات، غيّرت الإدارة تفسيراتِها، مشيرةً إلى دور سليماني في “سلسلة هجمات” متواصلة. وفي نهاية المطاف توقّف الرئيس ترامب عن محاولة التبرير، وكتب تغريدةً أنّ الأمر “لا يهمّ حقّاً”، بالنظر إلى “الماضي البشع” لسليماني. يعَدّ إهمال الرئيس سؤال الشرعيّة بمثابة خيانة لحقيقةٍ قاتمة؛ مفادُها أنّ قرار دولةٍ ما بالقتل لا يتوقّف على أمور قانونيّة محدَّدة قدرَ ما يتوقّف على مجموعة مرنة للغاية من الاعتبارات الأخلاقيّة والسياسيّة المتعمقة. وفي حالة سليماني، فإنّ أمر ترامب بقتله مثَّلَ ذروةَ مغامرةٍ استراتيجيّة كبرى لتغيير منطقة الشرق الأوسط، وفتحَ جبهةٍ مروِّعة جديدة محتملَة من استخدام نهج الاغتيالات.

البداية: عماد مغنية

في الواقع بدأ الطريق إلى اغتيال سليماني بعمليّة قاتلة أخرى حدثت منذ أكثر من عِقدٍ من الزمن – في ليلةٍ شاتية من ليالي شباط/ فبراير 2008، في أحد الأحياء السكنيّة الراقية في العاصمة السوريّة دمشق. كان المستهدَف هو عماد مُغْنيّة، وهو مهندس لبنانيّ ملتحٍ وممتلئ الجسم في منتصف الأربعين من العمر، لو رأيتَه لحسِبتَه أستاذاً في الجامعة. كان مغنيّة مهندسَ الاستراتيجيّة العسكريّة لجماعة ’حزب الله‘، وهي الميليشيا المسلّحة المسيطرة على لبنان وتُدعَم عسكريّاً وماليّاً من إيران. وقد حُمِّل مغنيّة مسؤوليّة بعض أكثر الهجمات الإرهابيّة دراماتيكيّةً خلال ربع القرن الأخير، ومنها تفجيرات أدّت إلى قتل حوالى 250 أميركيّاً في بيروت عام 1983، ومنها أيضاً هجوم انتحاريّ ضدّ السفارة الإسرائيليّة في الأرجنتين عام 1992، قُتِل فيه 29 شخصاً. يقول روبرت باير، الموظّف السابق في “وكالة الاستخبارات المركزيّة” CIA، إننا “نحمّل مغنيّة مسؤوليّةَ إلحاقِ أضرارٍ بالوكالة أكثر مّما فعل أيّ شخصٍ آخر–انتهى الأمر”. 

عام 2006، أعلنت إسرائيل -بعد حربٍ شرسة قصيرة مع جماعة “حزب الله” اللبنانيّة- عن مهمّة لتعقّب مغنيّة قبل أن يعيد تنظيم صفوفه لشنّ مزيد من العمليّات القتاليّة. كلّف أولمرت -رئيس الوزراء الإسرائيليّ حينها- مائير داغان بهذه العمليّة، كان داغان هو رئيس الموساد وقتها (وهو جهاز الاستخبارات الخارجيّة الإسرائيليّ). يحتقر داغان، وهو من المحاربين القدامى، تلك الحكايا الساذجة المُبتذَلة التي تُنسَج حول طبيعة عمله. وقد ذكر لاحقاً لأحد الصحافيّين أنّه “لا متعة في القتل. مَن يستمتع بهذا ليس سوى مريضٍ نفسيّاً”. تلقَّى داغان نصيبه الخاصّ من العمليّات التي قام بها مغنيّة. فعام 1982 كان يؤدّي خدمته في جنوب لبنان حين قام مهُاجِم انتحاريّ -يُقال إنّ مغنيّة هو مَن جنّدَه- بتحويل موقع للاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة إلى ركام. كان داغان يحبّ القول إنّه “يوماً ما سأقبض على مغنيّة، وحينها بمشيئة الربّ سأُنهي حياته” (توفّي داغان عام 2016).

وبينما تسلّل عملاء إسرائيليّون إلى دمشق للتجهيز للعمليّة، طلب داغان مساعدةَ “وكالة الاستخبارات المركزيّة” الأميركيّة. على عكس إسرائيل، كانت لدى الولايات المتّحدة سفارة في دمشق فيها مركز عمليّات للوكالة مكتظٌّ بضبّاط سرّيِّين. واستجابةً لطلب داغان، استأجرَت الوكالة شقّة تطلّ على مقرّ اجتماعات مغنيّة، وجهّزها العملاء الإسرائيليّون بكاميرات صغيرة يتم التحكّم فيها من بُعد، وتبثّ مباشرةً إلى مقرّ الموساد في منطقة تلّ أبيب. صاغ الموساد الخطّة، التي دعَت إلى إخفاء قنبلة في سيارة متوقّفة. صمّم الفريق التقنيّ للموساد ما يسُمّى “حشوة مُشكَّلة”، تقوم بإسقاط شظايا في “منطقة قتل” مخروطيّة الشكل مساحتها 5 أمتار. ووفقاً لمسؤول إسرائيليّ سابق، قامت “وكالة الاستخبارات المركزيّة” الأميركيّة بتهريب الحشوة بين شُحنات معتادة إلى السفارة. وقام مكتب الوُكالة في دمشق بتسليم “الحشوة” إلى الموساد، وقام عملاؤه بتركيبها في حامل الإطار الاحتياطيّ بسيّارة رياضيّة متعدّدة الأغراض من طراز “ميتسوبيشي باجيرو”.

 بعد 12 عاماً من اجتماعهم في ليلة شتاء في دمشق، قتل المشاركين الثلاثة، كل منهم بوسيلة مختلفة: انفجار، وفريق قناصة، وهجوم بالطائرات بدون طيار.

 إلّا أنّ الرئيس جورج بوش دعا، في آخر لحظة، إلى وقف العمليّة، إذ خشَي أن تؤدّي العمليّة إلى مقتل مدنيّين، وخصوصاً الطالبات في مدرسة الفتيات المجاوِرة. عام 1985، أُلقيت اللائمة على الوكالة في عمليّة تفجير سيّارة في بيروت أدّت إلى مقتل أكثر من 80 شخصاً وإصابة 200 آخَرين، معظمهم من المدنيّين. كان المستهدَف هو آية الله السيّد محمّد حسين فضل الله، وهو مرجع شيعيّ شهير مقرَّب من مغنيّة، ولكنه نجا من دون أن يلحقه أذى. يقول باير “لم نتجاوَز أبداً محاولة اغتيال فضل الله عام 1985، فقد أساءت إلى سمعتنا”. 

زار أولمرت بوش في البيت الأبيض ليقنعه باستئناف العمليّة، ولكنّه رفض، بُعَيد الزيارة، الإفصاحَ عمّا ناقشاه، ولكن، وفقاً لمسؤول إسرائيليّ سابق شارك في عمليّة الاغتيال، اتّفق بوش وأولمرت على أنّ “مغنيّة فقط سيكون الضحيّة”. 

الاغتيال كأداة 

باعتباره أداةً من أدوات العمل السياسيّ، لَطالما تقلّبت وتغيّرت سمعة الاغتيال وصورته في الأذهان. وعلى النقيض من القتل السياسيّ الصريح -بداية من يوليوس قيصر إلى أبراهام لينكون وليون تروتسكي- فإنّ قتل شخصٍ ما باسم الدفاع الوطنيّ يعتمد على حجّة استراتيجيّة وأخلاقيّة. بالنسبة إلى المدافعين عنه، فالاغتيال أداة فتّاكة، لكنها محصورة، لنزع فتيل نزاعات كبرى. وقد زعمَ توماس مور -عالِم اللاهوت الذي عاش في القرن السادس عشر الميلاديّ ورسّمته الكنيسة الكاثوليكيّة قدّيساً عام 1935- أنّ قتلَ “أميرٍ عدوّ” يستحقّ “جائزةً كبرى” إذا أنقذ هذا حياةَ الأبرياء. أمّا الفيلسوف الهولنديّ هوغو غروتيوس -الذي أرسى قواعدَ مفاهيم السلوك الصحيح في خوض الحروب- فقد اعتقد أنّ “من المُباح قتل عدوّ في أيّ مكانٍ كان”. ولكن مع مرور الوقت بدأ القادة السياسيّون رفضَ شرعيّة القتل العشوائيّ في ما بينهم. وعام 1789، وصفَ توماس جيفرسون في خطابٍ إلى جيمس ماديسون -وكلاهما من الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة- عمليّاتِ “الاغتيال والسجن وشهادة الزور” بأنّها أفعال غير متحضّرة، “مُورسِت بفظاعة في القرن الثامن عشر”.

أمّا في القرن العشرين فقد بدأت الدول القوميّة تتبنّى العمليّات الفتّاكة. فخلال الحرب العالميّة الثانية درَّبَ الجواسيسُ البريطانيّون عملاءَ من تشيكوسلوفاكيا للعمل على قتل الجنرال النازيّ راينهارد هايدريخ؛ فيما خطّطت حكومات من دون جدوى، من بينها السوفياتيّة والبريطانيّة والأميركيّة، لقتل أدولف هتلر. أرسى الهولوكوست قناعةً لدى القادة المستقبليّين لإسرائيل أنّ اغتيالَ الأفراد وسيلةٌ حتميّة لحماية دولة صغيرة مُهدَّدة مِن قِبَل مَن يرفضون حقّها في الوجود. ولكن كما قال مؤخّراً توم سيغيف، مؤلّف كتاب “دولة بأيّ ثمن”، وهو سيرة جديدة لديفيد بن غوريون، أوّل رئيس وزراء إسرائيليّ، فإنّ “بن غوريون كان ضدّ الإرهاب الشخصيّ، وضدّ اغتيال الألمان؛ إذ اعتقدَ أنّ من الأجدى تجنيدَ الضبّاط النازيّين السابقين للعمل في الموساد. وربّما كان متعاطفاً مع أولئك الذين سعوا إلى الانتقام، حتى مع اعتقادِه أنّ الانتقامَ شيءٌ غير مفيد”. في العقود التالية أزال الإرهابُ الفاصلَ بين وقت الحرب ووقت السلم. فبعد أن قام تنظيم ’أيلول الأسوَد‘، وهو جناح مسلَّح لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، بتنفيذ مذبحة قُتِل فيها 11 فرداً من أعضاء البعثة الإسرائيليّة إلى أولمبياد ميونخ عام 1972، صدَّقَت رئيسة الوزراء غولدا مائير على مهمّة عسكريّة لتعقّب القتلة. يقول سيغيف، “كان هذا شيئاً يتأرجَح بين العقوبة والانتقام والردع”.

عام 1954، خلال مهمّة لإزاحة رئيس غواتيمالا، أصدرت “وكالة الاستخبارات المركزيّة” دليلاً بعنوان “دراسة في الاغتيالات”، وهو دليل تنفيذيّ سرّيّ، يتضمن نصائح مفصّلة، حول ما سمّاه الدليلُ نفسُه “إجراءً متطرّفاً”. فيشير الدليل إلى أنّ “حبلاً أو سلكاً أو حزاماً جلديّاً سيؤدّي الغرض إذا كان منفّذ الاغتيال قويّاً ويقِظاً. أمّا مَن يُعانون من فرط الحساسيّة الأخلاقيّة فعليهم ألّا يحاولوا تنفيذ تلك العمليّات”. بين عامَي 1960 و1965 حاوَلت الوكالة 8 مرّاتٍ على الأقلّ قتلَ الرئيس الكوبيّ فيدل كاسترو، ومنها حيلة شملت علبةً من السيجار المسموم. 

عام 1975، شرعت لجنة في الكونغرس تُسمّى “لجنة تشيرش” في التحقيق في ادعاءات بإساءة المعاملة من قِبَل وكالات الاستخبارات، وفي العام التالي كشفت اللجنة عن مخططات فاشلة كانت موجَّهة ضد كاسترو وآخرين. في أعقاب ذلك، أصدر الرئيس الأميركيّ حينذاك جيرالد فورد أمراً تنفيذياً ينص على أنه لا يجوز لموظّف تابع لحكومة الولايات المتحدة “الاشتراك في عمليّة اغتيال سياسيّ أو التخطيط لارتكابها”. وعام 1981، وسّع رونالد ريغان نطاقَ الأمر التنفيذيّ، مُسقِطاً منه كلمة “سياسيّ”، بيد أن الحظر لم يكن صارماً البتة. بعد ذلك بخمس سنوات، وانتقاماً لمقتل جنود أميركيّين في تفجير ملهى ليليّ في برلين الغربيّة، قصفت إدارة ريغان المجمّع السكنيّ الذي كان الزعيم الليبيّ معمّر القذافيّ يقيم فيه، بيد أنه أُبلغ عن الخطّة، وتمكّن من الهرب.

 استمرّ موقف الولايات المتحدة الرسميّ حيال موضوع الاغتيال من دون تغيير، وفي تموز/ يوليو عام 2001، أدانت أميركا إسرائيل لما وصفه مارتن إنديك -سفير الولايات المتحدة في تلّ أبيب- بـ”الاغتيالات المُستهدِفة” الموجَّهة ضد الفلسطينيّين، إنديك قال حينها، “إنها عمليّات قتل خارج نطاق القانون، ونحن لا ندعم ذلك”.

 عقب شهرين من ذلك، دشنت هجمات 11أيلول/ سبتمبر الإرهابيّة مرحلة جديدة في علاقة أميركا بالعمليّات الفتّاكة، ذلك أن بوش صرّح باستخدام الطائرات المُسيّرة إلى جانب غارات القوّات الخاصّة فضلاً عن الهجمات بصواريخ كروز خارج مناطق الحرب المعترف بها.

أصبحت أيّ مقاومة لـ”الهجمات المُحكمة ضد الأفراد” أمراً قديم الطراز في عصر “الحرب غير المحددة ذات المعارك التي لا تنتهي”، كما كتب لاحقاً جون يو، وهو محامٍ سابق عمل في إدارة بوش. عام 2007، وافق بوش وأولمرت على توسيع نطاق التعاون بين “وكالة الاستخبارات المركزيّة” وبين الموساد، على رغم التحفّظات التي أبداها جواسيس كلا البلدين.

أدى ظهور الأسلحة الدقيقة، فضلاً عن انتشار الهواتف المحمولة، إلى زيادة هائلة في عمليّات القتل، فوفقاً لكتاب “انهض واقتل أولاً”، تاريخ الاغتيالات الإسرائيليّة، لمؤلفه رونين بيرغمان، فإن إسرائيل ارتكبت نحو 500 عمليّة اغتيال بين عامَي 1948 و2000، ثم ارتفعت وتيرة عمليّات الاغتيال منذ ذلك الحين. ففي أيلول 2000، بعدما شنت “حماس” حملة من التفجيرات الانتحاريّة ضد المدنيّين الإسرائيليّين، شرعت الحكومة الإسرائيليّة في عمليّة لملاحقة صانعي القنابل والخبراء اللوجستيّين، فضلاً عن الزعماء والقادة مثل الشيخ أحمد ياسين، أحد مؤسّسِي حركة “حماس”. قُتِل ياسين عام 2004 بقذيفة من طائرة هليكوبتر إسرائيليّة وهو على كرسيه المتحرّك. في الأزمنة الغابرة، تطلبت غارات قوّات العمليّات الخاصّة أسابيع من الإعداد، أما في الوقت الحالي، فقد بات توجيه غارة عبر طائرة موجَّهة مسألة تتقرَّر في غضون ساعات. والحال أنّ إسرائيل أجرت ما لا يقل عن 1800 عمليّة مماثلة بين عامَي 2000 و2018، وَفقَ إحصاء بيرغمان.

 بدورها، ارتفعت وتيرة العمليّات الأميركيّة الفتّاكة ارتفاعاً هائلاً منذ عام 2001، وفقاً لما ذكره تقرير “مؤسسة أميركا الجديدة” (New America Foundation)، التي ترصد الهجمات باستخدام الطائرات المُسيّرة وغيرها من الهجمات التي تشنّها الولايات المتحدة في باكستان واليمن والصومال، فقد شنت إدارة بوش 59 عمليّة في تلك البلدان. بينما بذل باراك أوباما المزيد من الخطوات في هذا الشأن، ذلك أن إدارته كانت مسئولة عن حرب خفيّة ضد كل من تنظيميّ “القاعدة” و”داعش”، فضلاً عن عدد هائل من الميليشيات. وشنّت نحو 572 هجمة خلال سنواته الثمانية، وعام 2011، أصدر أوباما الأمر لقوّات العمليّات الخاصّة التي قتلت أسامة بن لادن، في مجمَّع سكنيّ في باكستان. كثيراً ما تكلّم أوباما عن الحاجة إلى “حرب عادلة” كما تصوّرها الفلاسفة المسيحيّون، في الوقت الذي تبنّى فيه القوّة الحربيّة للطائرات المُوجَّهة.

وازَن أوباما إمكانيّة إضافة بعض الأسماء إلى قوائم المستهدَفين، التي أعدّها كلٌّ من البنتاغون و’وكالة الاستخبارات المركزيّة‘. يقول جون برينان، مستشار أوباما لشؤون مكافحة الإرهاب ثم مدير الوكالة في عهده، إنّه “كانت هناك حاجة إلى أساس قانونيّ” لهذ الأمر. واعتمد قرار إضافة شخص ما إلى إحدى تلك القوائم على عوامل من قبيل صدقيّةِ المعلومات الاستخباراتيّة وقربِ وقوع هجوم واحتمال إمكان القبض على المستهدَف حيّاً. 

مع نهاية فترة ولاية أوباما الثانية، وبعد 15 عاماً من هجمات الطائرات الموجَّهة، لم يُعد الأميركيّون يعيرون تلك الأمور اهتماماً كبيراً. ففي استطلاعات الرأي، تشير الغالبيّة العظمى من الأميركيّين إلى دعمهم القتل الاستهدافيّ؛ وفي معظم الدول الأخرى فإنّ الغالبيّة ضدّ هذا القتل بشدّة. ووفقاً لـ”مؤسسة أميركا الجديدة”، شنّ ترامب خلال السنوات الثلاث الأخيرة 262 هجوماً من ذلك النوع على الأقل، وهي زيادة سنويّة قدرها 20 في المئة.

12 شباط… 

مساء 12 شباط 2008، وفيما يتعقّب ضبّاط الموساد إشارات هاتف مغنيّة، علموا أنّه كان متوجّهاً إلى شقّة في كفر سوسة. فأرسلوا الخبر إلى دمشق، حيث وجَّه العملاء تلك السيّارة إلى الموقع المقصود، وتوقّفت في نقطةٍ كان مؤكّداً أنّ الهدف سيمرّ بها في طريقه إلى باب البناية.

 توالَت صور الشارع على شاشة تلفزيونيّة كبيرة في مركز العمليّات. وراقب الضبّاط سيارةَ مغنيّة تتوقّف في موضعها المعتاد. دعت الخطّة إلى تفجير القنبلة في لحظة دخوله إلى منطقة القتل. إلّا أنّ مغنيّة لم يكن وحده. كان معه رجلَان آخران، تعرّف إليهما عملاء الاستخبارات: العميد محمّد سليمان، القائد العسكريّ السوريّ الذي قاد عمليّة بناء مفاعل نوويّ سوريّ (إلى أن قامت إسرائيل بتدميره في ضربات جويّة) وقاسم سليماني.

يتذكّر مسؤول إسرائيليّ سابق قائلاً “لم يكن أمامنا سوى ضغط زرّ ليختفي ثلاثتُهم. كانت فرصةً على طبقٍ من ذهب”. كان أولمرت في الطائرة عائداً إلى إسرائيل بعد زيارةٍ إلى برلين؛ ومع أنّ عملاء الموساد كان بإمكانهم التواصل معه عبر هواتف الأقمار الصناعيّة للحصول على إذنه بقتل الرجلين الآخرَين، لم يكن أمامهم كثيرٌ من الوقت. وقد علموا أيضاً أنّ “وكالةَ الاستخبارات المركزيّة” -التي كان مدير مركزها في دمشق يمكث في مركز العمليّات- مصرَّحٌ لها بقتل مغنيّة فقط. على الفور، تسلّل الرجال الثلاثة داخل المبنى، وانتظر العملاء عودتهم من جديد. يقول ذلك المسؤول الإسرائيليّ السابق “لقد كنّا نتضرّع أن يعودوا متفرّقين”.

بعد مرور ساعة تقريباً، رأى ضبّاط الموساد وهم يشاهدون الفيديو خروج سليماني وسليمان من البناء الذي فيه الشقّة، واقتادوا السيارة وذهبوا. بعد عشر دقائق ظهر مغنيّة وحده. قام قائد العمليّة بتفجير القنبلة. وعلى الشاشة ظهر مغنيّة يتفتّت وسط المكان. يتذكّر أحد المسؤولين الذين شهدوا الفيديو مباشرةً ويقول: “تقطّع إرَباً. طار جسده في الهواء؛ فقد قتل فوراً”. ولم يتضرّر أيّ شخصٍ آخر.

مع حلول صباح اليوم التالي كان مقتل مغنيّة هو الخبر الأبرز في وسائل الإعلام في الشرق الأوسط. وعند الساعة الثامنة دلَفَ داغان -مدير الموساد- إلى مكتب رئيس الوزراء بصحبة قائد العمليّة، حاملاً معه قرصاً إلكترونيّاً يَحوي تسجيلات فيديو لعمليّة الاغتيال. بعد مشاهدة التسجيلات، شغّل داغان أيضاً فيديو يظهر فيه سليماني وسليمان وهما يمشيان بعيداً. أصيب أولمرت بالإحباط، وقال لداغان إنّهم لو اتّصلوا به “لكنتُ أمرتُك بقتلهم جميعاً”.

في الأيّام التي أعقبَت اغتيالَ مغنيّة، اتّفقت الولايات المتّحدة وإسرائيل على تجنّب أيّ إعلان عن مسؤوليتهما. فالصمت بعد عمليّة القتل يمنع “التطوّرات غير الضروريّة”، كما يقول المسؤول الإسرائيليّ السابق. بعد أيامٍ قليلة من التفجير، ظهر مايك ماك كونيل- مدير الاستخبارات القوميّة- على قناة “فوكس نيوز”، وسأله المذيع كريس والاس حول مدى انخراط أميركا في عمليّة قتل مغنيّة، فأجاب بالنفي، قائلاً “ربّما كانت سوريا منخرطة في العمليّة. لا نعرف حتّى الآن، ونحاول التحقّق من هذا”.

الجنائز 

في مجال الاستخبارات، تزخر الجنائز بكمّ معلومات عن السياسات الداخليّة للعدو. يراقب المحللون لمعرفة من أرسل باقات الزهور الفاخرة، ومن الشخصيّات الواعدة والمتطلّعة يحتلّ المَقاعد الأماميّة، وماذا يقول القادة البارزون وما يتجنبون قوله حول ضرورة التصعيد. أثناء جنازة مغنيّة، وفي أحياء بيروت، خرج حسن نصر الله -زعيم جماعة “حزب الله”- بخُطبة تأبين كانت تُبَثّ عبر شاشات الفيديو، تعج بالتهديدات المعتادة، قائلاً، “أيها الصهاينة، إذا كنتم تريدون هذه النوع من الحرب المفتوحة، فليسمع العالم كله: فلتكن هذه الحرب المفتوحة”. في حين كانت أجواء الجنازة هادئة. ثار آلاف المواطنين، بينما ظل المسؤولون السوريّون بعيداً من المشهد. وخمّنوا تورطَ إسرائيل في عمليّة الاغتيال، لكن الرئيس بشار الأسد لم يرغب في مواجهة ضغوط سياسيّة مُطالِبة بالقصاص. فقد تبيَّن من اعتراض الاتصالات والتنصت على القادة السوريّين، أنهم يرجحون شائعات مقتل مغنيّة إثر خلاف داخليّ. وقال مسؤول إسرائيليّ سابق “علِم الأسد تماماً مَن قام بعمليّة الاغتيال، لكنه لا يريد الدخول في مواجهة كبرى، لذا كان عليه إيجاد مهرب”. تم تهريب العميل الذي أتاح للموساد الوصول إلى هاتف مغنيّة خارجَ لبنان، واستوطن دولة أخرى. أخبر أولمرت مسؤولي الموساد أنه في محادثة لاحقة مع بوش أعرَبا عن أسفِهما لتفويت الفرصة، إذ قال بوش “يا للخسارة! من المؤسف أنهما لم يُغتالا معاً في نفس الوقت”.

 كان مكتب محمّد سليمان يقع في الطبقة ذاتها حيث مكتب الرئيس الأسد بالقصر الرئاسيّ. وفي غضون أسابيع من مقتل مغنيّة، كان تم التخطيط لاغتيال سليمان أيضاً. في هذه الحالة، لا يتلَقَّ متخصّصو الاغتيالات الإسرائيليّون مساعدةً في التنفيذ. (على النقيض من الولايات المتحدة، لم تستبعد إسرائيل المسؤولين السوريّين من نطاق عمليّات القتل الاستهدافيّ). أُسندت عمليّة الاغتيال لوحدة القوّات الخاصّة في البحريّة الإسرائيليّة “شايطيت 13”. استهدفت الخطّة قتل سليمان في المنتجع المُطلّ على شواطئ طرطوس بساحل سوريا على البحر المتوسط حيث يقضي عطلته. أثناء فصل الصيف، ثبَّت مختصون إسرائيليّون كاميرات تصوير فيديو خفيّة لتبثّ صورة حيّة إلى موقعٍ للقيادة في تلّ أبيب. وكان سليمان يفضّل قضاء أمسيات الصيف في شرفة واسعة مطلّة على البحر.

اغتيال سليماني

علم جهاز الاستخبارات الإسرائيليّ في مساء الأوّل من آب/ أغسطس عام 2008 بأن سليمان في طريقه إلى طرطوس، وبدأ القادة في تلّ أبيب تنفيذ خطّة الاغتيال. بينما كان الظلام حالكاً، وعلى بعد عدة كيلومترات من الشاطئ، شقت غواصة إسرائيليّة سطح المياه ونزل منها ستة قناصة وقائد استقلّوا قارباً نصفَ مغمور واتجهوا إلى الشاطئ. تابع القادة في إسرائيل المشهد على الشاشات. أطلق القناصة النيران من أسلحتهم كاتمة الصوت في آن واحد. قال المسؤول الإسرائيليّ السابق “اخترقت 6 رصاصات رأسه وقلبه، ثلاث رصاصات من كل جهة، مال رأسه إلى الأمام وترنح بين الجانبين. ثم فجأة انفجرت الدماء من جانبي رأسه لتسيل على الطاولة والأرض”. لم تُصَب زوجته، وتراجع الضيوف في ذُعرٍ صارخين”.

 انسحب القناصة والقائد إلى القارب متجهين إلى الغواصة مرة أخرى وعادوا إلى أحد الموانئ الإسرائيليّة. اعترضت الاستخبارات الإسرائيليّة، لاحقاً في المساء، محادثةً بين مساعدِي سليمان المقرّبين والرئيس الأسد تدور حول مقتله. قال المسؤول الإسرائيليّ السابق، “كان رد فعل الرئيس الأسد مثيراً للانتباه؛ فأنت تتحدث عن الشخص الأقرب إليه في ما يتعلق بأكثر شؤون الدولة دقّة وحساسيّة. ثم يتلقّى مكالمة هاتفيّة في منتصف الليل تخبره باغتياله. وكان رد الأسد الفوري “لا داعيَ للذعر. ضعوه في كيس بلاستيك واذهبوا به خارج طرطوس وادفنوه في مقبرة بدون أي علامة مميِّزة”. وواصل المسؤول الإسرائيليّ السابق حديثه قائلاً “لقد أدهشني هدوء الأسد. لم تكن هناك جنازة أو تأبين أو أي شيء من هذا القبيل. لم يقروا أبداً بمقتل الرجل. كما لو أنه قد اختفى فقط”.

قد تُذكّر إسرائيل الأسد من حين إلى آخر بأنه ليس بعيداً من يديها. فقد حلقت طائرة مقاتلة من نوع “إف 16” على ارتفاع منخفض فوق قصره الصيفيّ في اللاذقيّة، وقال المسؤول الإسرائيليّ السابق إن المخابرات الإسرائيليّة أرسلت له رسائل إلكترونيّة مباشرة. في الأيام التي تلت مقتل سليماني، التزمت إسرائيل الصمت طيلة الوقت، لأن الاغتيالات تولد شعوراً بالعجز بين أولئك الذين قد يكونون الأهداف التالية على القائمة. اختار مستشارو الأسد ملجأً سرياً له. لكن الاتصالات التي تم التنصت عليها تظهره وهو يستخفّ بالمخطَّط في إذعان يشوبه الضجر قائلاً، “يمكن أن يأتي الإسرائيليّون إلى ذلك المكان، إذا أرادوا ذلك. فلماذا نُهدر المال ونبذل كل هذا الجهد؟”.

حكاية سليماني

وُلِد قاسم سليماني عام 1957 في محافظة كرمان جنوب شرقي إيران، لأب يعمل مزارعاً، كان يمضي معظم وقته بين صالة الألعاب الرياضيّة والمسجد. عمل في مصلحة المياه الإقليميّة، وكُلِّف في الثمانينات، خلال الحرب بين العراق وإيران، بجلب الماء إلى الجبهات الأماميّة. أدى واجبه بشجاعة وبدأ في التقدم. بيد أن سليماني لم يجذب نظر محلِّلي “وكالة الاستخبارات المركزيّة” الذين تعقبوا الضباط الصاعدين في الحرس الثوريّ. وعام 1998، أصبح رئيساً لوحدة “فيلق القدس” الاستطلاعيّة التابعة للحرس الثوريّ. قال داني ياتوم، رئيس الموساد الأسبق، حينها “بدأنا بجمع المعلومات حوله”.

 في السنوات التي تلت اغتيال مغنيّة، انتاب الموساد القلق بشأن البرنامج النوويّ الإيرانيّ أكثر من أنشطة سليماني شبه العسكريّة. شكل سليماني مصدرَ قلق خاصّاً للقوّات الأميركيّة، فقد عرفت ميليشياته باستخدام متفجّرات مدمّرة خاصّة، صُمّمت لاختراق الدرع الخارجيّ للعربات المدرعة. أثناء الفترة التي اشتدت فيها حدة القتال في الحرب العراقيّة، تجنب سليماني منذ 2007 وضع قدمه في العراق. يبدو أنه كان يعتقد أن الأميركيّين قد يقتلونه. في الواقع، قال ستيفن هادلي المستشار الأمني في إدارة بوش، “لم تكن لديَّ أي فكرة عن مخطَّطات متعلّقة بالنيْل من سليماني”. ووفقَ ما قاله ستيفن سليك، مسؤول العمليّات السابق في “وكالة الاستخبارات المركزيّة” في تلّ أبيب، فقد كان ضباط الموساد يذكرون اسم سليماني أحياناً في محادثاتهم مع نظرائهم الأميركيّين. وقال: “كانوا نوعاً ما يذكرونه عرضاً ليروا إن كان أحدنا سيصدر أيَّ ردِّ فعل أو اعتراض”.

فكرت إدارة أوباما عام 2011 في عقد اجتماع مع سليماني لتحذيره. وسيكون المبعوث هو نائب الأميرال روبرت هاروارد، وهو ضابط متقاعد في قوّة العمليّات الخاصّة الابتدائيّة للبحريّة الأميركيّة، نشأ في طهران ويتحدث الفارسيّة. تتلخص مهتمه نظرياً كما قال مسؤول سابق في الجيش “في إقناع سليماني بالعواقب التي سيَلقاها إذا استمرّ في العبث مع قوّاتنا” في العراق. وَفقَ الضابط، قال رئيس القيادة المركزيّة، جيمس ماتيس، مازحاً خلال اجتماع عقد في البيت الأبيض، “إذا لم يكن هاروارد مُقنعاً، سنضع مسدساً في المرحاض” مشيراً لما حدث في فيلم “العرّاب”. لم يتضح ما إذا كان كل من في الغرفة قد أدرك أنه يمزح. (رفض ماتيس التعليق). وأصبح هذا الخيار معروف في أروقة البنتاغون بأنه، “يدخل رجلان، ويغادر رجل واحد فقط”.

حتى عام 2013، ظل سليماني غير معروف نسبياً للجمهور. أخبرني مسؤول أمنيّ إسرائيليّ سابق، لو أرادت إسرائيل قتله، لكان ذلك الوقت المناسب. فقد كان سليماني يحاول دعم نظام الأسد في سوريا، والحرب الأهليّة التي بدأت في 2011، كانت ستمثل غطاءً مناسباً للموساد، فقد لقي ما يقرب من 20 من زملاء سليماني في الحرس الثوريّ حتفهم خلال المعارك هناك. لكن بحلول عام 2014، أصبح سليماني بارزاً على المستوى الدوليّ. فبسبب قيادته للمقاتلين الشيعة ضد تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق، ظهر اسمه كثيراً في التقارير الإخباريّة وعلى وسائل التواصل الاجتماعيّ. وفي ساعات المعارك التقط المقاتلون الشيعة صور شخصيّة معه. قال برينان “إن المرشد الأعلى آية الله خامنئي، أعتبره بمثابة ابناً له”. وخلص المسؤولون الإسرائيليّون إلى أن سليماني أصبح مشهوراً لدرجة تمنع من استهدافه دون المخاطرة بخوض حرب مع إيران. فقد قال المسؤول الأمنيّ الإسرائيليّ السابق، “في اللحظة التي أصبح فيها مشهوراً، تغيَّرت قواعد اللعبة”.

خلافات حادة

 على رغم علاقات التعاون التي جمعت الاستخبارات الأميركيّة والإسرائيليّة، كانت هناك خلافات حادة بشأن الإغتيالات. 

كثيراً ما أخفت أميركا وإسرائيل معلومات إستخباراتيّة عن بعضهما بعضاً. ففي الثمانينات، عرضت إسرائيل قليلاً مما تعرفه عن مغنيّة، يقول باير “على الأرجح لأنهم أرادوا قتله بأنفسهم. وآخر ما أرادوه أن تتسرب أخبار هذا الهدف إلى الواشنطن بوست”. في حالات أخرى، أخفى المسؤولون الأميركيّون معلومات عن إسرائيل بسبب اختلافهم في اختيار الأهداف. خلال حرب عام 2006 في لبنان، اعتبرت الولايات المتحدة، حسن نصر الله -زعيم جماعة “حزب الله”- قائداً سياسياً وبهذا يكون خارج دائرة الاستهداف. لكن إسرائيل اعتبرته قائداً عسكريّاً. يقول جون نيغروبونتي، مدير وكالة الأمن القوميّ آنذاك، “كنا نخشى أن تستهدف إسرائيل نصر الله”. أمر نيغروبونتي الوكالات الأميركيّة بإخفاء معلومات محددة عن موقع نصر الله، قد تستخدمها إسرائيل لقتله. مضيفاً، “تلك كانت الأوامر الرسميّة”.

تحسنت العلاقات في العام التالي، حين اكتشف الموساد أن كوريا الشماليّة ساعدت سوريا على بناء مفاعل نوويّ. بينما رفضت إدارة بوش التي كانت تخوض حربين في العراق وأفغانستان، طلب إسرائيل بتدمير المفاعل. فقال أولمرت لبوش في مكالمة هاتفيّة، إن إسرائيل ستفعل ذلك بمفردها. ولا تريد أن تعرف متى أو كيف. وعلى مدى ثلاثة أشهر، تدرّبت المقاتلات الجوّيّة الإسرائيليّة على تنفيذ المهمة، باستخدام أهداف مزيفة في وسط البحر الأبيض المتوسط. ولم يعرف سوى ثلاثة من أعضاء الطاقم الستة عشر الهدف الحقيقيّ، في حين أخبر البقيّة بالحقيقة قبل ساعات من الهجوم. وفي 5 أيلول عام 2007، دمرت إسرائيل المفاعل، لكنها لم تعلن مسؤوليتها عن الهجوم. قدرت أجهزة استخباراتها أن الأسد سيفضل التظاهر بأن شيئاً لم يحدث على المخاطر بمواجهات أكثر كلفة مع إسرائيل. وكما توقعت، صمت الأسد.

في أواخر العقد الأول من الألفيّة، قرَّر الموساد شنّ حملة اغتيالات من دون شركائه الأميركيّين. كانت أهدافه عدداً من العلماء النوويّين الإيرانيّين. وفقاً للقانون، كان على ’وكالة الاستخبارات الأميركيّة‘ التحفظ على أي معلومات قد تساعد الموساد على قتل أي شخص لا تملك الولايات المتحدة صلاحيّة قتله. هذا بالإضافة إلى سعي الرئيس أوباما إلى تطبيق استراتيجيّة مختلفة تماماً. ففي تموز 2012، بدأت إدارته محادثات سرّيّة مع إيران بخصوص برنامجها النوويّ. حين علم الموساد بشأن هذه المحادثات، أوقف قتل العلماء وقلل من حجم مهامه التجسّسيّة الأخرى التي قد تهدّد المساعي الأميركيّة أو تضر بعلاقاته مع ’وكالة الاستخبارات المركزيّة‘ الأميركيّة. ووَفقَ ما قال ضابط الاستخبارات الإسرائيليّ السابق، “كان علينا تغيير سلوكنا”.

بيد أن صراع إسرائيل مع سليماني أخذ يتصاعد. ففي عام 2013، شرعت تلّ أبيب في قصف شحنات أسلحة إيرانيّة في سوريا ربما كانت ستُنقل إلى لبنان. وفي عام 2015، وسَّعت قائمةَ أهدافها في سوريا لتشمل قواعد كان سليماني أسّسها من أجل قوّات حلفائه. أطلق الجيش الإسرائيليّ على هذا النهج اسم “المعركة بين الحروب”، في عمليّة ترمي إلى صد قوّات سليماني باستخدام الضربات الجوّيّة والخداع العسكريّ. كانت قوّات المشاة التابعة لسليماني فضلاً عن شحنات أسلحتِه أهدافاً سهلة نسبيّاً. وحينما حاول نشر قوّات على الحدود السوريّة مع إسرائيل بالقرب من هضبة الجولان، ردّت إسرائيل بقتل سبعة ضباط إيرانيّين إلى جانب جهاد مغنيّة، ذي الـ23 عاماً ونجل عماد مغنيّة. وَفقَ ما قاله مسؤول إسرائيليّ، “كانت الرسالة وراء ذلك هي “كفّوا عن العبث أنتم وجماعة حزب الله على الحدود السوريّة، سنهاجمكم”. شنّت إسرائيل عمليّات قصف على نحو متواتر في سوريا، ولم تواجِه مقاومة تُذكَر. 

احتفظت إدارة أوباما، التي كانت وقعت اتفاقاً نوويّاً مع إيران عام 2015، بمسافةٍ من معركة إسرائيل ضد “فيلق القدس”، ذلك أنها حرصت على حجب “معلومات استخباراتيّة عمليّة” كان من شأنها تسريع وتيرة الهجمات الإسرائيليّة. كانت الرسالة الأميركيّة، وفقاً لما ذكره أحد دبلوماسييها المطلعين على الأحداث، هي “كونوا حذرين، وعليكم أن تُدركوا ما الذي تستهدفونه”، أردف الدبلوماسيّ قائلاً، “الكل كان سيُلقي باللوم علينا مهما كان ما سيحدث”.

بحلول ربيع العام 2017، ومع إحكام الأسد قبضته على السلطة في سوريا وخسارة تنظيم “داعش” مواقعه في العراق، بدأ سليماني إيلاء مزيدٍ من الاهتمام لمحاربة إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة. وانقسمت إدارة ترامب حيالَ كيفيّة التعامُل مع التهديد الذي يمثّله، فسعى بعضُ صقور مُستشارِي البيت الأبيض نحو تبنّي الخيارات العسكريّة في سبيل المواجهة معه ومع حلفائه في سوريا، بيد أن ماتيس، الذي كان حينها وزيراً للدفاع، إلى جانب الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة، فضلاً عن آخرين، أبدوا تحفّظاً بشأن تحويل اتجاه الموارد بعيداً من المعركة من أجل القضاء على تنظيم “داعش”، إضافة إلى عدم رغبتهم في تورّط القوّات الأميركيّة في صراعات المنطقة بشكلٍ أعمق.

في ربيع عام 2018، خسر ماتيس حليفاً أساسيّاً له في الاجتماعات الوزرايّة، بعدما أُقيل ريكس تيلرسون، وزير الخارجيّة، ثمّ خلفه مايك بومبيو؛ فيما أصبح جون بولتون مستشارَ الأمن القوميّ. انتهجت الوجوه الجديدة خطّاً أكثر تشدّداً مع إيران. وفقاً للمسوؤل السابق رفيع المستوى، خشي بعض زملائهم في الإدارة من أنهم، “لن يعرضوا أي خيارات أخرى أمام ترامب، ذلك أن الأخير كان ما زال يتعلّم بينما يقوم بالعمل، بيد أنهم كانوا يشجّعونه على الإقدام على فعلٍ ما”.

انسحب ترامب من الاتفاق النوويّ مع إيران في أيار/ مايو عام 2018، وتوقّع بعض مَن انشقوا عن الإدارة أن القرار ربما يدفع إيران إلى نهج أكثر عدوانيّة، سواء من جهة دورها كقوّة إقليميّة أو من جهة تطوير قدراتها النوويّة. 

حافة المواجهة 

خلال الشهور الـ18 التالية، اقترب ترامب وسليماني من حافّة المواجهة. عام 2018، أعلمت وكالات استخباراتيّة إسرائيليّة الولايات المتحدة بأن سليماني يحاول أن ينشر في العراق صواريخ بعيدة المدى وما زُعِم أنه طائرات موجَّهة فتّاكة تنفجر بمجرد الاصطدام. أثار ذلك رِيبةَ بعض المسؤولين رفيعي المستوى في البنتاغون ووزارة الخارجيّة، خشية أن تكون إسرائيل تتأهّب لأخذ خطوات ربما تزيد الاضطراب في العراق؛ ذلك أنه في حال شنّت إسرائيل ضربات جوّيّة لتدمير أسلحة مشتبه بها، فإنّ حلفاء سليماني يمكنهم مهاجمة الجنود الأميركيّين للمرة الأولى منذ عام 2011. أخبر المسؤولون الأميركيّون نظراءَهم الإسرائيليّين بالآتي، “دعونا نتحقّق من الأمر قبل أن تُقدِموا على أيّ خطوة”، ووافق الإسرائيليّون على التريّث.

 كان رفضُ انتهاج سياسة أكثر عدوانيّة تجاه إيران آخذاً في التلاشي داخل البيت الأبيض، ذلك أن ماتيس قدّم استقالته في كانون الأول/ ديسمبر عام 2018. أراد ترامب بذلَ المزيد من الجهد لمساعدة إسرائيل وحلفائه السنّة في مواجهة إيران. في نيسان/ أبريل، أدرجت الإدارة قوّات الحرس الثوريّ -التي تشمل “فيلق القدس”- إلى قائمتها للمنظمات الإرهابيّة. في هذا السياق، ذكر المسؤول السابق رفيع المستوى في إدارة ترامب أنّ “بولتون وبومبيو كانا على علم بأن هذا الإدراج سيوسّع من نطاق الاستهداف”. وعلى رغم ذلك، قاوم بعضُ المسؤولين داخل البنتاغون ووزارة الخارجيّة هذه الخطوةَ انطلاقاً من أنها قد تُعتبَر سابقة خطيرة ربما تُتيح لدول أخرى اعتبارَ القوّات الأميركيّة قوّاتٍ إرهابيّة.

شرعَت الولايات المتحدة في تقديم معلومات استخباراتيّة لإسرائيل لتدعيم ضرباتها الجوّيّة ضد “فيلق القدس”، وهي الخطوة التي كان ماتيس وحلفاؤه نجحوا في تأجيلها، إلى أن ينتهي المحامون من تقييم ما سيترتّب عليها. والحال أنه إذا قدّمت الولايات المتّحدة تلك المعلومات دعماً لقرارات الاستهداف الإسرائيليّة، أو ما يُسمّى في العسكريّة “سلسلة القتل”، فإن واشنطن ستأخذ نصيبها من المسؤوليّة عن تبعات الأمر. وَفقاً للدبلوماسيّ الأميركيّ السابق، كان ماتيس قلقاً من أنّه “ربما يُطلِق الإسرائيليّون شرارةَ أمرٍ من شأنه أن يحرقنا نحن”.

استخدام القوة

تردّد ترامب من استخدام القوّة ضد إيران لشهور. ففي 13 حزيران/ يونيو الفائت، وحينما هوجمت ناقِلتا نفط بالقرب من مضيق هرمز، ألقى بومبيو باللائمة على إيران، بيد أن ترامب لم يأمر بشنّ أي ضربات. وعقب أسبوعٍ من ذلك، أسقط الحرسُ الثوريّ طائرةً أميركيّة موجَّهة من طراز “غلوبال هوك”، بصاروخ أرض جو. حينها أمر ترامب -تحت ضغط من بومبيو وبولتون- بشنّ ضربة انتقاميّة، إلّا أنّ البنتاغون طلبَ تأجيل الضربة ريثما يتمّ تقييم تهديد أمنيّ قد يواجه السفارة البريطانيّة في طهران. وعقب ساعة واحدة، استأنَفوا العدّ التنازليّ النهائيّ، بيد أن ترامب غيَّر رأيه في هذه اللحظة، وصرف النظر عن الخطّة؛ ثمّ كتب في تغريدة لاحقة، “لستُ في عجَلة من أمري”، ما أثار استياء بومبيو وبولتون.

بدأ صبر بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ، ينفد. فقد خشي الإسرائيليّون من أن تقاعس ترامب سيُجرئ سليماني. وبلغ بهم الأمر إلى حد الشك في أن ترامب يسعى إلى عقد مفاوضات مع الرئيس الإيرانيّ، حسن روحاني، تماماً مثلما يفعل مع الزعيم الكوريّ الجنوبيّ، كيم جونغ أون. رأى المسؤولون في المخابرات الإسرائيليّة أن هذه الاحتماليّة -التي أطلقوا عليها “المشاركة المفتوحة من دون نتائج”- تُعَدّ السيناريو الأخطر.

 في صيف عام 2019، أيّ بعد عام من التحذير من أن سليماني يشكل تهديداً متزايداً، تولت إسرائيل الأمر بنفسها، موسعة حملتها على إيران لتشمل العراق، وهو بالضبط السيناريو الذي حذر منه بعض الدبلوماسيّين والقادة العسكريّين الأميركيّين. ففي 19 تموز، دمرت إسرائيل مستودعاً للأسلحة شمال بغداد، حيث يعتقد أن “قوّات الحشد الشعبيّ”، الميليشيات الشيعيّة الخاضعة لسيطرة سليماني، كانت على وشك نشر منظومة أسلحة قادرة على الوصول إلى إسرائيل. في حين لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن الهجوم.

وبينما حذّر كبار القادة العسكريّين الأميركيّين من أن هذه الضربة قد تحرض الميليشيات على مهاجمة الأميركيّين، أكد مساعدو ترامب لإسرائيل أن البيت الأبيض ليس لديه اعتراضات. أعقب ذلك تفجيرات مماثلة -وإن لم يكن من الواضح دائماً من المسؤول عنها- وهدد قادة الميليشيات بالثأر من القوّات الأميركيّة التي تتمركز في قواعد بالعراق. ففي أواخر آب، قال أبو مهدي المهندس، أحد قادة الحشد الشعبيّ، “سنحاسب الأميركان، والله لن نسكت من الآن فصاعداً”.

 بنهاية الصيف، كان القادة الإسرائيلون يحذرون من سليماني تحديداً. فقد قال يسرائيل كاتس، وزير الخارجيّة الإسرائيليّ، لموقع “واي نت” الإخباريّ المعروف، إن “إسرائيل تسعى إلى ضرب رأس الأفعى الإيرانية واقتلاع أنيابها.

أبدى ترامب دلائل على أنه ما زال يأمل في التفاوض مع إيران. في أيلول، أقال ترامب بولتون، أبرز صقور البيت الأبيض. عندما هاجمت الطائرات الموجَّهة الإيرانيّة منشأتين نفطيتين في السعوديّة، مما أدى إلى تعطل 5 في المئة من إجمالي إمدادات النفط العالميّة، ألقت المخابرات الأميركيّة باللوم على إيران، وتوقع نتنياهو وغيره من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أن ترامب سيرد على ذلك الهجوم، لكنه لم يفعل.

وفي 24 أيلول، خلال الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، حاول الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون ترتيب مكالمة هاتفيّة ثلاثيّة تضم الرئيس روحاني وترامب. لكن روحاني، الذي قلل من أهمّيّة “الصور التذكاريّة” الدبلوماسيّة، رفض المشاركة. يرى نتانياهو أن ترامب “سيفقد قوّة الضغط التي تمثلها العقوبات” في حال أجرى محادثات مع إيران، وفقاً لما قاله ديبلوماسيّ إسرائيليّ.

في الخريف، شنت ميليشيات سليماني في العراق بعضاً من أكثر هجماتها الصاروخيّة جرأةً حتى تلك اللحظة. فقدوا أطلقت النيران على قواعد في العراق لقوّات أميركيّة، بدايةً على تخوم تلك القواعد، ثم اقتربوا أكثر من الأفراد الأميركيّين أنفسهم. وأعلنت إسرائيل أنها مستعدة لتصبح أشد بأساً مع “فيلق القدس”. 

وبحلول كانون الأول، زادت كثافة النيران التي يطلقها الوكلاء المدعومين من إيران، مع استهداف القواعد بصواريخ أقوى. وفي الرابع من كانون الأول التقى نتانياهو بومبيو في البرتغال، وتلقَّى تأكيدات أن الولايات المتحدة سترد على إيران إذا ما تأذى أيّ أميركيّ. وعقب بومبيو سراً على هذا اللقاء قائلاً إن “الإسرائيليّين يريدون إقحام رفاقهم الكبار في القتال لأجلهم”.

لم يتوقع أيّ أحد في إسرائيل، سواء في الدوائر الاستخباراتيّة أو العسكريّة، أن يذعن سليماني أو يلين. وبدا أن هناك أزمة حتميّة.

وفي 27 كانون الأول، بعد أسابيع من الهجمات المستمرة، اُستهدفت قاعدة في شمال العراق بوابل من الصواريخ بلغ عددها 30 صاروخاً، ما أسفر عن إصابة الكثير من الجنود ومقتل متعاقد أميركيّ مدنيّ يدعى نورس حامد (33 سنة)، وهو عراقي أميركيّ كان يعمل مترجماً فورياً إلى العربيّة مع الجيش الأميركيّ. وقال مسؤول في وزارة الدفاع إنهم “كانوا يعتزمون إلحاق المزيد من الإضرار”. وردّاً على ذلك، أرسل الجنرال كينيث ماكينزي، قائد القيادة المركزيّة بالجيش الأميركيّ، مجموعة من الخيارات إلى الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركيّة المشتركة.

 كان أحد هذه الخيارات- التي عُرضت على ترامب- يرمي إلى قتل عدد محدود من أعضاء إحدى الميليشيات العراقيّة المدعومة إيرانياً، المعروفة باسم “كتائب حزب الله”. لكن ترامب اختار عقاباً أشد. ففي 29 كانون الأول، شنت الولايات المتحدة ضربات جوّيّة على 5 مواقع تابعة للميليشيات في العراق وسوريا، أسفرت عن مقتل 25 عنصراً فيها وجرح أكثر من 50 آخرين. ظن القادة في الجيش الأميركيّ أن تلك الضربات الجوّيّة ستوقف حلقة العنف. لكنها في المقابل، أثارت موجة من مشاعر العداء للأميركيّين في العراق. 

مسيرة السفارة

وفي ليلة رأس السنة الجديدة، بعد جنازة ضحايا الضربات، توجه أنصار “كتائب حزب الله” في مسيرة إلى مجمع السفارة الأميركيّة في بغداد، وأضرَموا النيران في منطقة الاستقبال وأجبروا عناصر الأمن على التراجع إلى داخل المجمع. صحيح أن لا أحد اقتحم السفارة مطلقاً، لكن الصور الآتية من بغداد أعادت إلى الأذهان مشاهد الهجوم على السفارة الأميركيّة في بنغازي. ألقى ترامب باللوم على إيران في تغريدة، قائلاً، “سوف يدفعون الثمن غالياً! هذا ليس تحذيراً، بل تهديداً. سنة جديدة سعيدة!”. وقال بومبيو على قناة “فوكس نيوز”، إن أنصار “كتائب حزب الله” تم “توجيههم للذهاب إلى السفارة من قِبَل سليماني”.

على رغم أن سليماني كان يشغل منصباً في الحكومة الإيرانيّة، قال وزير الدفاع الأميركيّ، إنه يُمكن قتله قانونياً لأنه كان يؤدي “أدواراً مزدوجة”، فهو أيضاً يوجه الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ولأنهم جهات غير رسميّة وغير تابعة للدولة، فقد كانوا أهدافاً إرهابيّة مشروعة. كانت الولايات المتحدة تتعقب تحركات سليماني قبل فترة طويلة من التفكير في استهدافه، وعكفت على تجميع سجل حوله يطلق عليه الجيش “نمط الحياة”.

وفقاً للمخابرات الأميركيّة، كان من المقرَّر أن يستقل سليماني طائرة تجاريّة من مطار دمشق الدوليّ للرحلة التي تستغرق 90 دقيقة إلى بغداد. كان التصوّر الذي وضعه المخططون يتمثل في توجيه ضربة صاروخيّة لموكبه بعد هبوطه في العراق. بقيت الخطّة طيَّ الكتمان، حتى عن مسؤولين في وزارة الخارجيّة مكلفين بتأمين السفارة في بغداد، لكن الإدارة أبلغت نتانياهو.

في الشهور التي سبقت مقتله، تبنى سليماني صورة الرجل المطلوب أمام الجمهور. ففي تشرين الأول/ أكتوبر، أجرت محطة إيرانيّة تابعة للدولة مقابلة نادرة ومهيبة معه، حكى خلالها موقفاً حدث في عام 2006، عندما كان مع نصر الله في بيروت وشاهدا طائرات موجَّهة إسرائيليّة تحوم في السماء، استعداداً لشن ضرب جوّيّة. لكنهما اختبأوا تحت شجرة، واستطاعا الهرب، بمساعدة مغنية، عبر سلسلة من المخابئ تحت الأرض وهو ما مكنهم من “تضليل العدو وخداعه”، على حد تعبيره.

وبعد أيامٍ قليلة من تلك المقابلة، أعلنت إيران القبض على ثلاثة مشتبه بهم في التخطيط لمؤامرة مفترضة لاغتيال سليماني، كانت الخطّة هي حفر نفق إلى موقع الحسينيّة التي تحمل اسم والده الراحل، ومن ثم تفجير قنبلة خلال زيارة سليماني المرتقبة في احتفالات تاسوعاء وعاشوراء. بعد سنواتٍ من العمل سراً، تخلى سليماني كلياً تقريباً عن الجهود التي كان يبذلها لإخفاء أماكن تواجُده. وقال مسؤول وزارة الدفاع، “أعتقد أن سليماني لم يكن يتصور حتى أننا قد نقدم على مثل هذا الفعل”.

حين استقلّ سليماني الطائرة في رحلته الأخيرة، اتخذت طائرات “إم-كيو-9 ريبر” الموجَّهة الأميركيّة (MQ-9 Reaper) مواقعَها فوق العاصمة العراقيّة. في الثانية عشرة و36 دقيقة، هبطت الطائرة في مطار بغداد الدوليّ. وصلت سيارتان إلى قاعدة السلم، حيث رحَّب المهندس بسليماني. كان القادة قرَّروا ألا يطلقوا القذيفة إذا ما كانت سوف تشكل خطراً على أيٍّ من المسؤولين العراقيّين الكبار، لكن المهندس اعتُبر من الخسائر المسموح بها.

استقل الرجلان، مع الحاشية، السيارتين وانطلقا في طريق خالٍ إلى البلدة. في الثانية عشرة و47 دقيقة بعد منتصف الليل، بينما كان الموكب يسرع مجتازاً صفوفاً من النخيل، ضربت أولى القذائف الموكب، فأضرمت النار في السيارتين وقتل 10 من الركاب.

في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، تبادل بعض ضباط الأمن، الذين علموا عن الهجوم حين غرَّد صحافيّ عبر “تويتر” عن انفجار غامض، رسائل بريد إلكترونيّ عاجلة تساءلوا فيها ما إذا كان هناك خطر على السفارة، وطلبوا من موظّفي السفارة في بغداد أن يأخذوا الحذر.

 قبل أن يؤكد البنتاغون الخبر بقليل، نشر ترامب صورة للعلم الأميركيّ على “تويتر”. لاحقاً، في خطاب للمتبرعين في مارالاغو، وصف ترامب العمليّة ذاكراً أن ضابط جيش أبلغه أنه “لم يبق لهم على قيد الحياة سوى دقيقة واحدة يا سيّدي. 30 ثانية، 10،9، 8… ثم حدث انفجار. قال الضابط، “لقد قُتلوا يا سيّدي”.

نمط جديد؟

اختلفت عمليّة سليماني اختلافاً كبيراً عن نمط الأميركيّ في عمليّات الاغتيال منذ عام 2002. لم يكن سليماني زعيم جماعة بلا هُويّة، بل كان ممثلاً رفيع المستوى لدولة من أكبر الدول في الشرق الأوسط من حيث السكان، وهي، على الرغم من كل ارتباطها بالإرهاب، فإنها ليست في حرب تقليديّة مع الولايات المتحدة. بتبنّي نوع الهجوم الذي يستخدم عادة مع الأعداء في حالات الحرب، تصرفت الإدارة باعتقاد أن الولايات المتحدة كانت تخادع نفسها بشأن طبيعة العلاقة مع طهران، وهو اعتقاد يلقى رواجاً بين أبرز مستشاري الرئيس. يقول مسؤول في إدارة ترامب، “نحن في صراع مع إيران منذ 1979. كثيرون لا يدركون ذلك”.

بعد الهجوم مباشرة، أطلقت إيران أكثر من 10 قذائف على منشآت أميركيّة في العراق. أعلن البنتاغون أنه، على رغم أنها لم تحدث خسائر في الأرواح، أصيب أكثر من 30 جندياً أميركياً بإصابات في الدماغ. (تفيد بعض التقارير بأن القذائف كادت تحدث خسائر بشريّة أكثر بكثير). أعلنت طهران أيضاً أنها لن تلتزم القيود المفروضة على برنامج تخصيب اليورانيوم، على رغم أنها سوف تستمر في السماح بالتفتيش من قبل الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة. كانت الرسالة الكلّيّة هي أن طهران لا تسعى إلى المزيد من التصعيد.

 بعد 12 عاماً من اجتماعهم في ليلة شتاء في دمشق، قتل المشاركين الثلاثة، كل منهم بوسيلة مختلفة: انفجار، وفريق قناصة، وهجوم بالطائرات بدون طيار. في الحالتين الأوليتين، تعمدت الدول المسؤولة أن تتجنب الإعلان عن مسؤوليتها. في مقتل سليماني، حاد ترامب عن ذلك النهج. في 8 كانون الثاني، حضر ترامب مؤتمراً صحافياً، محاطاً بمساعديه وجنرالات بالزيّ العسكريّ. كانت إيران منسحبة، وفقاً لقوله، ثم أعلن عن جولة جديدة من العقوبات الاقتصاديّة التي سوف تستمر “حتى تغير إيران سلوكها”. انتقل التركيز في واشنطن خلال أسبوع إلى أزمات أخرى، أهمها جلسة سحب الثقة في مجلس الشيوخ.

لكن الكثير من مسؤولي الأمن القوميّ تماسكوا. قال ديبلوماسيّ أميركيّ إن تبريرات إدارة ترامب لمقتل سليماني ذكّرته بتفاؤل مستشارِي بوش حول عواقب غزو العراق عام 2003. يقول: “نحن في الجولة الأولى. حين سمعت بمقتل سليماني، كان ردّ فعلي الأول، “حسناً، لن أذرف دمعة”. لكن ردَّ فعلي الثاني كان “هل كان هذا قراراً صائباً؟” بالإضافة إلى خطر الهجوم المضاد ضد مواطنينا وشركائنا في المنطقة، يوجد الآن خطر الاضطرار إلى الخروج من العراق، ما يعني أيضاً أننا سنضطر إلى الخروج من سوريا، وهذا ما يريده ترامب تحديداً.

في جلسات استماع مغلقة للكونغرس، سأل المشرعون إسبر وميللي ما إذا كانت الإدارة الأميركيّة ستستخدم عمليّة سليماني كسابقة لمهاجمة قادة إيرانيّين آخَرين، مثل آية الله. لكنهم نفوا الفكرة. إلا أن إيران ووكلاءها في الشرق الأوسط ربما يرون مقتل سليماني سابقة لسلوكهم هم. 

يقول توماس بوسرت، الذي شغل منصب مستشار الرئيس ترامب للأمن القوميّ ومكافحة الإرهاب بين عامَي 2017 إلى 2018 “كانت إدارة بوش وإدارة أوباما قلقتين من أن تصعد إسرائيل ضد إيران، أو أن تزج بالولايات المتحدة في الصراع. حينها، لم تكن إسرائيل تعلم ما إذا كانت الولايات المتحدة ستشارك في هجوم على إيران لمنعها من تطوير الأسلحة النوويّة. أما الآن، فلعلّ الإسرائيليّين قلقون من أن تصعِّد الولايات المتحدة”.

 كان نتانياهو مبتهجاً سراً على جميع الأصعدة. يقول ديبلوماسيّ إسرائيليّ “لقد غير مقتل سليماني كل شيء. يرى معسكر نتانياهو أنه يؤخر احتمال انفراجة دبلوماسيّة بين ترامب وروحاني، ويشير إلى الإصرار من جديد على الاستمرار في الضغط على إيران”.

قامت إيران بترقية نائب سليماني، إسماعيل غاني، ليحل محله. يصعب على المحللين الأجانب أن يحددوا كيف سيكون العدو الجديد “غاني”. يقول مسؤول إسرائيليّ “الشخص الذي شغل منصب النائب لعشرين عاماً ليس بنجم. فهو يقوم بدور ثانويّ”. على الأقل، سوف يحتاج غاني إلى بعض الوقت لبناء مكانة ومصداقيّة.

نظمت إيران جنازة لسليماني في 6 كانون الثاني، حضرها ملايين الإيرانيّين، الذين اجتاحوا شوارع طهران في أكبر موكب جنائزي منذ وفاة آية الله روح الله الخميني عام 1989. ظهر المرشد الأعلى في ظهور نادر وبكى فوق النعش. في مدن عدة، منها بغداد، حيث أقيم حفل تأبين حضره رئيس الوزراء العراقيّ، هتف المتظاهرون وتوعدوا بالثأر. ومات 56 شخصاً بسبب التدافع في كرمان، مسقط رأس سليماني. 

شعر ضابط المخابرات الإسرائيليّة الأسبق بعدم الارتياح وهو يشاهد الحدث من تلّ أبيب. يقول: “شيء ما يضايقني. لو كانوا يريدون التهدئة، لَكانوا دفنوه بحضور 300 أو 500 شخص، حتى في وجود القيادة، ولَكانوا حافظوا على الهدوء. لقد كان هذا مختلفاً تمام الاختلاف عن جنازة مغنيّة بعد القصف في دمشق، أو التخلص من رفات سليمان بلا مراسم. لقد قرَّرت القيادة في إيران إرسال رسالة مختلفة تماماً. يضيف قائلاً: “لقد ملأ ملايين الأشخاص شوارع إيران. لمدة 3 أيام. لن يستطيع الإيرانيّون أن يغفروا ذلك أبداً”.

هذا المقال مترجم عن newyorker.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.