fbpx

تهمة “ازدراء الأديان” ومحاصرة العقل: قصص ناجين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو أن السلطة تستغل يوماً بعد يوم تخلف القوانين اللبنانية، لتقويض الحريات العامة والسيطرة على المجال الفني لتضييق مساحات النقد والإبداع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سعيد عبد الله مهندس شاب عاطل عن العمل

بشارة الأسمر رئيس الاتحاد العمالي العام

 مصطفى سبيتي شاعر

 محمد وهبة ناشط سياسي

هذه الأسماء جمعها خلال السنوات القليلة الأخيرة وفي فترات مختلفة سجنٌ واحد، قضية واحدة، خطيئة واحدة، هي تهمة “ازدراء الأديان وإثارة النعرات الطائفية”.

في لبنان، يعتبر الانتماء الطائفي في صلب الحياة السياسية والاجتماعية ما يجعل لهذه التهمة حساسيتها وأبعادها وسطوتها، بحيث يتم اشهارها في وجه أي منتقد أو ساخر أو أي شخص يخرج عن السياق العام الخاضع لتلك المنظومة.

وازدراء الأديان هو من أبرز القضايا التي تدفع بالسلطة وبأجهزتها ومؤسساتها القضائية للتحرك بسرعة قياسية، مقارنة بسرعة التحرك إزاء قضايا أخرى، والتي ربما تستغرق سنوات، كي يتحرك القضاء بشأنها. غالباً ما تكون ذريعة التحرك السريع في قضايا ازدراء الأديان لمحاكمة أغنية أو دعابة مثلاً هي “حماية السلم الأهلي”.

الرئيس … و”العذراء مريم”

سجن سعيد عبدالله 44 يوماً بسبب نشره صورةً تسخر  من المسيح ولشتمه رئيس الجمهورية ميشال عون. أما الشاعر مصطفى سبيتي فكان سبق أن احتجز 15 يوماً في السجن لكتابته على “فايسبوك” عبارة اعتبرت “مهينة” للعذراء مريم. يوسف الخوري أيضاً اعتقل ليوم واحد بتهمة إثارة النعرات الطائفية لكتابته “حجمك شخطة قلم رصاص بيد بطرك ماروني” متوجهاً بكلامه للطائفة الشيعية. 

يرى أستاذ الفكر السياسي في الجامعة اليسوعية والكاتب وسام سعادة لـ”درج”، أنه “من الطبيعي أن يستاء المتدينون من أي تهجمات على معتقداتهم وممارساتهم، من أشخاص غير مؤمنين أو من منتمين إلى ديانات أخرى، أو حتى أشخاص من الديانة ذاتها خرجوا في لحظة ما عن معهودهم، وعبّروا عن رأي مختلف على السوشيل ميديا. المشكلة ليست في هذا الاستياء بل في أسلوب ترجمته، وفي طريقة تبريره. إذا كان المبرر هو الدفاع عن الحرية الدينية، فالحرية الدينية ينبغي أن تكون جزءاً من حرية المعتقد عموماً التي يفترض أن تتضمن حرية الاعتقاد وحرية عدم الاعتقاد الديني على السواء”.

في 16 نيسان/ أبريل 2020، اعتقلت مخابرات الجيش الناشط ميشال شمعون، على خلفية فيديو يطالب فيه البطريرك الراعي بالتبرّع بمال الكنيسة إلى الفقراء، وسجن شمعون ليوم واحد.

في 2 كانون الثاني/ يناير 2017، أوقف مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية المواطن رمزي القاضي لاتهامه بإثارة النعرات الطائفية في قضية مقتل لبنانيين في ملهى رينا في اسطنبول، اعتبرهم القاضي في منشور على “فايسبوك” كفاراً ويستحقون الموت.

في لبنان، يعتبر الانتماء الطائفي في صلب الحياة السياسية والاجتماعية ما يجعل لتهمة “ازدراء الأديان” حساسيتها وأبعادها وسطوتها.

المثير في القضية أن أحداً لم يدّعِ على رمزي، وقالت الرئيسة السابقة للمكتب آنذاك سوزان الحاج إن المكتب تحرك من تلقاء نفسه، لأن واجبه التحرك في حالات المس بالأمن القومي متخطيةً بذلك دور القضاء وحتى القوانين البالية في موضوع النقد الديني.

في آب/ أغسطس 2019، استدعي أعضاء فرقة “مشروع ليلى” للتحقيق عند أمن الدولة، وبعدما خرجوا من التحقيق أمرت المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون بإخلاء سبيلهم، شرط أن يلتقوا مطران أبرشية جبيل للموارنة، ما بدا حكماً كنسياً ودعوة إلى التوبة، أكثر من كونه حكماً قانونياً وقضاء مدنياً.

يقول وسام سعادة: “شخصياً، أثمِّن عالياً التراثات الدينية والروحية، وتزعجني الابتذالات بصددها، مثلما يزعجني الابتذال عموماً، وبخاصة في حالة الشاعر مصطفى سبيتي، لكن هل هذا يعني أنه تنبغي محاربة الابتذال أو المنشورات المبتذلة على السوشيل ميديا؟ ما يمكن فعله هو الرد على منشور ما بمنشور آخر،  أو حظر الشخص من لائحة الأصدقاء. أما المنع، فإما أن يشمل الجميع أو لا يشمل أحداً، ففرض ممارسات قمعية على منشورات مبتذلة، سيمتدّ لا محالة إلى حق الناس في البوح والتعبير”.

وعلى رغم أن معظم القضايا المذكورة في هذا التحقيق تعود إلى عام 2018 و2019، أي في عهد الرئيس ميشال عون، إلا أن الرئيس بنفسه كان اتُهم بإثارة النعرات الطائفية من قبل مدعي عام التمييز السابق عدنان عضوم عندما كان في منفاه الباريسي، بعد خطاب له في 17  أيلول/ سبتمبر 2003، انتقد فيه النظام السوري بشدة، ما يفتح على تاريخ طويل من استعمال هذه التهمة لأهداف سياسية ولمحاولة تسكيت الخصوم.

بين ازدراء الأديان وإثارة النعرات الطائفية

وفي حادثة تعود إلى عام 2003، نشرت المفكرة القانونية تقريراً تشير فيه إلى قرار قضائي يقضي بإبطال التعقبات بحق شخصين، واحد منهما لاجئ فلسطيني وآخر قس لبناني إنجيلي، كانا اتهما بإثارة النعرات الطائفية، بعدما سجلا فيديو يظهر فيه شخص ينشر شهادته بتغيير دينه، وأرادا إرسال الفيديو إلى مجموعة دينية في السويد، إلا أن شركة البريد أحالت الفيديو إلى الأمن العام، ما أدى إلى استدعائهما إلى التحقيق وتم توقيفهما في المحكمة العسكرية بتهمة إثارة النعرات الطائفية.

لكن كيف تتفاوت التفسيرات القانونية بين تهمتي ازدراء الأديان واثارة ا لنعرات الطائفية؟

توضح المحامية غيدة فرنجية لـ”درج” أن “العقوبة هي نفسها في “الجرمين”، وتصل إلى 3 سنوات سجن، أما تحقير الشعائر الدينية فيعتبر جرماً ضد الدين، فيما إثارة النعرات الطائفية والمذهبية فهو جرم ضد أمن الدولة، وبالتالي ليس محصوراً بالدين فقط، بل يأخذ طابعاً طائفياً واجتماعياً وسياسياً، ولذلك تعتبر هذه الجريمة بالنسبة إلى القضاة أخطر من تحقير الشعائر الدينية ويتشددون فيها أكثر، انطلاقاً طبعاً من حماية النظام الطائفي من قبل الجسم القضائي”.

جرم ازدراء الأديان محل جدل ونقاش قديم، وتتفاوت بشأنه التشريعات والمقاربات خصوصاً في دول مثل فرنسا، اذ  يمنع القانون الفرنسي التحريض على الكراهية والعنصرية الدينية لكن يسمح بازدراء الأديان بحيث ألغى قانون عام 1881 يلغي نهائياً جريمة التجديف او ازدراء الأديان. 

“في ما مضى كانت مؤسسات دينية تتعقّب كتاباً أو أغنية أو فيلماً. أكاد أقول إنني أحن إلى هذا الزمن الجميل”.

يقول سعادة “تنقسم بلدان العالم من ناحية شرائعها وقوانينها بين من لا يزال يجرّم ازدراء الدين أو يغرّم مرتكبيه، وبين من لم يعد يفعل ذلك سواء من الناحية المبدئية أو من الناحية العملية. النمسا وإيطاليا ما زالتا تغرمان المرء، في حال ثبات تهمة ازدراء الدين، وفي ألمانيا يمكن أن تصل القضية إلى عقوبة الحبس.

في الوقت نفسه، التجديف وازدراء الدين يأتيان على درجات أو مستويات، ولا أعتقد أنه يمكن حصرهما بتعريف واحد. تسويغ العقوبة أيضاً يختلف. بين من يسوغها لأن الازدراء ينال من الدين الصحيح، أو من يسوغها لأن هذا ينال من مشاعر المتدينين، أو يتم تسويغها أحياناً باعتبار ازدراء الأديان إساءة للتراث الثقافي الروحي”.

يتابع سعادة: “في ما مضى كانت مؤسسات دينية تتعقّب كتاباً أو أغنية أو فيلماً. أكاد أقول إنني أحن إلى هذا الزمن الجميل. كانت تفوح فيه رائحة محكمة تفتيش، بلا شك، لكن كانت تخاض معركة حول فكرة أو عمل فني على أقل تقدير. أما اليوم فنرى أن النشاط الرقابي منهمك في معاقبة مواطنين لا يتعرضون عادة لأي مشكلة إذا قالوا الفكرة ذاتها شفاهة. إذاً هل المشكلة في أنهم يدونون ذلك على السوشيل ميديا؟ إن كانت هذه هي المشكلة، سأتفهم أن يطالب رجال الدين بمنع السوشيل ميديا، لكن هل يعقل أن يفرضوا أنفسهم رقباء عليها؟”.

جولة على المتّهمين

خلال بحث عن الاشخاص الذين لاحقتهم تهمة ازدراء الأديان وإثارة النعرات الطائفية، رصد “درج” 19 حالة بين عامي 2011 و2020، مستعيناً بمصادر مفتوحة تابعة لالمفكرة القانونية وmuhal.org وSkeyesmedia.

بحسب  منظمة “هيومن رايتس ووتش”،  فإن 22 شخصاً بين عامي 2015 و2019، اتهموا بازدراء الأديان وإثارة النعرات الطائفية عبر منشورات على السوشيل ميديا، إلى أن لا أرقام وتقارير عنهم جميعاً وعن أسمائهم، وإذا طُلبت هذه المعلومات من وزارة العدل عبر قانون حق الوصول إلى المعلومات، فستكون النتيجة بيروقراطية طويلة من الاتصالات والمراسلات من دون التوصل بالضرورة إلى إجابة واضحة.

لا يقتصر موضوع ازدراء الأديان وإثارة النعرات الطائفية على توقيف النشطاء والصحافيين، أو التحقيق مع مواطنين، بل يتعداه ليتدخل بالأعمال الفنية والمسرحية وحتى الأفلام الأجنبية التي تعرض في دور السينما.

عام 2011 ألغت فرقة LMFAO، حفلتها بسبب تلقيها تهديدات من مجموعات مسيحية متطرفة، أما عام 2018 فألغت جمعية Proud Lebanon، مؤتمراً لها في لبنان لدعم المثليين وذلك بسبب تلقيها تهديدات من هيئة العلماء المسلمين.

حتى الأفلام الأجنبية لم تسلم من مقص الرقيب اللبناني، إذ منع عرض بعضها بحجة الإساءة إلى الدين، منها the Num وAnnabelle2: Creation، لكن الرقابة كانت أقسى على الإنتاجات المحلية لاعتبارها “تثير النعرات الطائفية”.

عام 2015 منع المجلس الكاثوليكي للإعلام مسرحية “لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستريو 71” التي أعادت لينا خوري إخراجها. وكانت حجة المنع طريقة تناول المسرحية الطقوس الدينية. وتكرّر هذا الأمر مع فيلم “تنورة ماكسي” للمخرج جو بو عيد، الذي سحب من الصالات تحت ضغط رجال دين مسيحيين.

عام 2019، ألغت مهرجانات جبيل حفلة لـ”مشروع ليلى”، بعد ضغوط مارستها أحزاب مسيحية كبرى ورجال دين على الفرقة.

تهمة الاستخفاف بالعقول

“هذا استخفاف بعقول الناس. هذه التهمة هي سلاح تستخدمه مكونات السلطة لحماية مكونات النظام الطائفي المعنية بحماية بعضها بعضاً”.  هكذا وصفت ا لمخرجة رين متري لـ”درج” ما تعرضت له من منع لفيلمها (“لي قبور في هذه الأرض”) الذي يوثق أحداث الحرب الأهلية.  الفيلم الذي يتناول موضوع الحرب الأهلية عبر شهادات أشخاص من مختلف الطوائف عاشوا تلك المرحلة، أحدث منعه ضجة عام 2015، “لجنة الرقابة على الأعمال الفنية أوصت بمنع الفيلم، وهي مؤلفة من مندوبين من وزارات عدة ومندوب من الأمن العام. في بداية شهر أيار/ مايو 2015، تقدمت إلى الأمن العام بطلب للحصول على إذن عرض الفيلم في صالات السينما في لبنان. بعد أيام تم إعلامي شفهياً عبر اتصال هاتفي من الأمن العام، بأن الأخير سيرسل الفيلم إلى لجنة الرقابة. وبعد أيام أبلغني الأمن العام هاتفياً بأنه صدر قرار بمنع عرض الفيلم، من دون إعلامي بأسباب ذلك. عندها طلبت الحصول على قرار المنع خطياً وقد استحصلت بتاريخ 26 / 6 / 2015 على إفادة تبين صدور قرار عن وزير الداخلية والبلديات بمنعه”.

فعلياً، لجنة الرقابة لا تملك صلاحيات بالمنع، فهي ترفع توصية إلى وزير الداخلية المخول بإصدار قرار المنع.

 أندريه قصاص، رئيس لجنة الرقابة على الأفلام السينمائية، صرّح لـ”مهارات نيوز” أن سبب منع فيلم متري هو لاعتباره “يحرّك العصبيات الطائفية والمذهبية”.

“أنا أرفض أي نوع من رقابة على الأعمال الفنية من أي جهة كانت، مدنية، سياسية أو دينية. بالنسبة إلى فيلمي لم يكن هناك تدخل من جهات دينية. وأعتقد أنه بوجود لجنة رقابة تقوم بوظيفة حارس السلطات الدينية والمدنية والسياسية، وحاميها، لا حاجة لتدخل السلطات بذاتها. تتدخل هذه السلطات مباشرة عندما لا يكون العمل الفني قد مر عبر لجنة الرقابة أو مثلاً عندما يكون قد مر عبر الأمن العام ولم يرَ ضرورة لمنعه أو اقتطاع أجزاء منه”، تضيف متري.

وتردف: “بالطبع أنا مستمرة بصناعة أفلام تعبر عن قلقي، عن الذاكرة والتاريخ وحياتنا في هذه البلد. أعتقد أن أي فيلم أو عمل فني لا يستطيع أن يثير النعرات الطائفية أو يؤدي إلى اقتتال”.

ربما الغريب في الأمر أن هذه الظاهرة تزيد مع مرور السنين بعكس التطور المفترض للمجتمعات وسيرورة تقبلها الاختلاف أكثر، ويبدو أن السلطة تستغل يوماً بعد يوم تخلف القوانين اللبنانية، لتقويض الحريات العامة والسيطرة على المجال الفني لتضييق مساحات النقد والإبداع.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.