fbpx

“جزيرة غمام”… حكاية المصريين أم صوت الدولة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل لا تزال حكايات الخير والشر تلقى استحسان الجمهور أم أنه سئم منها، ومن المحاضرات الأخلاقية التي تدعوه إلى تهذيب نفسه وإعادة التفكير في تقويم سلوكه وأفكاره؟ وكأن الجمهور هو دائماً الطرف المذنب والملام والذي يحتاج إلى الوعظ والتأديب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في أواخر الصيف الماضي، فاجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي السيناريست عبد الرحيم كمال بمداخلة هاتفية في أحد البرامج التلفزيونية ليعلن له على الهواء دعمه مشروع كمال الفني. لم يكن هذا الدعم مدحاً في الجماليات الفنية التي لاقت إعجاب الرئيس، بل ما لفت نظره أن كمال يتبنى قضية “تجديد الخطاب الروحي” في معالجاته الدرامية، باعتباره هماً يشغله ويسعى إلى تعزيزه وبثه في كتاباته، وهذا هو المدخل الذي دفع الرئيس إلى إعلان دعمه مثل هذه الأعمال الفنية، كما كلفه علانية بالكتابة وبدء العمل على هذا النهج في تشديد منه على دور الدولة في الدعم والإنتاج. 

قال السيسي، “إحنا قضايانا كتير، والقضايا الكتير تناولها مهم لأن إحنا قضيتنا قضية وعي، حتى في الوعي الديني، لكن لو فيه كتّاب زيك تصدوا. دعمي لهذا الموضوع. الدعم ده أنا مجهز له كويس. أنا عايز أقولك أنا داعم لك في عمل على مستوى الدولة”. وكان حصاد هذا الدعم ما نشاهده الآن على شاشات التلفزيون في موسم رمضان، مسلسل “جزيرة غمام”.

على جزيرة متخيلة تبدأ حكايتنا، حيث البلد مصر، والزمن بعيد في بدايات القرن الفائت، والحكاية تشبه حكايات الجدات والرواة الشعبيين التي تنتهي بعبرة. يبدأ المسلسل بزيارة الرئيس أنور السادات جزيرة غمام واتباعاً لعرفها حكى له شيخ البلد حكاية الجزيرة ولماذا سميت “غمام”، زيارة السادات ليست الأساس بل حكاية الجزيرة هي الأصل؛ والحكاية تبدأ من الشيخ مدين وأبنائه الثلاثة، الذين ليسوا أبناء شرعيين، بل هم تلامذته وأتباعه، يمنحهم بركته على فراش الموت ويورثهم ما ملك من الدنيا، الأول محارب ورث عنه المشيخة والمسجد، والثاني يسري ورث بيته، والثالث عرفات ورث رضا شيخه وسبحته. بموت الشيخ مدين يتفرق أبناؤه ويسير كل منهم في دنياه الجديدة وفي خيوط درامية تتشابك مع عمدة الجزيرة وأهلها وحكاياتهم من جهة، وقبيلة طرح البحر أو الغجر “خلدون والعايقة” الوافدين حديثاً على الجزيرة ويسكنوا أطرافها.

يتركنا عبد الرحيم كمال أمام شخصيات درامية أحادية، فالخير فيهم بيّن، والشر أيضاً، لا مساحات رمادية، وهو ما يبعدنا من الواقع ويعيدنا إلى الحكايات الشعبية أو الكلاسيكيات التي غزلها القدماء لتحكي لنا الحكمة مجسدة في قالب “حدوتة”. تتعاقب الأحداث ويبقى سؤال، أين تجديد الخطاب الروحي الذي تدعمه الدولة إذاً؟ وهل يرويي هذا المسلسل حكاية شعبية فقط أم أنه يضم في طياته ما هو أكثر من مجرد حكاية؟

مَن ذاقَ عرف

تتشعب العقد الدرامية منذ الحلقات الأولى وحتى منتصف المسلسل، بين جريمة قتل شابة لا نعرف قاتلها وبين الأحداث التي تتكشف لكل شخصية على حدة، وتحديداً الأبناء الثلاثة الذين تتقطع بهم السبل ويمضي كل في شأنه، وحده عرفات الذي يتتبع السرد حكايته بشيء من التأمل والتأني، فنجد أنفسنا أمام بطل تراجيدي على الطريقة الأرسطية الكلاسيكية، يحمل سمات الخير، نتعاطف معه ومع فقره المدقع  وانكسار قلبه بعد موت شيخه مدين. 

يخلو المسلسل من أسماء الممثلين في تترات البداية والنهاية، وهو كما يبدو قرار من جهة الإنتاج لتفادي نزاع من سيكتب اسمه أولاً من الممثلين، وهو ما يجعل المشاهد في حيرة من هو البطل الرئيسي هنا ومن هم الأبطال الثانويون؟ لكن الجواب على السؤال يأتي من داخل الدراما التي تدفعنا دفعاً للتعاطف مع عرفات وحده منذ البداية، بداية من حالة التشرد التي يعيشها بعد موت شيخه مدين، مروراً بحالة التيه والفقر والمعاملة السيئة من الجميع له، فأصبح يتيماً بلا بيت يحميه ولا أسرة تأويه، الاستمرار في حالة التعاطف تؤكد أن الدراما تدفعنا دفعاً للتعاطف مع عرفات وحده لأنه هو البطل، وخلف عرفات يكمن اللغز الكبير، وتنكشف العقدة الكبرى في النصف الثاني من أحداث المسلسل عندما يقرر قائد الغجر “خلدون” أن ينتقم من عرفات بالتحديد، ويكشف السر، أنه جاء الجزيرة خصيصاً انتقاماً منه.

لماذا عرفات؟

يحمل عرفات صفات البطل التراجيدي الذي يدفع المشاهد إلى الشعور بالتطهر، لأنه يثير مشاعر الشفقة تجاهه، ويتقاطع كلامه الحسن وفلسفته الزاهدة مع أوتار القلب. في قراءة أكثر إيغالاً لشخصية عرفات نجد أننا أمام شخصية ترمز إلى المحبة الخالصة، الزهد، يحمل سمات العبد المتصوف الفقير إلى الله، الراضي بحاله، يعيش في الدنيا هائماً على وجهه لا طمع يلوث قلبه ولا حقد، بالحب يعيش وعلى قدر هذا الحب يرزقه الله من حيث لا يدري. 

ولأننا لن نقرأ الخير قراءة صحيحة إلا إذا جلس الشر إلى جواره، فإن رفاقه أبناء الشيخ مدين “محارب ويسري” هما على النقيض منه، وبرغم أن الثلاثة يعرفون الله وأصول الدين، إلا أن المشاهد يجد هواه ينجرف مع عرفات، ويكره سلطوية وقسوة محارب ومراوغات وألاعيب يسري، ويتحول عرفات إلى البطل الذي يجد فيه المشاهد صوته والصورة التي يطمح لها، فينصت إلى ما يقوله عرفات متأملاً وتصبح أمامه فرصة لإعادة التفكير في الحياة كما يراها عرفات.

لا تختلف شخصية عرفات عن الكثير من الشخصيات الدرامية التي كتبها عبدالرحيم كمال في أعمال الدرامية السابقة، بل إنها تشبهه نفسه في أفكاره الدينية والحياتية، هذا البطل صوفي الهوى برغم كل شيء يبحث عن هويته ومبتغاه من الدنيا، هذه الأسئلة جزء من صراع النفس البشرية، ومن صراع عبدالرحيم كمال نفسه الذي يقول، “العنوان الأكبر اللي جوايا المحبة… أنا كل الكتابات اللي بكتبها هي أسئلة تخصني… أنا في رحلة بحثي عن نفسي عن طريق الحب”.

اختار عبد الرحيم كمال أن يضعنا في دائرة الأسئلة التي تشغل روحه، والتي تؤول بنا إجاباتها إلى الفلسفة التي يكتب من أجلها “الروح” فإذا تطهرت الأرواح أصبحت أكثر صفاءً وبصيرة. في مشهد المناظرة الشهير في المسلسل بين عرفات ورفيقه الشيخ محارب، نجد أننا أمام كفتي ميزان، كل طرف يمثل رمزية معينة للدين، فإذا كان محارب هو صورة الدين المتطرف المتشدد فإن عرفات هو صورة الدين القائم على المحبة. يقول عرفات “شغلتك يا شيخ محارب إنك تجدد قلوب الناس، كيف تجدد قلوبهم وانت قلبك قديم؟ الدين الناس عارفاه، أصغر عيل هنا عارف، لكن كيف الواحد بخطره يقوم يصلي؟ بخطره ميكدبش، ميسرقش، ميطمعش في اللي مش ليه حتى لو مرمي قدامه”.

يمكننا استنباط طبيعة الخطاب الروحي من حوار عرفات السابق، ومن معظم الحوارات التي ترد على لسانه، هذا الخطاب لا يتقاطع مع قضايا شرعية أو حياتية، بل إنه يخاطب النفس، يدعوها للاستقامة والتقويم، في مشهد يتوازى مع الخطاب الذي تريد أن تدعمه الدولة في خطابها للجمهور من خلال الدراما، وتعيد تشكيل رؤيتهم وعلاقتهم بالدين، إنه الصراع الذي لا يزال قائماً وتسعى الدولة لإعادة تقديمه للدين، فالدين لا يحكم ولا يدفع الناس للخوف والترهيب لكن الدين أن تقيّم علاقتك بنفسك وبالله، وهو ما يضع اللوم دائماً على عاتق الجمهور وفي قصور علاقته بدينه ووطنه وحاكمه أيضاً، ويعيدهم للصورة التي يريد أن يشير لها بالبنان، الدين ليس تشدداً ولا خوف، بل محبة خالصة فقط بين العبد وربه. 

لا يقتصر الشر في “جزيرة غمام” على الشيوخ الذين يمثلون الدين فحسب، بل يرمز له أيضاً في قبيلة الغجر “طرح البحر” وزعيمهم “خلدون” الذي اعترف أنه جاء إلى الجزيرة انتقاماً من عرفات. لا نفهم  سر هذا العداء إلى أن يتكشف لنا أن هذه القبيلة تمثل كل ما يطرأ على النفس البشرية ويفسدها، ممثلاً بـ”خلدون” الوجه الآخر للشيطان، و”العايقة” الوجه الآخر لملذات الحياة. لا أحد من أهل الجزيرة يفلت من ألاعيب هؤلاء الغواة، جاءوا ليفسدوهم بالكلام المعسول، وهو فساد يستهدف تدمير القلوب والنفوس، وتدمير عرفات رمز المحبة والخير، في محاولات دائمة لتدنيس ثوبه الطاهر.

تحيلنا هذه الرمزية إلى شخصية الشيطان التي رمز لها عبد الرحيم كمال مسبقاً في مسلسل “ونوس” وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى الدراما التي يحبها كمال والتي تلعب على رقع الشطرنج، العالم إما خير مطلق أوشر مطلق، والشخصيات إما ملائكة أو شياطين، لا شيء واقعي هنا بل طرح لأفكار مجردة تماماً وشخصيات تجبرنا الدراما على محبتها أو كراهيتها دون أن يسمح لنا بالتفكير في ماهية هذا الخير وذاك الشر.

حقق عبد الرحيم كمال مبتغاه إذن في دس الحكمة بين السطور، وأصبحنا أمام معركة متكررة وشاهدناها مراراً في أعماله وغيرها من الأعمال الكلاسيكية القديمة. يقول عرفات “أهل الحكم مساكين، عليهم اللي مش على حد، ومطلوب منهم اللي عمره ما هيحصل، رضا الناس” مثل هذه الحوارات تدفعنا مرة أخرى إلى التفكير في طبيعة الخطاب الروحي الذي يكتب على ضوئه كمال معالجاته الدرامية، وكأنه يقول: لو أن الناس يرضون ويصمتون، لكانوا في حال أفضل.

بعدما حقق عرفات بكل ما يحمله من رمزية الغرض الدرامي منه، وكسب محبة الجمهور، أصبحنا أمام تتابع درامي يستدرجنا لفك الرموز التي تكمن خلف كل شخصية، وأصبحت دائرة الأسئلة تتسع كل يوم على مواقع التواصل التي بات تحليلها للتأويلات الرمزية جزءاً من حديثها اليومي عن المسلسل، بينما الأحداث الدرامية نفسها تقع في فخ عدم التماسك، وكل مشهد جديد أصبح سياقاً في حد ذاته يليق بمحتوى مرئي خطابي على مواقع التواصل ليوصل إلى الجمهور فكرة معينة.

وبرغم الضعف الدرامي وبطء الأحداث، لم يمنع نجاح المسلسل من خلق حالة من الجدل على مساحة موازية على مواقع التواصل التي باتت مقياس نجاح أي عمل فني، وهو ما يعيدنا إلى التفكير في سؤال النجاح، ما هو مقياسه بالتحديد؟ أن تحكي حكاية متماسكة لها أبعادها وعقدتها التي لا تنفلت؟ والسؤال الأهم، هل وصلت الرسالة المبطنة التي يبثها العمل بين السطور؟ 

 إذا كانت الأخيرة هي المقياس الوحيد فبإمكاننا القول إن “جزيرة غمام” نجح في الوصول إلى مبتغاه، لكن يبقى السؤال: هل لا تزال حكايات الخير والشر تلقى استحسان الجمهور أم أنه سئم منها، ومن المحاضرات الأخلاقية التي تدعوه إلى تهذيب نفسه وإعادة التفكير في تقويم سلوكه وأفكاره؟ وكأن الجمهور هو دائماً الطرف المذنب والملام والذي يحتاج إلى الوعظ والتأديب.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.