fbpx

أبحثُ عن سترة نجاة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليس عليك أن تكون في الماء لتغرق، كلنا نبحث عن ستر نجاة نرتديها، وإن لم تكن مرئية في كثير من الأحيان، كالقبلة مثلاً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

36 نقطة برتقالية صغيرة فوق سجادة ماء واسعة وكحلية، تحت سماء سوداء يثقبها قمر.

البحر مسطرة! صرخ مبشراً من يقود البلم، ابتسمت في سري، لا مكان للخطوط المستقيمة في هذا العالم، كما لا أمان لأي ماء… رجل تركي يعطينا تعليمات صارخاً بكلماتٍ لم نفهمها لكنها كانت صوت النجاة الوحيد فتبعناه بحدسنا كالقطط.

بين قدمي جلس طفلٌ صغير ركب مع أخيه وأمه، سترة نجاة ضيقة عليه تشدها حقيبة يلبسها على ظهره إلى الوراء فلا يستطيع التنفس بسهولة، أدخل يدي بين رقبته والسترة، وأبعدها عنه.

لا تخف حبيبي… تنفس… رح امسكها. 

اي .

شو اكتر شي بتحب تعمله قبل ما تسافر؟

ألعب طابة!

أحدثه عن الملاعب التي سيركض فيها عندما نصل، وعن أصدقاء جدد سيحصل عليهم يجيدون تسجيل الأهداف، فيبتسم وينسى أين نحن. كان هذا قبل 7 سنين! 

والآن غرق قارب في بحر طرابلس في لبنان وكان يحمل من كانوا ليصيروا لاجئين، لولا أن الموت غافلهم. قرأت الأسماء وتوقفت عندما وصلت عند أختين مفقودتين، لا أعرف لماذا أقرأ الأسماء بعد كل حادثة غرق، عمن أبحث؟ أو من أخاف أن أجد بين الغرقى؟ 

مع الوقت أدركتُ أنه ليس عليك أن تكون في الماء لتغرق، كلنا نبحث عن ستر نجاة نرتديها، وإن لم تكن مرئية في كثير من الأحيان، كالقبلة مثلاً…

تعلمتُ أن أقبل والديّ في نهاية مكالمة الفيديو اليومية، أضم أصابع يدي ملقياً قبلةً في الهواء. أثر الفراشة لا يزول، ماذا لو انتقلت هذه الاهتزازات في الأثير من السويد إلى دمشق! هذه لغةٌ جديدة علمتني إياها المسافة…

أنا قبالة البحر أكتب وأستمع إليه يردد الموجة ذاتها، لا يكل هذا البحر. لعله ينقل رسائل من دخلوه ولم يخرجوا. وأنا، ماذا أردد داخلي؟ ما اللغة التي أستعملها بيني وبيني؟ صرتُ أرحم مع نفسي، عرفت أسماء الأشياء كما مرت بي ومررتُ بها فتغيرت كلماتي واكتشفت كلماتٍ جديدة ما كنت أعرفها كـ”الفقدان”!  

في السابق رفضتُ الفقد، أنكرته، واعتبرته عدواً عليّ محاربته، تحايلت عليه بالمشكلات، وصنعتُ حروباً مع من أحب لأبتعد بإرادتي لا رغماً عني، لكن هذا ما كان إلا ضعفاً. كنت أوهن من أي وداع! 

أدركت الآن أن الفقد سحق قلوب كثيرين، لا مفر منه، لغة مشتركة بين من شدوا الرحال صوب الجهات الأربعة هرباً من البلاد التي ما عادت بلاداً.

ليست اللغة مجموعة من الأصوات نجمعها في كلماتٍ ذات دلالة فقط، بل هي أعمق من ذلك بكثير. هي مجموعة تجارب، نظام اقتصادي، طريقة حياة، كما أنها صوت تاريخ المكان وذكرياته… قد يصير الهرب لغة جديدة يتقنها الخائفون.

نحن إذ نخبئ أحبتنا في الأغنيات… كيف نترجمها؟ 

تقول سارة وهي رسامة سورية تقيم في تركيا: “بدأتُ أُتقن الإنكليزية لكنني لا أرغب باستخدامها عند الحديث في معرض لوحاتي الجديد، مشروعي يدور حول الذاكرة والفراغات التي تحتويها. كنت قد بكيت، ضحكت، عانيت، نجحت، بل حتى إنني ثرتُ أيضاً بالعربية. عندما سأتكلم عن ذاكرتي بلغة ثانية أجنبية سأكون كمن يتحدث عن أخرى، ولن أجد ما سأقوله”.

فهل للألم لغة خاصة؟ عندما بدأت بتعلم اللغة السويدية أخبرني المعلم أن السويدية لغة شفوية، بمعنى أن معظم الحروف تخرج من الحنجرة والشفاه، أما العربية فهي لغة داخلية، مخارج الكثير من حروفها يكون من الجوف! بلاد لكثرة سارقينها عرفت الجوع طويلاً فأكل أهلها الكلام. بلعوه ولفظوه أصواتاً تجعل من ليس منّا يستصعب مخارجها.

في لغة الأيام الحاضرة، الأيام الصعبة، أبحث عن الكلمة- اللحاف لأمدها وأغفو وأنا أعد خرافاً طائرة، لا أسماء من أشتاق لهم، أو أرقام فواتير علي دفعها، أو خطوات علي إنجازها في اليوم التالي لأسند حائط الغد المترنح. 

بعيداً من الشعر كبرت في بيئة لا يجيد أفرادها الأخذ. كان كل من فيها متلحفاً بمثاليات قاتلة للفردية، يتدرب على العطاء المتواتر بشكلٍ مستمر. لذا حين شددت ريشتي من شعرها لأنزلها سوق العمل لم أعرف كيف أسوّق لأعمالي، وعشت بين خيارين إما أن أقايض ما تبقى من وقت لدي بعملٍ لا يشبهني، أو أن أتمسك بألواني وأتخلى عن مرآة الكفاف التي نشأت عليها كفنانة. حين يصبح فنك حرفتك عليك أن تتقن لغة سوق العمل. لتعيش غرقاً من نوع جديد، غرقاً لا بلل فيه بل الكثير من الجفاف وصوت قرع الملاعق. 

هل يتسع لنا الظلام؟ نحن وكل ما نحب وكل ما كناه، نحن وجميع مرايانا بما فيها من صدى للغاتٍ نتداول حروفنا الصوتية لننجو وسط خرس الكبار، وهم يشربون نخوبهم، قارعين الكؤوس التي يعلو رنينها فوق  صوت الدمار.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.