fbpx

جذور الصراع السني- الشيعي: عن المواجهة بين عمر وعلي ودور فاطمة بنت النبي 2/4

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك رواياتٌ في مصدرٍ أساس لمؤرخٍ سني تؤكد اختلاف الصحابة حول الخلافة، واختلاف الخليفة الأول مع السيدة فاطمة الزهراء، نجد أيضاً رواياتٍ تُنكر الخلاف وتؤسس لقداسة الجماعة وأولي أمرها أياً كانت الكلفة وتكفيراً ضمنياً لمن يخالف ذلك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في المقال السابق من هذه السلسلة المكونة من 4 حلقات، ذَكَرّنا فيلم “سيدة الجنة” الذي أنتجه رجل الدين الشيعي ياسر الحبيب ، وفيه لعنُ الخلفاء الثلاثة الأُول، خاصة عمر ابن الخطاب ، باعتباره أحد نقاط التماس الشيعي-السني التي تثير الغضب والحنق، إن لم ترق الدم. في إيران هناك تقليدٌ للاحتفال بقتل عمر وقاتله (تجبره حالياً الجمهورية الإسلامية على الاختفاء) كان موضوع جدلٍ حاد في محاولات التقارب السني الشيعي. 

في مصر  عام 2013، بعد وصلة سباب و قدح الشيعة والدعاء عليهم في استاد القاهرة بحضور الرئيس الراحل محمد مرسي، قُتل أربعة شيعة ببشاعة في الشارع ، لاتهامهم بسب الصحابة. 

وفي العراق اليوم يُتهم الرادود (مؤدي مراثي آل البيت) الأشهر على الإطلاق ربما في تاريخ التشيع الاثناعشري كله، باسم الكربلائي، بإثارة النعرات الطائفية لنيله علانيةً من صحابة يجلّهم السنة ويرى فيهم شيعة إثنا عشريون رأياً آخر. فما مصدر هذه الأزمة المتجددة؟ وماذا تخبرنا عن القراءة الشيعية الإثناعشرية خصوصاً،  والمسلمة عموماً،  لتاريخ المسلمين المبكر، وعلاقة ذلك بما نعيش ونعاني. 

كما أسلفنا في المقال الأول في هذه السلسلة، هناك رواياتٌ في مصدرٍ أساس لمؤرخٍ سني: تاريخ الطبري (و هو لا يعني أن رواتها سنة) تؤكد اختلاف الصحابة حول الخلافة، واختلاف الخليفة الأول مع السيدة فاطمة الزهراء، نجد أيضاً رواياتٍ تُنكرُ الخلاف وتؤسس لقداسة الجماعة وأولي أمرها أياً كانت الكلفة وتكفيراً ضمنياً لمن يخالف ذلك،  وفي ذلك كله لا أثر لإعتداءٍ جسدي على ابنةِ الرسول (وهو الذي يؤسس للكراهية الشديدة لعمر). لكن ماذا تخبرنا المصادر الشيعية عموماً و الاثناعشرية خصوصاً؟

روايات لمؤرخين محسوبين على التشيع:    

إذاً هناك رواياتٌ في مصدرٍ أساس لمؤرخٍ سني: تاريخ الطبري، تؤكد اختلاف الصحابة حول الخلافة، واختلاف الخليفة الأول مع السيدة فاطمة الزهراء، نجد أيضاً رواياتٍ تُنكر الخلاف وتؤسس لقداسة الجماعة وأولي أمرها أياً كانت الكلفة وتكفيراً ضمنياً لمن يخالف ذلك،  وفي ذلك كله لا أثر لإعتداءٍ جسدي على ابنةِ الرسول. لكن ماذا تخبرنا المصادر الشيعية عموماً و الاثناعشرية خصوصاً؟

روايات لمؤرخين محسوبين على التشيع: 

قبل النظر في كتابات فقهاء الشيعة عبر التاريخ بين أيدينا مؤرّخَين مُهمْين مَوصُوْفَين بالتشيع.  أولهما أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح المعروف باليعقوبي، السابق على الطبري، والمُتوفَى عام 284 هجرية  / 978 ميلادية ، وهناك خلاف على شيعيته، و لكنه يوصف بالانحياز للرؤية الشيعية للتاريخ ورآه عُلماء اثناعشرية مُحْدثين شيعياً. والآخر أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي  المُتوفى عام 346 هجرية / 957 ميلادية، وهذا مٌتَفقٌ على شيعيته وإن لم يعنِ ذلك إنتمائه لطائفةٍ معينة من فرق الشيعة الثلاث الباقية معنا (الاثنا عشرية،  والإسماعيلية، أو الزيدية – شديدة القرب من السنة). في تاريخ اليعقوبي، ثلاثةُ صحابة فقط التزموا البيعة لعلي بن أبي طالب بديلاً عن أبي بكر. عدا ذلك: “بلغ أبا بكر وعمر أن جماعةً من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع عليٍ في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار ، وخرج عليٌ ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه [أي صرع عمرُعلياً]، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجّن [أي لأرفعن صوتي] إلى الله ! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع عليٌ إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوماً.” 

 أما المسعودي فيروي مواجهةً مقتضبة بين أبي بكر وعلي، فبعد بيعة الأول “خرج عليٌ فقال [لأبي بكر]: أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر ، ولم ترعَ لنا حقاً، فقال أبوبكر بلى ولكنني خشيت الفتنة.”  ثم يورد المسعودي رفض سعد ابن عبادة مبايعة الخليفة الأول وأن أحداً من بني هاشم لم يبايعه إلا بعد وفاة السيدة فاطمة. و في رواية سنجد صداها في مصادر أخرى يروي المؤرخ نفسه أن أبابكر حين الوفاة قال ندماً :”وددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة، وذكر في ذلك كلاماً كثيراً.” ويعود فيذكر أموراً أخرى منها: “وددت أني سألت رسول الله عنها” أولها: “وددت إن كنت سألته في من هذا الأمر، فلا يُنازَع الأمرُ أهلُه” (في إشارةٍ إلى أمر الخلافة).  الفرق الأساس هنا بين ما أورد الطبري وما أتى به اليعقوبي والمسعودي هو الوصول لاقتحام بيت فاطمة وعلي، ومع ذلك تصارع عمر وعلي (الذي، أي علي، عادة فيما عندنا يَصرَع ولا يُصرع)، أما غضب السيدة فاطمة وتهدديها فكفيلٌ، في رواية اليعقوبي، بدفع من اقتحم بيتها إلى التراجع، وعلي ابن أبي طالب هنا لم يُجبَر على بيعةٍ كما في رواياتٍ أخرى (سُنية) أوردناها و سنورد غيرها (شيعية). ”  لا ذكر هنا، في هذين المصدرين المحسوبين على الشيعة، لإعتداءٍ جسدي على السيدة فاطمة ولا تقليل من شأن عليٍ أو استخفاف بأعراف العرب في عصر الإسلام المبكر الذي نجده في رواية أنه بايع “في قميصٍ ما عليه إزار ولا رداء” التي أسلفنا. أما اعتراف الخليفة الأول بأن بيعته فيها ما يُشكلها، فهذا تحديداً ما أقره الخليفة الثاني لاحقاً في كلام مشهورٍ منسوب له  نجده في كبرى المصادر السنية (على رأسها ما أورده البخاري: بمعنى أنها استثناء، من المنظور السني، له ما يبرره من خشية الفتنة ومقام أبي بكر، فالقاعدة لزوم الشورى): ” إنَّما كَانَتْ بَيْعَةُ أبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وتَمَّتْ، ألَا وإنَّهَا قدْ كَانَتْ كَذلكَ، ولَكِنَّ اللَّهَ وقَى شَرَّهَا، وليسَ مِنكُم مَن تُقْطَعُ الأعْنَاقُ إلَيْهِ مِثْلُ أبِي بَكْرٍ، مَن بَايَعَ رَجُلًا عن غيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فلا يُبَايَعُ هو ولَا الذي بَايَعَهُ.”

نصوصٌ عقيدية وفقهية  شيعية عموماً واثناعشرية خصوصاً: ماذا تخبرنا؟

بعد القرآن أهميةً، عند الاثناعشرية، كما عند السنة، تأتي كتبُ الحديث، لكن الخاصة بهم. تجتمع الأحاديث المنسوبة للرسول كما للأئمة الاثنا عشر بعده، إذ طبقاً للعقيدة  هنا ورث الأئمة عِلم الرسول ومن ثم علّمهم علمه (وإن كان هو وحده آخر من أتاه الوحي)، وطاعتهم طاعته ومخالفتهم مخالفة له.  وأهم كتب الحديث عند الشيعة أربعة: “الكافي في علم الدين” للكُليني (ت  329 هجرية/ 941 ميلادية)  ، و”من لا يحضره الفقيه” لابن بابويه القمي  الشهير بالشيخ الصدوق ( ت 381 هجرية/ 991 ميلادية)، ثم “تهذيب الأحكام” و”الاستبصار”     لأبي جعفر محمد الطوسي  (ت 460 هجرية / 1067 ميلادية)، عدا هؤلاء، من محدثيهم المهمين  أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد (ت 413 هجرية / 1022 ميلادية). 

في واحد من كتب الشيعة الأربعة: “تهذيب الأحكام”  للطوسي نجد زيارتين لقبر السيدة فاطمة (والزيارة هي نص الدعاء الذي يقرأ عند ضريح أيٍ من المعصومين الأربعة عشر علماً أن قبر السيدة فاطمة لا يُعرف محله على وجه التحديد). وفي واحدة منهما يخاطب الزائر ابنة الرسول: “… السلامُ عليكِ يا أم الحسن والحسين سيديّ شباب أهل الجنة، السلام عليكِ أيتها الصديقة الشهيدة، السلام عليكِ أيتها الرضية المرضية … السلامُ عليكِ أيتها المظلومة المغصوبة، السلام عليك أيتها الُمضَطَهدة المقهورة … أشهد أنك مضيتِ على بينةٍ من ربك ، وأن من سركِ فقد سر رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله، و من جفاكِ فقد جفا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومن آذاكِ فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله … لأنك بضعة منه وروحه التي بين جنبيه كما قال صلى الله عليه وعلى آله، أُشهد الله ورسله وملائكته أني راضٍ عمن رضيتِ عنه وساخطٌ على من سخطتِ عليه متبرئ ممن تبرأتِ منه، موالٍ لمن واليت ومعادٍ لمن عاديتِ، مبغضٌ لمن أبغضتِ مُحبٌ لمن أحببتِ …” 

وفي كتاب “الخصال” الذي حرره أحد جامعي كتب الشيعة الأربعة، أبو جعفر محمد بن بابويه القمي، ترد رواية، تذكرنا بما نقلناه عن المسعودي، عن ندم الخليفة الأول، وهو على فراش الموت على “كشف بيت فاطمة”، وأنه ود لو كان سأل الرسول “فيمن هذا الأمر فلم ننازعه أهله” (في إشارة إلى أحقية الامام علي وآل البيت، حسب المُعتقد الشيعي، في الخلافة). في الكتاب نفسه ترد أكثر من رواية عن حرمان السيدة فاطمة من ميراثها الذي طلبته من أبي بكر. و في الكتاب نفسه أيضاً، في وصف لخصالٍ “من شرائع الدين”  يعددُ حديثُ طويل منسوبٍ لإمام الاثناعشرية السادس، جعفر ابن محمد ابن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بجعفر الصادق، ما يجب على المؤمن الالتزام به ومن هذا “حب أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة ومن الذين ظلموا آل محمد وهتكوا حجابه فأخذوا من فاطمة  فَدَك، ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهمّوا بإحراق بيتها، وأسسوا الظلم وغيروا سنة رسول الله، والبراءة من … أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة … ” لاحظ أن هذه النصوص، برغم ما تتضمنه من هجومٍ حادٍ، دون تسمية، على كل متهمٍ بمعارضة السيدة فاطمة وزوجها، لا تخالفُ تفاصيل بعض روايات تاريخ الطبري. 

لكن نصاً آخر في مصدرٍ شيعي اثناعشري متأخرٍ عن الطبري بحوالي قرن يعيدُ صياغة رواية ذكرناها، ويدخل فيها أشخاصاً ويخرج غيرهم. في كتاب الأمالي للشيخ المفيد، بسنده: “لما بايع الناس أبا بكر دخل علي [ابن أبي طالب] والزبير والمقداد [بن عمرو] بيت فاطمة عليها السلام، وأبوا أن يخرجوا، فقال عمر بن الخطاب، أضرموا عليهم البيت ناراً [بدلاً من “لأحرقن عليكم”]  فخرج الزبير ومعه سيفه، فقال أبو بكر: عليكم بالكلب [لا أبو بكر ولا السب وردا في رواياتي الطبري]، فقصدوا نحوه فزلت قدمه وسقط إلى الأرض ووقع السيف من يده، فقال أبو بكر [لا عمر، كما في واحدة من روايات الطبري]: اضربوا به الحجر”.

عدا كتب الشيعة الأربعة ومحرريها وكتابات الشيخ المفيد يمكننا النظر في نصوصٍ اثناعشرية أخرى مهمة مبكرةٍ نسبياً. في “الشافي في الإمامة” للشريف المرتضى (ت 436 هجرية/ 1044 ) مناقشة لما يرُوى من إعتداءٍ جسدي على السيدة فاطمة، بل و ما يقال من إذلالٍ أيضاً للامام علي في رواياتٍ (لإجباره على البيعة)، وبينما لا يؤكد المُرتضى أيٍ من هذه الروايات، إلا أنه يجهد ليدحض أدلة منكريها، هنا انكارُ الإنكارِ إثبات. لكن كتاب “نهج البلاغة”، للشريف الرضي (ت 406 هجرية / 1015 ميلادية)، أخو الشريف المرتضى، الذي يجمع الأقوال والخطب المنسوبة للامام علي، والواسع الانتشار بين السنة والشيعة على حدٍ سواء، يورد الخطبة المعروفة بـ”الشقشقية”،  النص الهام المنسوبٌ للامام علي حيث يتحدث عن اعتقاده بجدارته هو دون غيره بخلافة الرسول، وأن من سبقوه للمنصب سلبوه مكانه وإن سَكت هو خَشية الفتنة (وهو تفسير لموقفه نجده في مصادر كثيرة شيعية وغير شيعية، بما في ذلك تاريخ الطبري).  لكن “الشقشقية” لا يرد فيها ذكرٌ  لإجباره على البيعة ولا حرق ولا اقتحام بيتٍ، ناهيك عن اعتداءٍ جسديٍ أو تنكيل  (كما سنرى في مصادر اثناعشرية). 

كتاب “كامل الزيارات” لأبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي (ت 368 هجرية / 979 ميلادية) يتفاوت علماء الاثناعشرية في الوثوق فيه، وإن كان واسع الانتشار، يردُ فيه نصٌ منسوب لإمام الاثناعشرية  السادس، جعفر الصادق، يصف فيه ما يخبئه “وادٍ من أودية جهنم”، عند جبلٍ سماه “الكمد”، قرب مكان يدعى “عُسفان” بين مكة والمدينة. الإمام المعصوم، الممنوح علماً لَدُنياً ورثه من الرسول ليس للبشر العاديين، يسمع صوتاً من اثنين “يستغيثان إليّ” [أي بالامام] ، “وإني لأنظر إلى قتلة أبي فأقول لهما: هؤلاء فعلوا ما أسّستما، لم ترحمونا إذ ولّيتم، وقتلتمونا وحرمتمونا، ووثبتم على حقنا، واستبددتم بالإمرِ دوننا، فلا رحم الله من يرحمكما، ذوقا وبال ما قدمتما، وما الله بظَلامٍ للعبيد، وأشدّهما تضرعاً واستكانةً الثاني [أي عمر ابن الخطاب]، فربما وقفت عليهما ليتسّلى عني بعض ما في قلبي …”، ومعهما في هذا العذاب  طبقاً للنص نفسه “كل فرعون عتى على الله وحكى الله عنه فعاله، وكل من علّم العباد الكفر”. 

كتاب “الاحتجاج”: مظلومية مطلقة مقابل شيطنة تامة.

الصورة الأكثر اكتمالاً التي تؤسس للكراهية الشديدة لعمر بالذات ثم لغيره من الصحابة نجدها في كتاب “الاحتجاج” لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، من فقهاء القرن السادس الهجري  (الثاني عشر الميلادي) الاثناعشرية، وهو كتاب واسع الانتشار، نجد هنا تفاصيل أكثر لما (يُقال إنه) جرى لفاطمة ، وكذلك وصفٌ لمواجهات بين عددٍ من الصحابة وعلي بن أبي طالب تدينهم وتؤكد على المظلومية المطلقة  للخليفة الرابع وإمام الشيعة الأول  (على النقيض من نصوصٍ شيعية وسنية تخبرنا انه قبل الوضع القائم مخافة الفتنة وإن رأى نفسه أحق بالخلافة كما أسلفنا). نجد إعادة صياغةٍ بتفاصيلَ أكثر لمشهد السقيفة مع تضخيمٍ أكبر لخشونة عمر ابن الخطاب المسمى هنا تحقيراً “ابن صُهاك”، نسبةً لجدته الجارية الحبشية، علماً أن “الاحتجاج”، على انتشاره الواسع، ليس بمصداقية بعض ما ذكرنا من مصادر اثناعشرية؛ يقول الطبرسي في مقدمته لكتابه “ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده: إما لوجود الاجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف”.

في مواجهة رفض علي بيعة أبي بكر، حسب ما يورد الطبرسي، شار عمر ابن الخطاب على أبي بكر أن يرسل، إلى بيت علي، على سبيل التهديد، “قُنفذ” الذي يصفه الطبرسي بأنه كان “شخصاً فظاً غليطاً جافياً من الطلقاء أحد بني تيم (عشيرة الخليفة الأول أبوبكر) “. يعود قنفذ (الذي يصعب تحديد هويته بالضبط) إلى عُمر وأبي بكر بأن فاطمة منعتهم من اقتحام بيتها فيرد عمر “مالنا وللنساء”.  ثم يأمر عُمر “أناساً”  بحمل الحطب وهو [أي عمر] معهم “فجعلوه حول منزل [علي] وفيه علي  وفاطمة  وابناهما [أي الحسن والحسين]، ثم نادى عمر حتى أسمع علياً: والله لتخرجن وتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن البيت عليك ناراً، ثم رجع فقعد إلى أبي بكرٍ وهو يخاف أن يخرج عليٍ بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته [أي خاف عمرُ علياً].” ثم أمر قُنفذ بإضرام النار واقتحام البيت إن لم يخرج علي. “فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر عليٌ إلى سيفه … فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه وألقوا في عنقه حبلاً أسود، وحالت فاطمة بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها، فبقي أثره في عضدها … من ضرب قنفذ إياها، فأرسل أبوبكر إلى قنفذ اضربها [مرة اخرى] فألجأها إلى عضادة بيتها، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها وألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراشٍ حتى ماتت من ذلك شهيدة…” 

حسب “احتجاج”  الطبرسي لا ينتهي إذلال آل بيت النبي ها هنا، فبعد ما وقع على ابنة الرسول من أذىً  “انطلقوا بعليٍ “مُلبباً بحبلٍ ” حتى انتهوا به إلى أبي بكر وعمرٌ قائم بالسيف وخالد بن الوليد وأبوعبيدة بن الجراح  [وصحابة آخرين] … وسائر الناس قعودٌ حول أبي بكر عليهم السلاح، يحاولون، مرة اخرى، إجباره على البيعة. وحين يسأل علي ماذا لو رفض يرد عمر: “إذا نقتلك ذلاً وصغاراً”.  ثم يبايع مجبراً هو ومن معه.  لا يبايع الزبير إلا بعد أن يثب على صدره عمر وخالد بن الوليد، لكن الزبير لا يسب إلا عمر. أما سلمان الفارسي فيكتب الطبرسي على لسانه “… أخذوني فوجئوا عنقي حتى تركوها مثل السلعة [خراج كهيئة الغدة] … فبايعت مكرهاً”.

لكن هنا الروايات تتضارب إن لم تتناقض. في واحدةٍ منها، “حتى إذا مضت أيام [بقي فيها عليٌ على رفض مبايعة أبي بكر] أقبل [عمر] في جمعٍ كثير إلى منزل عليٍ فطالبه بالخروج فأبى ، فدعا عمر بحطبٍ ونار وقال: والذي نفسُ عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه. فقيل له إن فاطمة بنت رسول الله وولد [أي أحفاد] رسول الله … فيه، وأنكر الناس ذلك من قوله. فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهويل”. عدا غلظة عمر التي يكرر  “الاحتجاج” عرضها بطرقٍ شتى،  يعدد الكتاب من وجهة النظر الاثناعشرية، ضعف حجة كل من خالف  علي بن أبي طالب من جهة، وقوة حجة هذا الأخير، ومع ذلك الكثير من القدح في “الشيخين” (أبو بكر وعمر) الذي تدعي رواية الطبرسي عجزهم حتى عن الرد عليه (أي حجة الإمام عليٍ عليهم).  خشونة  عمر  تطالُ الخليفةَ الأول ، فبعدما أفحمته (أي أبو بكر)حجج الصحابة المؤيدين لخلافة عليٍ  دوناً عن غيره قال :”وليتكم ولست بخيركم، أقيلوني أقيلوني فقال له عمر ابن الخطاب انزل عنها يا لُكَع [واللُكع الأحمق اللئيم] إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في [الصحابي] سالم مولى أبي حذيفة.”  لاحظ كيف تجعل هذه الرواية من عمر صاحب القرار الحقيقي وتُسقط حتى التظاهر بالاحترام لمن بويع خليفةً للتو. 

يكرر الطبرسي أن علياً، بعد وفاة الرسول، آلى على نفسه ألا يخرج من بيته حتى يجمع القرآن ويرتبه (بينما يريد غيره إخراجه لأخذ البيعة منه) وفي مشهدٍ غير بيت عليٍ وفاطمة (و في روايةٍ  تُناقض ما يُروى عن حرقٍ واعتداءٍ عند بيتهم) يكون مسجد المدينة هو محل المواجهة الأهم إذ يجتمع فيه عليٌ مع شيعته من الصحابة. فيحتشد أربعة آلاف رجل (ترى كم كان عدد سكان المدينة آنذاك؟) يقودهم خالد بن الوليد ومعاذ ابن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وعلى رأسهم عمر ابن الخطاب و يتوجهوا إلى مسجد الرسول بالمدينة حيث علي وأصحابه لإجباره على البيعة. علماً أن عدداً من الروايات هنا يلعب فيها خالد بن الوليد دوراً أساسياً إما بقيادته لأعداء علي، أو بأن يكون هو من يختاره أبو بكر، بناء على نصيحة عمر، لاغتيال علي ابن ابي طالب في المسجد (لكن أبابكر يتراجع عن ذلك، وفي رواية يوردها الطبرسي أن زوجةً لأبي بكر أرسلت من حذر علياً). 

  ولأن المسجد يحتل  قلب المشهد هنا  يروي سلمان الفارسي حديثاً منسوباً للرسول عما سيجري بعد وفاته من سلبٍ لحق عليٍ في الخلافة: “بينما أخي وابن عمي [علي ابن ابي طالب] جالسٌ في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه فلست أشك إلا وأنكم هم”. تنبؤ الرسول بما جرى، مع ما في ذاك من حكمٍ على مخالفي عليٍ يتكرر هنا، منسوبٌ في” الاحتجاج” أيضاً إلى علي ابن ابي طالب: ” إن رسول الله أوعز إلي قبل وفاته وقال لي: “يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقص فيك عهدي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى وإن الأمة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه، فقلت يا رسول الله فما تعهد إلي إذا كان كذلك؟ فقال: “إذا وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً كف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً” (والسامري هو من رد بني إسرائيل إلى عبادة الأصنام بعد خروجهم من مصر  حين غاب عنهم  النبي موسى كما ورد في القرآن).  أما أول من بايع أبا بكر بحسب ما ينقل الطبرسي، كان ابليس في  هيئة شيخ. 

فهل كان صدام فاطمة وعليٍ مع عمر عند بيتهم أم في المسجد؟ وأين من ذلك كله المتفق عليه من انشغال علي بتجهيز جسد صاحب الرسالة للدفن عن كل شيء آخر؟ و متى أصبح عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد حلفاء ومصادر التاريخ تخبرنا مراراً وتكرارً أن علاقتهم شابها أخذ وجذب؟ وإن كان عمر بن الخطاب بهذا القدر من الخسة والغلظة، و والتجرؤ حتى على أبي بكر، فكيف قُبل خليفة؟ وكيف أنجز ما يستحيل إنكاره كخليفة؟ وإن كان قد أضمر هذا الكم الهائل من الكراهية العمياء  لعلي ابن أبي طالب (وهو ما نجد إشارات له في مصادر شيعية اخرى) فلِمَ اختاره ضمن ستة لينتخبوا من بينهم خليفته قبل وفاته كما هو ثابت؟ وأهم من هذا كله في نصٍ شيعي، أين كرامة امام الشيعة الأول وخليفة المسلمين الرابع؟ 

إن قبلنا بما يرويه الطبرسي ولاحقون عليه من هذه الدرجة من إيذاء زوجة الإمام الأول وابنة الرسول أيعقل أن علياً سكن واستكان بعد ذلك؟ بايع ذليلاً  ثم هادن قتلة زوجته، ثم رضي المجتمع نفسه الذي رآه كسيراً أن يبايعه خليفة؟ و إن كان المجتمع كله قد ارتد، إلا بضعة أشخاص أو أكثر قليلاً، متبعاً سنة السامري، فلِمَ قبل شبيه هارون (أي علي ابن أبي طالب) خليفةً عليه؟  لا ينافس سردٌ كهذا في لا منطقيته إلا انه بايع “ما عليه إزار ورداء”، الأول ينطلق بلا تدبر من أحد أركان العقيدة الاثناعشرية: مظلومية الأئمة وآل البيت، فلا يرى سواها حتى يحطُ من مكانتهم ويشيطن من يعتبره أعداءهم بلا حساب والثاني يوُلد بلا منطق مما رفعه كثيرٌ من السنة، خاصة السلفية المعاصرة والإسلام السياسي السني، إلى درجة تقارب التقديس: مركزية الوحدة والجماعة، فيهين العقل قبل أن ينتقص من كرامة الصحابة. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.