fbpx

اللغة واللهجات وحنا دياب… ماذا عن “الصوت الداخلي” للقراءة؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بناء الصوت الداخلي ذو قواعد نحويّة وإرث صوتي، نتعلمه مشافهةً ونضبط عبره معاني الكلمات وكيفية نطقها في عقولنا، خصوصاً أننا قراء العربيّة، ثبتنا اللغة “الفصحى” كلغة للكتابة والقراءة، أما المحكيّة أو اللهجات المحليّة فهي ساحة للحرب الهوياتيّة والدينية والوطنيّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لا أستطيع قراءة الكتب بعد الآن. الكتب الصوتية دمرتني يا جيري. أحتاج إلى صوت جميل. هذا الكتاب له صوتي. أنا أكره صوتي”. 

جورج كوستانزا- ساينفيلد- الموسم الثامن/ الحلقة السادسة-1996. 

الاقتباس السابق من المسلسل الكوميدي الشهير “ساينفلد”، في الحلقة المعنونة بـ”إدارة الأزمات”، في إحالة إلى كتاب يحمل العنوان ذاته. كتاب ضخم على جورج كوستنازا أن يقرأه ويقدم محتواه لزملائه في العمل. ويواجه جورج مشكلة في قراءة الكتاب وهو من 400 صفحة. السبب بسيط، الكتاب عملاق، فيلجأ إلى نسخة صوتيّة منه. المفارقة، أن من سجّل النسخة الصوتيّة، يملك صوتاً مطابقاً لصوت كوستانزا، وهو الصوت الداخلي ذاته الذي يسمعه حين يحاول القراءة، وهنا يتضح الـPunch Line (المعنى الساخر) المراد من النكتة، “أنا أكره صوتي”. 

صوت القراءة الداخلي هو ذاك الذي نسمعه في رؤوسنا حين نمر بأبصارنا على الكلمات، لا بد من صوت نستمع إليه حين نقرأ، وكأننا نلقن أنفسنا الكلمات والجمل. هناك العديد من المفارقات الخاصة بهذا الصوت الداخليّ، نعرف مثلاً أن بعض المصابين بعسر القراءة لا يمتلكون هذا الصوت الداخلي، أي المحاكمة العقلية لديهم تجري على أساس مقارنة الصور والأفعال ونتائجها، لا المفاهيم ذات التكوينات اللغويّة، أي من يقرأ يصغي إلى “نفسه”، ومن لا يمتلك صوت داخلي، القراءة بالنسبة له إشكالية، هو يقارن أشكال الكلمات ولا “يسمع” صوته وهو ينطقها. 

يشكل الصوت الداخلي جزءاً مهماً من نظام القراءة والآلية التي نتلقى عبرها المعارف، يشير ميلان  كونديرا إلى هذا الصوت وعلاقته بالقارئ، فكيفية نطق الكلمات وقولها في العقل، هي ما تجعلنا نتخيل الشخصيات، ويمتد الأمر إلى تخيل المؤلف، ذاك الذي إن عرفنا صوته، أي نبرته في الكلام، فسيحل صوته مكان صوتنا الداخلي، ليصبح هو ذاته من “يلقننا” ما نقرأ، هل تمكن قراءة قصيدة لمحمود درويش دون تخيله وهو يلقيها؟ هل تمكن قراءة كونديرا بالصوت ذاته بعد الاستماع إلى صوته يتحدث الفرنسية ببطء وخجل؟ 

لا أستطيع قراءة الكتب بعد الآن. الكتب الصوتية دمرتني يا جيري. أحتاج إلى صوت جميل. هذا الكتاب له صوتي. أنا أكره صوتي”.

هذا الصوت نتاج العلاقة بين النص المكتوب وأسلوب تعلمنا القراءة ونطقنا الحروف، فالقراءة الصامتة (يشير مانغويل إلى أن القراءة الصامتة شأن جديد، سابقاً كانت القراءة دائماً بصوت مرتفع)، تتيح لنا العزلة مع ذواتنا، في الوقت ذاته تكشف سوء الفهم وعدم دقة اللغة، وأبسطها باللغة العربيّة هي حرف “الضاد”… هل يلفظ “ضاد” أو “ظاد”؟ 

بناء الصوت الداخلي ذو قواعد نحويّة وإرث صوتي، نتعلمه مشافهةً ونضبط عبره معاني الكلمات وكيفية نطقها في عقولنا، خصوصاً أننا قراء العربيّة، ثبتنا اللغة “الفصحى” كلغة للكتابة والقراءة، أما المحكيّة أو اللهجات المحليّة فهي ساحة للحرب الهوياتيّة والدينية والوطنيّة، وأي انزياح عن الأصل الذي ثُبت في نهايات القرن التاسع عشر، سيحول صاحبه إلى عدو للغة، وكأن اللهجة العاميّة للصوت العلني، أما الصوت الداخلي، صوت القراءة، ففصيح لا يجب المساس به. 

الصوت الداخليّ أشبه بجهاز مفاهيمي- لغوي في عقولنا، فنحن نقرأ أوتوماتيكياً  بـ”الفصحى” ثم نعاني كي نقرأ بالعامية. واجهت شخصياً مشكلات عدة في قراءة نصوص مترجمة من لغات أوروبية إلى لهجات عربية محليّة كالمصرية الدارجة، التونسية الدارجة، حتى اللبنانية الدارجة الأقرب إلى اللهجة السورية لا تُقرأ بسهولة، لا لأني لا أتقن اللهجات وحسب، بل لأن صوت القراءة الداخلي لديّ مُبرمج على القراءة بالفصحى. 

هذه البرمجة الفصيحة حديثة العهد، أو يمكن القول خضعت لتقعيدين كبيرين. الأول لحظة جمع القرآن والاتفاق على لفظ قريش وحرفها. هناك إشكاليات في هذا الشأن ترتبط مثلاً بأشخاص يقرأون ذات الكلمات والنصوص القرآنية، بشكل مختلف عما يقرأه أًصحاب اللهجة القرشية، تُذكر هنا حادثة هشام بن حكيم، وكيف قرأ بغير ما يقرأ عمر بن الخطاب، وبحسب محمد بن عبد الله ، نبي الإسلام، نطق الاثنان قرآناً برغم اختلاف ما نطقاه. البرمجة الثانية حدثت نهايات القرن التاسع عشر حيث اتُفق على “الفصحى الحديثة” ونظام تصويتها وتشكيلها، وكأنها شأن “مُبتدع”، ولن نخوض في المرات التي صُحح ودقق فيها كتاب “تلخيص الإبريز في وصف باريز” لرفاعة الطهطاوي، لكن يكمن القول إن الأخير كتبه بلغة لا تصلح للنشر، واضطر إلى تصحيحه وتدقيقه أكثر من مرة قبل نشره. 

هذا الشأن الخاص بالصوت الداخليّ ذو تاريخ قومي وعروبي ومقدس، لكن ما يثير الانتباه هو ما يقوله عبد الفتاح كيليطو في كتابه “لن تتكلم لغتي”، إذ يشير إلى أن قارئ العربية يستطيع قراءة العباس بن الأحنف ونزار قباني دون صعوبات جمة، وابن المقفع والتوحيدي كما يقرأ رفاعة الطهطاوي والشدياق، وهنا ربما امتياز قارئ العربية من وجهة نظره، يشير قبلها إلى فترة ركود الأدب العربيّ بين القرنين 12 و19 ميلادي، لكن ما ذكره كليطو، ينطبق على كتب باللغة الفصحى، أما ما هو مكتوب بالعامية، فلا ذكر له، وكأنه خارج الأدب، وخارج الذاكرة نفسها. 

مفارقة يوميات حنا دياب 

لم أتلمس صعوبة حقيقية سابقاً في قراءة كتاب ما، وأقصد هنا فك شيفراته، ولا أقصد معاني الكلمات التي تستعصي، بل نطق الكلمات داخل رأسي لقراءتها، فالصوت الداخلي لدي معتاد على أي نص، فأنا كغيري، نقرأ بالفصحى، ونكتب بالفصحى، فيما العامية منطوقة فقط، حتى التفكير يتحرك بين العامية والفصحى التي تطغى قليلاً، وكأن الأخيرة لها سلطة على “العقل” نفسه، تحده وتثبت علاقاته المنطقية. 

صدر مؤخرا عن المكتبة العربيّة في أبو ظبي “كتاب السياحة” لحنا دياب، المخطوط الذي ألف عام 1763 كان محفوظاً في مكتبة الفاتيكان، حتى اكتشافه وتحقيقه ونشره للعلن في مجلدين، يحكي فيهما دياب رحلته من سوريا إلى فرنسا. لا يمكن تجاهل هكذا كتاب لأنه يدور حول إحدى الشخصيات التي يظن أنها ألفت بعض حكايات ألف ليلة وليلة، بصورة أدق، يقال إن دياب التقى المستشرق الفرنسي أنطوان غالان عام 1709 وألقى على مسامعه حكايات أدرجها غالان لاحقاً في ألف ليلة وليلة، منها علاء الدين، وعلي بابا والسندباد. 

ما إن وصلني الكتاب حتى بدأت بتلمس أسطره الأولى، وكلمات كيليطو ترن في رأسي، نحن أًصحاب لسان ولغة نستطيع أن نقرأ كل ما كتب بها، لكن هذا لا يهم الآن، أنا أمام كنز يلبي فضولي، أبدأ القراءة،  وأمر على مقدمة “كتاب السياحة” التي تشير إلى أنه كتب بلغة متوسطة، تجمع العربية الفصيحة والعامية وأصواتها وعاداتها الكتابية، ولا يجب النظر إلى هذ المزج كأغلاط لغويّة، إذ حافظ محققو الكتاب على النص الأصلي دون تعديل.  

 بدأت بالقراءة لكنها استعصت عليّ، لماذا؟ هكذا يُفتتح الكتاب: “…. مايدتهم غير الرهبان والمبتدين لا غير فاستقمنا تلك الليله في المنزول الي الصباح وبعدما حضرنا القداس فارسل الريس دعانا الى قلايته فبعدما قبلنا اياديه استرحب فينا وامرنا بالجلوس وبعده فصار يسالنا انكان لنا نية الرهبنة…”، رد فعلي الأول، ما هذه الطلاسم! أين علامات الترقيم؟ ما هذه الكلمات التي أعجز عن ضبط تدفقها؟ 

كررت القراءة ولاحظت أن “صوتي الداخلي” يحاول أن ينطق بالفصحى، يحاول التشكيل وتقطيع الجمل وضبط الكلمات كما أعرفها بالفصحى، حاولت مرة أخرى وأتت النتيجة ذاتها. قرأت الكلمات فرادى بالفصحى، دون القدرة على جعلها تتدفق، وبعد محاولات، تدخلت السخرية. الكتاب يتحرك بين الفصيح والعامي، حسناً، الفصيح أعرفه، لكن أي عامية هذه؟ المصادفة أن حنا دياب من حلب، ونظرياً لا بد أن يتحدث اللهجة الحلبية، تلك التي لا أدعي إتقانها، بل أحاول تقليدها، ما يعني أن عامية الكتاب هي الحلبيّة، هنا غيّرت صوتي الداخلي بقرار واعٍ، أتهجى الكلمات وادفّق الجمل وأقطّعها بناء على نبرة وموسيقا اللهجة الحلبية بعد ثوان، تدفقت الكلمات، وكشفت حل شيفرة مُلغزة، حينها فقط، بدأت بـ”قراءة” الكتاب. 

الصوت الداخليّ- “صوت العقل” إن أردنا التهكم- نتاج سياسي ثقافي، خصوصاً أننا في العربية نكتب لغة قياسية (الفصحى الحديثة) ونتحدث لهجة لا تملك شكلاً مكتوباً، لن نشير إلى الهوة بين المكتوب والمنطوق، ولا إلى غراماتولجيا جاك ديريدا والأصل الديني للغة المكتوبة، لكن تجربة كهذه، مثيرة للاهتمام، وتدفعنا لإعادة النظر بالصوت الداخلي، وسوء الفهم الحتمي الناتج عن سوء تفسير الكلمات، لكن اللافت، أن الكتابة بـ”اللهجة المنطوقة” وربما هذا رأي شخصي، يجعل الكلمات أقل إشكالية، وكأن المكتوب بالعامية أوضح، لا نقارنه إلا بما يقوله الفرد، لا بالنصوص الأخرى الفصيحة التي تشكل تاريخ الكتابة. هنا مفارقة مثيرة للاهتمام، هل العامية أوضح؟ وأقل إشكاليّة؟ هل  تطابق حركة اللسان أثناء النطق مع أصوات الكلمات في الصوت الداخلي ينفي عنها اللبس المفترض، ذاك الذي يظهر بالكتابة الفصيحة؟ لا أملك جواباً. 

حاولت نشر مقال عن هذا الموضوع ومفارقة اللهجة الحلبيّة، كان يفترض أن يُكتب باللغة الانكليزيّة، لكنه رُفض مع سبب مقنع، من لا يتقن العربية واللهجة الحلبية لن يتمكن من تلمس ما أقوله بدقة، اكتشفت لاحقاً أن مقاربة الصوت الداخلي ذات مرجعيات طبيّة لا أمتلك ما يكفي من المعرفة لفهمها. أما في الشأن الثقافي، فما وصلت إليه ليس إلا مجموعة اقتباسات شعرية ونحويّة، لا تفيد بكيفية بناء هذا الصوت، سوى أنه اللغة الرسمية والمتداولة والأكثر فهماً لقرّاء العربية، تتخللها التحليلات الدينية والوطنية، لكن ما يمكن قوله، أن عامية حنا دياب، ومفارقة اللهجة وكيفية كتابتها، تدفع لإعادة النظر بفرضيات عبد الفتاح كيليطو صاحب “لن تتكلم لغتي”، إذ وجدت نفسي محتاراً أمام الكتاب، وكأنني “لا أقرأ إلا لغتي المكتوبة بالفصحى”. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.