fbpx

الأرباح تفوق الغرامات: انتشار عالمي للتسويات القضائيّة في جرائم رشاوى الشركات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
ICIJ

على مدى العقدين الماضيين، تزايد عدد الدول التي أبرمت اتفاقات متساهلة مع شركات متهمة بانتهاك قوانين مكافحة الرشوة أو غيرها من قوانين الفساد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سيدني فريدبرغ وكاري كيو وأغوستين أرمينديريز

حققت شركة “نوفارتس إيه جي” (Novartis AG) السويسرية – التي تروّج لأدوية ثورية لعلاج السرطان والأمراض النادرة- نجاحاً هائلاً، وأصبحت  أكبر شركة أدوية من حيث الأرباح على وجه الأرض. وخلال هذا العام فحسب، تضاعفت أرباح شركة “إيني إس بي إيه” (Eni SpA) الإيطالية، التي تعد واحدة من أكبر سبع شركات نفط في العالم، بواقع خمسة أضعاف، وذلك نتيجة لارتفاع أسعار الوقود. أما البنك الألماني (أو دويتشه بنك) – المعروف بعلاقاته القوية مع بعض السياسيين وأفراد من العائلة المالكة والأوليغارشية – فقد حقق في الفترة الأخيرة زيادة في أرباحه الربع السنوية للمرة التاسعة على التوالي، وهو ما يمثل تحولاً كبيراً بعد سنوات من الخسائر.

تتميز هذه الشركات الثلاث بأمر آخر بخلاف امتلاك القوة وتحقيق الأرباح العالية، وهو أ نها جميعاً كانت متورطة في عمليات رشوة أو متهمة بدفع أموال لمسؤولين حكوميين وغيرهم لكسب صفقات تجارية مربحة. على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية، قدمت وعوداً بالإصلاح وعدم تكرار هذه المخالفات، وقد دفع كلّ منها غرامات لتسوية القضية مع التهديد بتصعيد الإجراءات القانونية في حال عدم الوفاء بهذه التعهدات.

لكن هذه التسويات لم تمثل نهاية الإجراءات القانونية المتخذة ضد أيٍّ من هذه الشركات. فقد اتهمتها السلطات الأميركية بالانخراط في عمليات رشوة أو تقديم أموال غير مشروعة مجدداً، أحياناً في غضون بضع سنوات فحسب.

فقد سوت شركة “إيني” قضية ثانية، وسوت “نوفارتس” قضيتين أخريين ثم قضية ثالثة. وأفلت البنك الألماني من الملاحقة القانونية أربع مرات – على خلفية تُهم تتعلق بتقديم الرشاوى والتهرّب الضريبي والاحتكار- وسوّى قضية خامسة مع هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. وخلال هذا العام، اعترف البنك أنه لم يبلّغ وزارة العدل في الوقت المناسب عن مزاعم بارتكاب مخالفات جديدة، وهو ما يُعد انتهاكاً آخر. إذاً ماذا كان العقاب؟ قرر المدعي العام تمديد فترة مراقبة الامتثال المؤسسي لمدة عام تقريباً.

يرجع السبب الأساسي في تلك الموجة من معاودة الشركات ارتكاب المخالفات والجرائم نفسها، إلى استراتيجية الإنفاذ المُختلَقة من الولايات المتحدة، وهي استراتيجية ذات سجل سيئ في ردع جرائم الشركات. إذ تعرض السلطات الأميركية عادةً، صفقة على الشركات المتهمة بارتكاب مخالفات تتعلق بالفساد، تتمثل في الآتي: دفع غرامة أو قبول عقوبة رقابية أو كلاهما، وإجراء إصلاحات مؤسسية وتقديم وعود بأن تكون شركة جيدة لا تخالف القانون وتخدم المصلحة العامة في المستقبل.

واجهت التسويات- التي تفصل في الدعاوى المدنية والجنائية على حدٍ سواء- انتقادات لاذعة من أكاديميين وقضاة فيدراليين وغيرهم من دعاة الإصلاح، لكن تلك الصفقات المتساهلة المستلهمة من الاستراتيجية الأميركية بدأت تغزو العالم، وفقاً لتحقيق أجراه “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” بالتعاون مع شركاء إعلاميين في 11 دولة.

في القضايا الجنائية، تُعتبر التسويات التفاوضية، المعروفة في الولايات المتحدة بأنها اتفاقات مقاضاة مؤجلة وعدم ملاحقة قانونية، أسهل بكثير من الخوض في تعقيدات المحاكمة وأقل تكلفة بكثير أيضاً على الدولة. وهو ما أدى إلى سيل من التسويات والتعويضات المالية التي يعتبرها المدعون العامون والهيئات الرقابية دليلاً على نجاحهم في مكافحة الفساد في العالم.

خلال العقدين الماضيين، تفاوض المدعون العامون والهيئات الرقابية في 30 بلداً، مع 265 شركة على الأقل لإجراء تسويات في ادعاءات تتعلق بتقديم الرشاوى وغيرها من مزاعم الفساد، وهو ما ترتب عليه جني 34.9 مليار دولار من الغرامات والعقوبات المالية الأخرى، وفقاً لنتائج بحث “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”.

وشهدت الغرامات المالية ارتفاعاً كبيراً، ففي عام 2000 بلغت قيمة أكبر تسوية 844 ألف دولار، لتصبح 2.5 مليار دولار في عام 2020، وفقاً لبيانات دققها “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”.

على مدى العقدين الماضيين، تزايد عدد الدول التي أبرمت اتفاقات متساهلة مع شركات متهمة بانتهاك قوانين مكافحة الرشوة أو غيرها من قوانين الفساد. من خلال عقدها هذه الصفقات، تُغرِّم تلك الدول الشركات المتورطة من دون محاكمتها أو السعي إلى اتخاذ أيّ إجراءات قانونية أخرى ضدها. وقد قدمت تلك البلدان تقارير عن هذه الاتفاقات التي لا تنطوي على محاكمات إلى “مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة” في عام 2021.

يقول منتقدو هذه الاتفاقات أنها لم تحل دون تورط الشركات في أسوأ أنواع الانتهاكات- بل وربما شجعت ضمنياً عليها- بما في ذلك تقديم رشاوى إلى موظفين حكوميين في بلدان أجنبية، وهو ما يقوض سيادة القانون ويُضعف الديمقراطية.

وجد التحقيق الذي أجراه “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أن عيوب النظام الأميركي بدأت تظهر في بلدان أخرى لجأت إلى الاتفاقات التفاوضية. تتضمن أوجه القصور تلك: افتقار الغرامات والتعويضات المالية إلى أيّ أثر رادع فعلي، وإفلات الأشخاص المتورطين من المساءلة، والتصرفات السيئة التي تنتهجها الشركات التي تواصل الفوز بالصفقات العامة، وتمادي الشركات ذات الإمكانات المالية الضخمة التي تنتهك القانون مرة بعد الأخرى.

في بداية كانون الأول/ ديسمبر 2022، توصلت مجموعة “إيه بي بي”، وهي مجموعة شركات سويسرية متخصصة في مجال تكنولوجيا الطاقة والروبوتات، إلى تسوية على خلفية ادعاءات رشوة تتعلق بصفقات محطة كهرباء في جنوب أفريقيا. ويقول الخبراء إنه بعد هذه التسوية التي تبلغ قيمتها 327 مليون دولار، والتي أُبرِمت بين شركة “إيه بي بي” والسلطات الأميركية والسويسرية والجنوب أفريقية، أصبحت الشركة التي يقع مقرها الرئيسي في زيوريخ، أول شركة تنتهك قوانين مكافحة الرشوة في الولايات المتحدة لثلاث مرات.

وقال بيتر رايلي، أستاذ القانون في “جامعة تكساس إيه آند إم”، إن “انتشار تلك التسويات الأميركية الطراز أمر مقلق للغاية، لأنها تؤدي إلى تقويض سيادة القانون، وتجعل الحكومات عاجزة عن أداء مهمتها في حماية مواطنيها، وهو أمر لا يزعزع أسس العدالة الرئيسية فحسب، بل ويضعف أيضاً النظام الديمقراطي في نهاية المطاف”.

وأضاف رايلي، أنه بالنسبة الى الشركات التي ترتكب انتهاكات، “فإن الإفلات من هذا المأزق القانوني يشبه دفع غرامة على تجاوز السرعة”.

تمكن “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” من تحديد 34 شركة – جاءت 21 شركة منها ضمن قائمة “فورتشن غلوبال 500”- سوّت قضايا تتعلق بمزاعم رشوة أو احتيال خلال العقدين الماضيين، لِتنتهك القانون مجدداً، غالباً بعد بضع سنوات فحسب.

في شباط/فيراير، كشف “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” وشركاؤه الإعلاميون، أن شركة الاتصالات السويدية “إريكسون” أجرت تحقيقاً داخلياً حول ممارسات الفساد التي دامت لسنوات في العراق، ويشتمل ذلك على احتمالية دفع رشاوى لإرهابيين في تنظيم الدولة الإسلامية. كان هذا التحقيق لا يزال في طور الإعداد عام 2019، عندما تفاوضت الشركة على اتفاق مع حكومة الولايات المتحدة بلغت قيمته مليار دولار لتسوية ادعاءات الرشوة في ستة بلدان أخرى.

بعد أيام من نشر تحقيق “قائمة إريكسون” (Ericsson List) الذي أعده “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أرسلت الولايات المتحدة للشركة لتخبرها أنها انتهكت الاتفاقية مجدداً، وهو ما يعد الانتهاك الثاني في أقل من ستة أشهر.

هذا النمط من إعادة ارتكاب المخالفات والانتهاكات ذاتها هو ما دفع “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” إلى التدقيق في التسويات التي تُجرى مع الشركات.

يقول المدافعون عن اتفاقات المقاضاة المؤجلة وغيرها من التسويات التفاوضية، إنها توفر على الحكومات الوقت والنفقات اللازمة لجمع الأدلة الضرورية لمحاكمة الشركات الثرية، مع تحميلها في الوقت ذاته المسؤولية عن أخطائها. تعكس الصفقات أيضاً حقيقة واقعية في نظام العدالة: وهي أن غالباً ما يتفوق محامو الشركات الذين يتلقون أجوراً سخية ولديهم موارد هائلة تحت تصرفهم، على نظرائهم الحكوميين. 

ويقول مؤيدوها أن الاتفاقات التفاوضية يمكن أن تحمي الشركات من السمعة السيئة مع ضمان حقها في الحصول على الصفقات العامة. وفقاً لتقرير صدر عام 2019 عن التسويات التي لا تنطوي على محاكمات، قالت الحكومة النرويجية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن “أحد الدوافع الواقعية في هذه المسألة هو أن القضية تُحل بسرعة من دون الحاجة إلى إجراء محاكمات طويلة ومكلفة، أو اللجوء إلى الدعاية التي قد تترتب على مثل هذه الإجراءات القانونية”.

وقال بيتر سولمسن، وهو محامٍ يترافع عن الشركات وساعد في كتابة مبادئ توجيهية دولية لاتفاقات تفاوضية وعمل سابقاً مستشاراً عاماً لدى شركة “سيمنز أيه جي” (Siemens AG)، أنه عندما يتعلق الأمر بالشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات، فإن “تطبيق القوانين بالأسلوب التقليدي” لا يجدي نفعاً. مضيفاً، “ما النتيجة التي نرغب في تحقيقها؟ إذا أردنا أن تلاحق الشركات الفساد بفعالية وأن توقف نشاطات الفساد عندما تعثر عليها وأن تبلغ الشرطة عن الفساد الموجود، فإن الآلية الممكنة الوحيدة هي الحلول التي لا تتضمن محاكمات مع حوافز فاعلة”. إضافة إلى أن التسويات التفاوضية أفضل من عدم اتخاذ أيّ إجراء قانوني على الإطلاق، مثلما يصر المؤيدون. فقد ذكر تقرير صدر مؤخراً عن “منظمة الشفافية الدولية” أن دولاً عديدة، من بينها قوى عظمى مثل الصين واليابان والهند، تطبق إجراءات قانونية محدودة في حالة تقديم رشاوى إلى جهات أجنبية، هذا إن اتخذت أيّ إجراء من الأساس.  

قال ديلان فيليبس، وهو محام متخصص في الدعاوى المدنية سبق أن عمل في قضايا تتعلق بالامتثال المؤسسي، أن الشركات تنظر غالباً إلى الاتفاقات المتساهلة باعتبارها مجرد تكاليف ناتجة من ممارسة الأعمال التجارية. مضيفاً أنه بالنسبة الى الشركات، “إذا دفعت للحكومة، فإنك لن تتعرض للملاحقة القضائية في غالبية الأحيان. من وجهة نظري، تشبه هذه التسويات الرشاوى التي يحظرها القانون”.

‘مجبر لا مؤيد’

يُطلق على هذه التسويات في البرازيل اسم “accordos de leniencia” أو الاتفاقات التساهلية.  وفي سويسرا، تعتبر غرامات جزائية مستعجلة. وتسمى في إيطاليا “patteggiamento”، أو مساومات تخفيف العقوبة. وينظر إليها في كندا على أنها اتفاقات إصلاحية. أما في بريطانيا وسنغافورة، فتعرف بأنها اتفاقات مقاضاة مؤجلة.

تختلف الصفقات في التفاصيل، لكن جميعها يشير إلى تسويات تم التوصل إليها عبر مفاوضات مغلقة بين الشركات والمدعين العامين، وليست عقوبات ناتجة من محاكمات علنية.

انتقد عدد متزايد من الأكاديميين والقضاة والسياسيين في الولايات المتحدة وزارة العدل لسماحها لشركات كبرى متّهمة بارتكاب انتهاكات قانونية ومديريها التنفيذيين، بالإفلات من المساءلة من خلال دفع المال.

في عام 2018، أعرب القاضي لويس كابلان عن انزعاجه من اتفاقات المقاضاة المؤجلة، لكنه قال إن سلطاته المحدودة لا تسمح له بالاعتراض عليها.

وأضاف كابلان، الذي كان يشرف على الجهود التي تبذلها شركة “يو إس بانكورب” القابضة للخدمات المصرفية لتجنب الملاحقة القضائية على خلفية تُهم تتعلق بغسيل الأموال، أن “الردع والعقوبة العادلة يتحققان على أكمل وجه في كل أو معظم القضايا من خلال محاكمة الأفراد المتورطين. لكني مجبر على إبرام تلك التسويات، سواء ارتضيت أم لا”.

من منطلق اعترافها بانخفاض عدد الدعاوى الجنائية ضد الشركات، أعلنت مسؤولة كبيرة في وزارة العدل مؤخراً، عن سياسات تهدف إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد من ينتهكون القانون أكثر من مرة، ومحاسبة المسؤولين التنفيذيين المتورطين وغيرهم من الأفراد.

فقد قالت ليزا موناكو، نائبة المدعي العام الأميركي، في خطاب بجامعة نيويورك في أيلول/سبتمبر، “نحتاج إلى فعل المزيد والتحرك في شكل أسرع. إذا كانت هناك أيّ شركة لا تزال تعتقد أن التسويات الجنائية ما هي إلا ضريبة عن ممارسة الأعمال التجارية، فلدينا رسالة لها: الأوضاع تغيرت”.

لكن حتى الآن، تشير السجلات إلى أن لدى الشركات سبباً وجيهاً يدعوها إلى الاعتقاد بأنها لا تزال قادرة على إيجاد طريقة تبقيها في مأمن من المتاعب.

تظهر البيانات التي أعدها “مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة”، وحللها “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أنه منذ عام 2000، أبرمت الولايات المتحدة اتفاقات تسوية في عدد كبير من القضايا (360 قضية)، وقد بلغ مجموع ما حصدته من الغرامات وغيرها من التعويضات المالية الأخرى المتفق عليها 17.2 مليار دولار. في حين جمعت البرازيل وهولندا والمملكة المتحدة وفرنسا أكثر من 13.5 مليار دولار من التعويضات المتفق عليها.

شجّع انتشار مثل هذه التسويات على زيادة سرّيتها. بعد الاطلاع على بعض الاتفاقات والتقارير الخاصة بمراجعة الحسابات ودراسة تضمنت أكثر من 40 دولة أجرتها نقابة المحامين الدولية، وجدنا أن معظم البلدان لا تكشف عن نصوص هذه التسويات التي دائماً ما يجري التفاوض عليها خلف الأبواب المغلقة.

وفقاً لتقديرات “معهد البنك الدولي”، فإن إجمالي رشاوى الشركات المدفوعة سنوياً في مختلف أنحاء العالم، يبلغ نحو مليار دولار. ويقول الخبراء في مكافحة الفساد أن الرشوة هي أكبر عائق أمام الدول النامية التي تعاني لتوفير تكاليف تشييد الطرق والمدارس ومنشآت الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات العامة. أضف إلى ذلك، أن الرشوة وغيرها من أشكال الفساد تقوّض ثقة الشعب في الحكومة.

بعدما أدى تحطم طائرتين من طراز “بوينغ 737 ماكس” إلى مقتل 346 شخصاً في عامي 2018 و2019، حاول المحققون الفيدراليون معرفة سبب سقوط الطائرتين من السماء في شكل عمودي. لكن موظفي الشركة، الذين أخفوا عيوب التصميم، ماطلوا ورفضوا التعاون مع المحققين.

في كانون الثاني/الثاني من عام 2021، سمح المدعون العامون لشركة الطيران العملاقة بالإفلات من تحقيق جنائي في الاحتيال والتستر على جريمة من خلال إبرام اتفاق لتأجيل المقاضاة ودفع تسوية بلغت 2.5 مليار دولار، تضمنت 243.6 مليون دولار غرامة على الشركة، و1.77 مليار دولار تعويضات مالية لعملاء الطائرة “بوينغ 737 ماكس”، و500 مليون دولار لصندوق تعويضات ضحايا حادثتي التحطم.

غضبت أسر الضحايا عندما علمت بهذه الصفقة المتساهلة، وقالت أنه كان ينبغي على السلطات استشارتها. وأرادت إلغاء الاتفاق، ومساءلة شركة “بوينغ” وكبار مسؤوليها التنفيذيين في محاكمة علنية.

“أول ما خطر في بالي، هو أنهم رشوا بعض الأشخاص”، هكذا قال كريس مور، الذي يعمل في مجلس التعليم بِتورونتو، والذي فقد ابنته دانييل (24 عاماً) في حادث تحطم الطائرة “بوينغ 737 ماكس” المتجهة إلى نيروبي، كينيا، فور إقلاعها من مطار أديس أبابا في إثيوبيا، في مارس/آذار 2019.

مضيفاً، أن “الحادث الذي أودى بحياة ابنتي كان بسبب أكبر عيب صناعة في القرن، خطأ واضح تنص كل المراجع على تجنّبه. ثم أفلتت شركة “بوينغ” من العقاب باتفاق سريّ مجمع وغرامة زهيدة”.

من محاكم الأحداث إلى جرائم الشركات 

بدأ العمل باتفاقات المقاضاة المؤجلة في مدينة بروكلين في ثلاثينات القرن الماضي، باعتبارها وسيلة لمنح القاصرين المدانين فرصة ثانية. فقد كان المدعي العام يُسقط التهم عن الحدث إذا أكمل برنامج إعادة التأهيل بنجاح.

وفي السبعينات، سعى المدعون العامون إلى زيادة إجراءات تطبيق قوانين مكافحة الفساد في الشركات المتعددة الجنسيات في إطار موجة إصلاحات في فترة ما بعد فضيحة ووترغيت. لهذا، أقر الكونغرس في عام 1977 قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، الذي يحظر على المواطنين والكيانات الأميركية تقديم رشوة إلى مسؤولين حكوميين أجانب لتحقيق مصالحهم التجارية. دخل القانون حيز التنفيذ الفعلي بعد توقيع معاهدة دولية في باريس عام 1997 لمكافحة الرشاوى المدفوعة لموظفين حكوميين أجانب.

بعد أزمة المدخرات والقروض في ثمانينات القرن الماضي، أُدين مئات من المصرفيين بالاحتيال وأُرسلوا إلى السجون. وبالمثل، بعد فضائح شركات “إنرون” و”وورلد كوم” و”تايكو” في العقد الأول من الألفية الجديدة، ظهر الرؤساء التنفيذيون لتلك الشركات مكبلين أمام الكاميرات في تقليد يعرف في أميركا “بممشى الخزي”، حيث تصطحب الشرطة الجناة في مكان عام مما يشكل فرصة لوسائل الإعلام لالتقاط صور ومقاطع فيديو للحدث، وذلك قبل أن يُحكم عليهم في نهاية المطاف بالسجن لفترات طويلة. 

بدأت حدة النهج الصارم في التعامل مع جرائم الشركات في التراجع في عام 2002، بعد واقعة عملاقة المحاسبة القانونية “آرثر أندرسن”، التي وُجدت مذنبة بتهم فيديرالية متعلقة بتدقيقها لشركة “إنرون” ودورها في تلك الفضيحة. حينها، وصفت المنافذ الإخبارية لائحة الاتهام، التي دفعت العملاء إلى الفرار (ما أدى إلى خسارة 85 ألف وظيفة)، بأنها تشبه الحكم “بالإعدام” على الشركة، وعندما ألغت المحكمة العليا الحكم في عام 2005، كان عمل الشركة قد توقف بالفعل منذ فترة طويلة.

أدى انهيار شركة “أندرسن” – عقب إدانتها واستبعادها من عمليات المناقصة على الصفقات العامة – إلى إثارة ضجة سياسية في شأن ما وصفه المنتقدون بأنه تجاوز من الادعاء العام. ونتيجة لما يسمى “بتأثير أندرسن”، تبنت وزارة العدل – التي تشعر بالذنب – نهجاً أقل صرامةً تجاه جرائم الشركات. وعليه، فإن الوسيلة المصممة في الأصل لمساعدة الشباب المحرومين في مدينة بروكلين، باتت تُطبق على الشركات متعددة الجنسيات.

في الفترة بين عامي 2002 و2022، أبرمت وزارة العدل أكثر من 440 اتفاق مقاضاة مؤجلاً وعدم ملاحقة قانونية في انتهاكات تتعلق بتقديم الرشوة وغيرها من الجرائم التي تتعلق بالفساد. لكن خلال هذين العقدين الماضيين، ووفقاً لمشروع سجلات المقاضاة الخاصة بالشركات – وهي عبارة عن قاعدة بيانات على الإنترنت أنشأها براندون غاريت من “جامعة ديوك”، وجون آشلي من “جامعة فيرجينيا”- كان عدد هذه الاتفاقات أقل من 12 اتفاقاً بالفعل.

تسويات قضايا فساد الشركات التي تبرمها السلطات الأميركية

أبرمت الولايات المتحدة اتفاقات مقاضاة مؤجلة واتفاقات عدم ملاحقة قانونية أكثر من أي دولة أخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية.

بموجب اتفاقات المقاضاة المؤجلة، عادة ما يدين المدعون الشركة المخالفة بارتكاب جريمة، لكنهم يوافقون على إسقاط التهم مقابل دفع الشركة غرامات وتعاونها مع السلطات وإجرائها إصلاحات مؤسسية. وفي بعض الأحيان، تقر إحدى الشركات الفرعية بالذنب، وهو ما  يحافظ على سمعة الشركة الرئيسة ويبعد منها وصمة الإدانة الجنائية.

أما في حالة اتفاقات عدم الملاحقة القانونية، يوافق المدعون العامون على عدم اتهام الشركة بأيّ شيء على الإطلاق مقابل تعاونها مع السلطات ودفع غرامات مالية. وعادة، لا يتم التوصل إلى هذه الاتفاقات في المحكمة. 

تدريجياً، أصبح “تأثير أندرسن” – أيّ هذا الإحجام الجديد للمدعين العامين عن وضع لوائح اتهام وتقديم الشركات إلى المحاكمة – واضحاً. ففي عام 2005، اعترفت شركة “كيه بي إم جي” الدولية المحدودة، التي تعتبر واحدة من كبرى شركات المحاسبة في العالم، بجنيها ما لا يقل عن 2.5 مليار دولار من التهرب الضريبي. وصف المدعون القضية بأنها أكبر قضية تهرب ضريبي على الإطلاق، لكنهم مع ذلك أبرموا معها اتفاق مقاضاة مؤجلاً، مقابل دفع الشركة 456 مليون دولار على هيئة غرامات وتعويضات وغيرها من العقوبات المالية الأخرى، مع تقديم وعد بعدم انتهاك القانون مجدداً.

وعلى مدار الخمس عشرة سنة التالية، تلقت شركة “كيه بي إم جي” توبيخاتٍ وعقوباتٍ من خمس دولٍ على الأقل. في إحداها، دفعت الشركة 9.65 مليون دولار للسلطات الهولندية لتسوية اتهامات تتعلق بمساعدتها شركة إنشاءات هولندية في التستر على مدفوعات مشبوهة. في حين تنوعت الادعاءات الأخرى ما بين التلاعب في عمليات التدقيق الحسابية و”سوء السلوك المهني الجسيم” من خلال مراجعة حسابات شركات تخضع للتحقيق في مزاعم تقديم رشاوى. 

طوال هذا الوقت، واصلت الشركة الفوز بصفقات عامة في الولايات المتحدة، فقد حصلت على ما لا يقل عن 3 مليارات دولار من العقود الفيدرالية في الفترة بين عامي 2008 و2022، من بينها عقد عمل مربح مع وزارة العدل.

بدأ الانتشار العالمي للصفقات المتساهلة مع الشركات في عام 2008، عندما تعاونت ألمانيا، التي كانت تشهد سلسلة من فضائح الفساد، مع وزارة العدل الأميركية لتسوية تهم بتقديم رشوة تخص شركة “سيمنز إيه جي”. فقد اتهم الادعاء العام عملاقة الهندسة الكهربائية الألمانية باستخدام أموال غير مشروعة وشركات وهمية لإخفاء 4 آلاف رشوة، بإجمالي 1.4 مليار دولار، وذلك للفوز بصفقات في خمس دول.

وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، وافقت “مجموعة سيمنز” والشركات الفرعية التابعة لها في بنغلاديش والأرجنتين وفنزويلا، على دفع 800 مليون دولار إلى الولايات المتحدة و813 مليون دولار إلى الادعاء العام الألماني، كما وافقت “سيمنز” أيضاً على دفع 421 مليون دولار لأربع دول أخرى – هي إيطاليا وسويسرا ونيجيريا واليونان – و100 مليون دولار للبنك الدولي.

تعهدت الشركة بعدم ارتكاب “أيّ جرائم أخرى” وإجراء إصلاحات داخلية. في المقابل، وافق الادعاء العام على عدم استخدام المعلومات التي جُمعت خلال التحقيق لإقامة دعوى جنائية.

قاد سولمسن، المحامي الأميركي الذي يدعم التسويات التفاوضية، الفريق القانوني لشركة “سيمنز” خلال فضيحة الفساد التي امتدت من عام 2007 إلى 2013. وقال إن الهدف الرئيس للشركة خلال هذه المرحلة كان تجنب “الحرمان”، أو حظرها من الحصول على صفقات حكومية أميركية أو أوروبية. “ونجحت في تحقيق ذلك”.

فقد تمكنت “سيمنز” من الفوز بصفقات حكومية أميركية وأوروبية تقدر بنحو 14 مليار بعد صفقات عام 2008، مثلما تُظهر السجلات.

وأوضح سولمسن أن شركة “سيمنز” والشركات الفرعية التابعة لها، أنفقت ملايين الدولارات لتحسين أداء رؤسائها التنفيذيين وسعت جاهدة الى تحسين الربحية، وبالتالي اكتساب حصة في السوق. مضيفاً أن شركة “جنرال إلكتريك”، المنافسة الرئيسة لشركة “سيمنز”، ادعت أنها عانت بسبب الرشاوى التي قدمتها الأخيرة. فقد أعرب نائب رئيس “جنرال إلكتريك” عن أسفه لسولمسن بعد فترة وجيزة من التسوية، قائلاً: “لقد نجوتم بفعلتكم من دون عقاب”.

كشفت  قضية شركة “سيمنز”، التي وُصفت بالتاريخية، مدى ضعف اتفاقات المقاضاة المؤجل من ناحية ردع جرائم الشركات.

كشفت صحيفة “زود دويتشه تسايتونج”، الشريكة الإعلامية “للاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، في وقت لاحق، أن المدعين العامين في الصين رفعوا عشرات الدعاوى القضائية بتهمة الرشوة ضد موزعي أجهزة سيمنز الطبية بين عامي 2004 و2014، أيّ في الوقت الذي كانت الشركة تتفاوض خلاله على تسويتها، وفي السنوات التالية، بينما كانت الشركة تخضع للإشراف الرقابي. وتناولت الصحيفة الصفقات السرية، ومن بينها الصفقات التي أبرمتها مع مستشفيات صينية اشترت معدات بأسعار مبالغ فيها ودفعت المبالغ للتجار من خلال شركات “الأوف شور”، وتلقت رشاوى مقابل تلك العقود.

أنكرت شركة “سيمنز” المزاعم التي نشرتها الصحيفة الألمانية في شأن الممارسات التجارية غير الشرعية في الصين. 

وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني، قال فلوريان مارتيني، المتحدث الرسمي باسم الشركة، أن “سيمنز” تمتلك برنامج امتثال مؤسسي شامل “يخضع للتحسين المستمر”، لكن حتى أفضل الأنظمة لا يمكنها الحيلولة دون كافة الانتهاكات.

مضيفاً أن الادعاء العام والسلطات الحكومية في ولايات قضائية عدة يواصلون التحقيق في مخالفات شركة “سيمنز” وفي موظفيها الحاليين والسابقين. لكن لم تتضمن هذه التحقيقات أيّ مزاعم من شأنها إلغاء اتفاقات الشركة المبرمة مع السلطات في عام 2008. “تأخذ شركة “سيمنز إيه جي” هذه الادعاءات والتحقيقات والإجراءات القضائية كافة على محمل الجد”.

‘العدالة التجارية’

بعد صفقات شركة “سيمنز” في عام 2008، بدأت دول أخرى في تبني تسويات مع الشركات – على الطراز الأميركي – مع تكثيف عمليات إنفاذ قوانين مكافحة الفساد في مختلف القطاعات وعبر الحدود. لم تكن التسويات وسيلة لخفض تكاليف المحاكمات فحسب، لكنها سدت الطريق أيضاً أمام ما ارتأت دول أخرى أنه مقاضاة أميركية محتملة لشركات غير أميركية. ناهيك عن أنه بات بإمكان الدول الأخرى الآن الحصول على جزء من التسويات المالية.

وجد التحقيق الذي أجراه “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أن عدد الصفقات التساهلية شهد زيادة كبيرة على مستوى العالم خلال العشرين سنة الماضية، ففي الفترة بين عامي 2001 و2005 عقدت 19 شركة فحسب اتفاقات مع 4 دول وبلغت قيمتها الإجمالية 57 مليون دولار، بينما في الفترة بين عامي 2016 و2020 ارتفع العدد إلى 106 شركات، وبلغ إجمالي التعويضات 25.2 مليار دولار مقدمة لنحو 21 دولة.

اكتسبت التسويات التفاوضية مع الشركات زخماً كبيراً في أوروبا أولاً، ثم وصلت أميركا الجنوبية وآسيا. وبدأت اليابان تعتمدها في عام 2018. والآن، يفكر صانعو السياسة في أستراليا وجزيرة جيرسي الصغيرة، التي تقع في القنال الإنكليزي، في تبني اتفاقات المقاضاة المؤجلة. وبات بإمكان المدعين العامين حالياً في الأرجنتين والبرازيل تعليق إجراءات محاكمة أيّ شركة نظير دفع غرامة.

حتى في فرنسا، التي كانت مستاءة مما يُطلِق عليه المسؤولون “عدالة تفاوضية”، استحدثت “اتفاقاً قضائياً لتحقيق المصلحة العامة” بموجب قانونٍ سُمِّي نسبة الى وزير المالية السابق ميشيل سابين.

في مقابلة مع صحيفة “لو موند”، الشريكة الإعلامية “للاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، قال سابين إن السياسة الجديدة كانت ضرورية لإعطاء فرنسا فرصة لمقاضاة عدد أكبر من حالات فساد الشركات. مضيفاً، “صحيح أن ما يسمى بالعدالة التجارية ليس نهجاً مفضلاً في فرنسا [لكننا]… كنا نواجه وضعاً لا يصدق. إذ كانت شركاتنا [تُدان] وتدفع غرامات في بلدان أخرى. والآن بات بإمكاننا محاسبتهم بفاعلية”.

تُظهر السجلات أن فرنسا جنت 4.2 مليار دولار من الغرامات منذ بدء العمل بالقانون قبل ست سنوات.

وفقاً لتحليلات بيانات الأمم المتحدة التي أجراها “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، بلغت أعلى تسوية في بلد يقدم صفقات متساهلة للشركات 2.5 مليار دولار في عام 2020، أيّ عشرة أضعاف مثيلتها قبل سبع سنوات.

في السنوات الأخيرة، كانت الاتفاقات التفاوضية مع الشركات موضع تساؤل لجان مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، وتساءلوا عمّا إذا كان مسؤولو وزارة العدل لم يوجهوا تُهماً جنائية ضد الشركات الكبرى لأنها اعتبرت “أكبر من أن تسجن”. وجد مراجعو الحسابات الحكوميون أن كل ما فعله القضاة هو إعطاء الموافقة الروتينية على هذه الصفقات، وهو ما يعني أن الإشراف القضائي كان غير مجدٍ.

يعتقد المنتقدون أن الحكومة الأميركية تنظر إلى اتفاقات المقاضاة المؤجلة باعتبارها منجم ذهب، ولا تريد أن تُعرِّض تدفق الإيرادات هذا للخطر. أشاروا أيضاً أن بعض المستفيدين الآخرين هم محامو الشركات والمحققون والمراقبون المعينون من المحكمة للإشراف على الشركات أثناء فترة مراقبة الامتثال، والذين يجمعون رسوم بملايين الدولارات نظير عملهم.

ذكرت شركة “وول مارت” مثلاً، أنها أنفقت أكثر من 900 مليون دولار على التحقيقات الداخلية ومراقبة الامتثال و”التحسينات التنظيمية”، وذلك لتسوية قضية رشوة كبيرة ترجع إلى عام 2019، أيّ ثلاثة أضعاف ما دفعته في الغرامات والتعويضات المالية الأخرى.

وقالت “وول مارت” أن الأموال التي تُصرف لضمان الالتزام بالأخلاقيات المؤسسية والامتثال تجسد حرص الشركة على “ممارسة الأعمال التجارية بالطريقة الصحيحة”.

لكن يرى المنتقدون أن أكبر الفائزين هنا هو الشركات نفسها. كانت “وول مارت” تتصدر “قائمة فورتشن 500” عندما عقدت صفقة عدم ملاحقة قضائية مع السلطات الأميركية لدفعها رشاوى للفوز بتصاريح فتح مخازن ورخص عمل في المكسيك والهند والبرازيل والصين. فقد بلغت نسبة ما دفعته “وول مارت” من تعويضات 4 في المئة فحسب من أرباحها لعام 2019.

عدالة في الظل

تتميز المفاوضات حول مخالفات الشركات المزعومة، بوجود فرقٍ من المدعين العامين ومحامي الدفاع الذين يتباحثون سراً في تفاصيل الغرامات والتهم وحتى صياغة البيانات الصحفية.

هذه هي المرحلة التي “تطبخ فيها الاتفاقات” لتحقيق العدالة للشركات، على حد تعبير شركة “ويلمر هال” للمحاماة في ورقة إحاطة للعملاء.

وشبَّه محامٍ ألماني العملية بأنها مثل “بازار تركي”، يختلط فيها الحابِل بالنّابل.

في العادة، يفكر المتخصصون والمدعون العامون والمحامون، متفقين، في إعداد التسويات للشركة وصياغتها، وغالباً ما يكون أولئك الأشخاص مدعين عامين سابقين.

خلال المفاوضات، ربما يبدي المدعون “بعض اللين” لتشجيع الشركات على الإفصاح طوعاً عن المخالفات، لهذا – استجابةً لذلك – ربما تعرض الشركات من خلال محاميها تمويل التحقيقات الداخلية المكلفة وإعداد تقارير وعروض تقديمية تتناول عمليات الرشوة. وفي حال انهيار المحادثات، فإن ذلك قد يتطلب اجتماعاً حتى وقت متأخر من الليل لإدارة الأزمة.

تتضمن الصفقات في معظمها تسوية نقدية، والتي يمكن أن تكون على هيئة غرامات أو تبرعات خيرية أو سداد ضرائب متأخرة أو دفع أرباح بعض المشاريع غير الشرعية.

كشفت شركة “ويلمر هال” مؤخراً عن تفاصيل مفاوضات سرية بين عميل -عملاقة التجارة والتعدين “غلينكور إنترناشونال إيه جي”- ومدعين عامين أميركيين وبريطانيين وبرازيليين، كانوا يحققون في شأن حملة رشاوى مهولة في مختلف بلدان القارة الأفريقية والبرازيل وفنزويلا.

في إحدى الحالات – تحديداً في جمهورية الكونغو الديمقراطية – دفعت شركة “غلينكور” رشوة لقاضٍ لشطب دعوى قضائية بقيمة 16 مليون دولار. وهي دعوى رفعها طبيب وزوجته كانوا يقدمون الرعاية الصحية لعمال المناجم وعائلاتهم بعد أن ألغت شركة فرعية تابعة لـ”غلينكور” عقودها مع شركتهم.

وقال الدكتور إيان هاغن في شهادة أمام المحكمة الجزئية الأميركية للمنطقة الجنوبية من نيويورك، حيث كان هو وزوجته لوريث يسعيان للحصول على تعويض، “انتظرنا بصبرٍ لما يزيد عن عشر سنوات لتحقيق العدالة الكاملة”.

وفي أيار/مايو، أقرت شركة “غلينكور” بالذنب ووافقت على دفع أكثر من 1.1 مليار دولار لتسوية التحقيقات. لكن الشركة أصرت على حقها في الحصول على حسم بنسبة 15 في المئة على الغرامة التي ستدفعها للولايات المتحدة، مشيرة إلى أنها سلَّمت أكثر من مليون وثيقة، تحمل أسماء “كثر” من الأشخاص المذنبين “بغض النظر عن مدى أقدميتهم”، إضافةً إلى تقديمها تقارير مفصلة عن المخالفات، وذلك وفقاً لما جاء في مذكرة قدمتها شركة “ويلمر هال” للمحكمة.

في حالات كثيرة، كانت المفاوضات الضارية تستمر لسنوات – في إحدى المرات وصلت إلى سبع سنوات – مع ممثلي الشركة الذين “يُعدِّلون في شكلٍ كبير” الوثائق الختامية ويحولونها إلى “نص منقوص يمكن التفاوض عليه كثيراً”، مثلما كتب جون كوفي، أستاذ القانون بجامعة كولومبيا.

لذلك تُعين الشركات غالباً مدعين عامين سابقين أو أشخاص مطلعين لهم صلات سياسية لإجراء المحادثات، الى درجة أن النقاد باتوا يطلقون عليهم اسم مؤسسة “قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة المتحدة”، نسبةً الى قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة لمكافحة الرشوة. وتتضمن قائمة الأسماء البارزة في هذه المؤسسة: شيريل سكاربورو، الرئيسة السابقة “لوحدة مكافحة الرشوة التابعة لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية”، والتي مثلت شركة “إريكسون” في قضية الفساد، والراحل جون ديفيد آشكروفت، النائب العام الأميركي السابق الذي حصل على 52 مليون دولار نظير عمله مراقباً خاصاً لشركة “زيمر بيوميت” للأجهزة الطبية، ولويس فريه، المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيديرالي، الذي عمل مراقباً لدى شركة السيارات الألمانية “دايملر أيه جي” وشركة “وول مارت”، وأجرى تحقيقات داخلية في شركة “إريكسون”، وديفيد غولد، عضو مجلس اللوردات البريطاني، الذي عمل مراقباً لدى شركة “بي أيه إي سيستمز” التي تُعد المورد الرئيس لوزارة الدفاع البريطانية، ونويل لينوار، الوزيرة الفرنسية السابقة للشؤون الأوروبية، التي راجعت برنامج امتثال مؤسسي خاص بشركة “إيرباص”، وثيو وايجل، وزير المالية الألماني السابق، الذي عمل مراقباً لشركة “سيمنز”.

ثم لدينا روبرت خزامي، الذي قدم نسخة مدنية من اتفاق المقاضاة المؤجلة إلى “هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية” عندما كان مديراً لشعبة الإنفاذ التابعة لها. في بداية مسيرته المهنية، عمل في مكتب المدعي العام الأميركي في نيويورك قبل أن يصبح المستشار العام للبنك الألماني. ثم ذهب إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات وأصبح مديراً لشعبة الإنفاذ، بعدها انتقل إلى شركة محاماة كبيرة تعمل مع الشركات، ليعود بعد ذلك إلى مكتب المدعي العام الأميركي. والآن يعمل لمصلحة شركة استثمارية.

في تموز/يوليو، وقَّع توني ويست، مساعد المدعي العام الأميركي سابقاً، اتفاقية عدم ملاحقة قضائية نيابة عن شركة “أوبر تكنولوجيز” بوصفه مدير الشؤون القانونية في الشركة، والتي بموجبها دفعت “أوبر” 148 مليون دولار لتسوية ادعاءات بتضليل المحققين في شأن عملية تسريب للبيانات في عام 2016 أثَّرت على 57 مليون راكب وسائق.

وقد أعلنت شركة أوبر والولايات المتحدة عن الاتفاقية بعد 12 يوماً من نشر “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” وشركاءه الإعلاميين ملفات أوبر، وهي قاعدة بيانات مسربة لنشاطات أوبر في حوالى 40 دولة تظهر كيف تمكنت عملاقة التكنولوجيا من الوصول إلى قادة العالم وتضليل المحققين واستغلال العنف ضد السائقين خلال صعودها الفوضوي إلى الصدارة العالمية.

وقال ناطق باسم “أوبر” أن ويست “لم يتفاوض أو يتواصل مطلقاً مع وزارة العدل الأميركية” في شأن اتفاقية عدم الملاحقة القضائية. لم يرد مسؤولون حكوميون سابقون وبعض الموظفين الآخرين على طلبات التعليق التي أرسلناها.

يقول المسؤولون في بريطانيا وكندا وفرنسا أن نسخهم من الاتفاقات المتساهلة تلزم الشركات بمزيدٍ من إشراف المحكمة، وبالتالي فإنها أكثر شفافية من اتفاقات الولايات المتحدة.

وقال سابين، وزير المالية الفرنسي السابق، لصحيفة لوموند، أن “الخوف الكبير من تلك الصفقات سببه المناقشات السرية التي تُجرى في الظل”. لكنه أضاف أن فرنسا تشترط عقد جلسة علنية وموافقة قضائية على الاتفاقية.

لكن المنتقدين يعترضون على ذلك قائلين إن حتى البلدان التي تعقد تلك الصفقات في صورة أكثر علانية لا تُفصح عن حقائق كثيرة خاصة بالقضية ولا تكشف سوى عن جزء يسير فحسب من المفاوضات السرية التي أفضت إلى إبرام التسوية.

وجد تحقيق “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” أن الإعلان عن الاتفاقات يكون مصحوباً بحقائق مجردة فقط، من دون تسمية الراشي أو المرتشي، بل وفي بعض البلدان لا يُعلن عن هذه الاتفاقات نهائياً.

لم يجد مراجعو الحسابات التابعين لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الذين راقبوا نشاطات الإنفاذ التي تعتمدها الدول، سوى معلومات شحيحة عن كيفية حساب بعض المدعين مقدار العقوبات. مثلاً في تشيلي، حيث يميل المدعون العامون في صورة متزايدة إلى تسوية قضايا الفساد من خلال “الإيقاف المشروط” و”الإجراءات المختصرة”، تتضمن الوثائق العلنية معلومات قليلة حول القضايا. 

ولم يقدم المسؤولون الألمان أيّ معلومات عن قضايا الرشوة التي سُوّيت من خلال “إيقاف الشركة” بلا محاكمة. وخلص مراقبو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن صفقات الشركات الألمانية تُعقد أحياناً في ظل إجراءات “غير رسمية” ومن دون وجود “قواعد ملموسة تتسم بالشفافية” لتحديد الغرامات المفروضة على الشركات.

تصف منظمة الشفافية الدولية المفاوضات الجنائية مع الشركات في فرنسا بأنها “سرية للغاية”، لهذا من الصعب معرفة الحيثيات التي تُحدَّد الغرامات على أساسها. وتتكون نصوص هذه التسويات من “لائحة ادعاءات مختصرة بالكاد يمكن قراءتها”. 

وفقاً لنقابة المحامين الدولية، فإن عدداً قليلاً للغاية من بين أكثر من 40 دولة، يقول أنه يبرم تسويات تفاوضية، وينشر الوثائق للجمهور. 

ففي سويسرا، يُنشر الأمر الجزائي، أو إشعارات العقوبة الموجزة، في مكتب مدعي عام لمدة شهر فحسب ثم تُسحب وتتوافر عند الطلب فقط.

وفي الدنمارك، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لا تراجع أيّ محكمة التسويات، ناهيك عن اعتمادها. وعادة ما ينشر مكتب المدعي العام للمحكمة الاقتصادية والدولية الدنماركية مقدار الغرامة المفروضة على الشركة فقط، من دون أيّ معلومات إضافية. وقد أخبر المكتب المنظمة أن التسويات الخاصة تكون أقل شفافية بطبيعتها لأن الغرض منها هو “إنهاء الادعاءات بطريقة أكثر تكتماً”.

وفي الولايات المتحدة، التي تعتبر المعيار الذهبي للشفافية، يقاضي جون آشلي، الذي يعمل في كلية الحقوق بجامعة فرجينيا، وزارة العدل للسماح له بالوصول إلى ما لا يقل عن اثنتي عشرة اتفاقية عدم ملاحقة قضائية. حجب موظفو وزارة العدل أيضاً تقارير مراقبة امتثال الشركات لاتفاقات التسوية. فقد تصدوا مثلاً لِمؤسسة “100 مراسل” (100Reporters) الإخبارية التي تسعى إلى نشر تقارير الامتثال الخاصة بقضية شركة “سيمنز”.

وفي قضية شركة “إريكسون”، قدم “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” طلباً بموجب قانون حرية المعلومات الأميركي قبل عام للسماح له بالوصول إلى تقارير المراقبة. لكن وزارة العدل قالت إن الطلب لا يزال قيد الانتظار، وإنها تستغرق 853 يوماً في المتوسط للبت في أيّ “طلب معقد”.

‘إنفاذ زائف للقانون’

لا تعد “سيمنز” الشركة الوحيدة التي دفعت غرامة لتسوية قضية رشوة أو اتهامات بالاحتيال وواصلت التربح من العقود الحكومية.  إذ وجد “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” أن ما لا يقل عن اثنتي عشرة شركة كبيرة كانت تتربح من الصفقات العامة الأميركية والأوروبية بعد دفعها غرامات لتسوية ادعاءات تتعلق بالرشوة أو الفساد. وغالباً، كانت الغرامات المفروضة على الشركات بسبب الفساد لا تمثل سوى نسبة بسيطة – أقل من 1 في المئة – من الأرباح التي واصلت تحقيقها.

من بين هذه الشركات، شركة “كاردينال هيلث”، عملاقة المنتجات الصيدلانية والطبية التي تقع مقراتها الرئيسة في دبلن، أوهايو. ففي عام 2020، اتهمت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية الشركة بالتقاعس عن الإشراف على شركة فرعية تابعة لها يُزعم أنها دفعت رشوة في الصين. وقد سوَّت الشركة القضية بغرامة مقدارها 9 ملايين دولار. وحققت مذاك 1.3 مليار دولار على الأقل من عقود الصفقات الفيديرالية الأميركية.

في عام 2019، أبرمت الشركة الفرعية التابعة “لمايكروسوفت” في المجر، اتفاقية عدم ملاحقة قضائية مع المدعين الفيديراليين الأميركيين لتسوية ادعاءات رشوة. وفي العام التالي مباشرة، تمكنت “مايكروسوفت” من الفوز بصفقات عامة أميركية تزيد عن 500 مليون دولار.

ومنذ أن وافقت شركة “بوينغ” – قبل عامين – على دفع 2.5 مليار دولار لتسوية قضية الاحتيال الخاصة بالطائرة بوينغ 737 ماكس، فازت الشركة بصفقات عامة أميركية وأوروبية تقدر قيمتها بأكثر من 39 مليار دولار.

وقال جون كوفي، أستاذ القانون في “جامعة كولومبيا”، الذي يعارض هذه التسويات، أن “غرامة تبلغ قيمتها مليار دولار تبدو بسيطة بالنسبة الى شركة تحقق أرباحاً تصل إلى 100 مليار دولار”.

وفي ضوء البيانات الصحافية التي تضخم التسويات القياسية والإنفاذ الصارم لها، حُددت العقوبات المالية في بعض الدول بمبالغ أقل من قيمة الرشاوى، وذلك وفقاً لعمليات المراجعة الحسابية التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

تُظهر بيانات الأمم المتحدة أن 177 شخصاً سووا مخالفات تتعلق بتقديم رشاوى مع وزارة العدل والسلطات الفيديرالية منذ عام 2000، لكن معظمهم لم يكن مرتبطاً بشركات كبيرة تطرح أسهمها للتداول العام.

وخلال بحثه، وجد براندون غاريت، أستاذ القانون في “جامعة ديوك” ومؤلف كتاب “أكبر من أن يُسجن” (Too Big to Jail)، الذي يتناول التسويات الخاصة بجرائم الشركات، أن معظم الأشخاص الذين حوكموا كانوا إما مديرين برتبة متوسطة أو مجرد موظفين عاديين.

في عام 2015، تعهدت وزارة العدل بالتركيز مجدداً على محاكمة الأفراد، وكررت هذا التعهد مؤخراً. لكن مذاك، وجهت الوزارة اتهامات لأفراد في 25 في المئة فقط من 48 قضية تتعلق بمكافحة الرشوة في الشركات وإنفاذ القانون، أيّ في قضية واحدة فقط من بين كل أربع قضايا، وفقاً لتحليل أجراه مايك كوهلر، الخبير القانوني الذي يدير موقع “بروفيسور في قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة” (FCPA Professor). ويقول كوهلر إن انتشار نموذج الولايات المتحدة لمكافحة الرشوة يمكن أن يؤدي إلى “إنفاذ عالمي زائف للقانون”.

وجد “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” وشركاؤه الإعلاميون، أن ثمة مشاكل بدأت تطفو على السطح. ففي بلجيكا، وجدت صحيفة “دي تاد” (De Tijd) البلجيكية، شريك “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أن ثمة انتقادات موجهة الى القانون الصادر منذ أحد عشر عاماً الذي يسمح بإبرام صفقات إقرار بالذنب في القضايا الجنائية الرئيسة، بسبب التراخي في الإشراف القضائي وما يثيره من قضايا تتعلق”بالعدالة الطبقية”. وفي إيطاليا، أقر المدعون العامون بأن الحد الأقصى للغرامات المفروضة على الشركات أقل بكثير من أن يمثل رادعاً للشركات.

ووفقاً لسوزان هاولي، المديرة التنفيذية لمجموعة “سبوت لايت أون كوربشن” (Spotlight on Corruption) المناهضة للفساد، لم تدن المملكة المتحدة بعد أيّ أفراد بارتكاب مخالفات ترتبط بصفقة مقاضاة مؤجلة خاصة بالشركات.

وفي ألمانيا، وجدت مجلة “دير شبيغل”، شريكة “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أن المدعين العامين يقومون بتسوية تهم الرشوة الخطيرة ضد الأفراد من خلال اللجوء إلى أداة إنفاذ تسمى “§153a StPO” (وقف مشروط موقت للملاحقة القضائية)، مصممة في الأصل لإطلاق سراح مرتكبي الجنح البسيطة، مثل لصوص المتاجر.

وفي فرنسا، قال جون فيليب فوغل، مدير القضايا الخاصة ببرنامج التدفقات المالية غير المشروعة في منظمة “شيربا” (Sherpa)، وهي مجموعة حقوقية لمكافحة الفساد في باريس، أن “الغرامات المفروضة زهيدة للغاية على أن تُشكل رادعاً، ونادراً ما تُغطي الضرر الكامل الذي لحق بالضحايا. يسمح النظام للأطراف الفاعلة اقتصادياً بشراء براءتها على حساب حق الضحايا في الدفاع عن حقوقهم بنزاهة، وهو ما يتعارض بشدة مع نظام القضاء العادي، حيث عادة ما يواجه الأفراد أحكاماً قاسية على جرائم أقل خطورة من ذلك”.

معتادو الجرائم

يُعد بنك “جي بي مورغان تشيس” (JPMorgan Chase ) إحدى أكبر شركات القطاع العام في العالم، بأصول تبلغ 2.6 تريليون دولار، وهو أيضاً الملاذ لما يسميه المنتقدون “نادي الجرائم المتكررة للشركات”، إذ عقد صفقات تفاوضية لتسوية دعاوى جنائية ومدنية أربع مرات على الأقل خلال السنوات الثماني الماضية. من بين الصفقات التي وقعها البنك مع السلطات الأميركية، توجد تسوية مبرمة في عام 2020 اعترف فيها بالتلاعب بالأسواق خلال تداوله العقود الآجلة للمعادن، وهو أمر مماثل لإجراء سبق أن اعترف بالقيام به قبل خمس سنوات. وإجمالاً، وافق البنك على دفع أكثر من 3.4 مليار دولار لتسوية تلك القضايا، أيّ أقل من 2 في المئة من أرباح البنك خلال تلك الفترة.

وبعد أقل من عام، بينما كان البنك لا يزال خاضعاً لاتفاقية المقاضاة المؤجلة مع الولايات المتحدة، بدأ في التفاوض على صفقة جديدة مع السلطات الفرنسية لتسوية مزاعم تهرب ضريبي.

لكن عندما يتعلق الأمر بعودة الموظفين الإداريين لارتكاب المخالفات نفسها مراراً وتكراراً، فمن الصعب التفوق على البنك الألماني. إذ وجهت إليه السلطات الأميركية اتهامات جنائية ومدنية كثيرة، من بينها: تضليل المقترضين والمستثمرين في الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 و2008، ومساعدة العملاء على التهرب الضريبي في عام 2010، والتلاعب بسعر الفائدة القياسي الخاص به في عام 2015، وتوظيف أبناء وبنات مسؤولين حكوميين أجانب وأصحاب شركات مملوكة للدولة بطريقة غير مشروعة في عام 2019. وقد وافق البنك أيضاً على دفع 150 مليون دولار لتقصيره في مراقبة المعاملات المالية المسجلة لِجيفري إبستاين، المُدان بارتكاب جرائم جنسية. ثم دفع  130 مليون دولار في عام 2021، لتسترّه على عمليات دفع رشاوى للحصول على صفقات تجارية في بعض البلدان مثل السعودية وإيطاليا، وغير ذلك من الجرائم المزعومة.

أكثر 7 شركات متهمة بتكرار المخالفات في الولايات المتحدة

وجد تحليل أجراه “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، أنه في الفترة بين عامي 1992 و2021، اتهمت الولايات المتحدة سبع شركات بجرائم احتيال أو فساد خلال أكثر من مناسبتين، وأنه في كل مرة كانت تلك الشركات تعقد صفقات تساهلية لتسوية هذه التُهم.

في عام 2004، سوّت مجموعة “إيه بي بي” أول قضية رشوة، بعد أن اتهمها المدعي العام الأميركي بارتكاب مخالفات في نيجيريا وأنغولا وكازاخستان. وكانت المرة الثانية في عام 2010، وهي تتعلق ببرنامج الأمم المتحدة في العراق “النفط مقابل الغذاء”. أما التسوية الثالثة، فقد أعلنت عنها السلطات في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة وسويسرا هذا الشهر (كانون الأول/ديسمبر 2022). إذ اعترفت مجموعة “إيه بي بي” أنها – عبر شركاتها الفرعية – دفعت رشاوى لموظفين رفيعي المستوى في شركة الطاقة المملوكة للدولة في جنوب أفريقيا للحصول على صفقات. إضافة إلى تسوية أخرى معلّقة في ألمانيا.

وفي بيان أصدرته المجموعة، قال الرئيس التنفيذي بجورن روسينغرين، “نتبع نهجاً واضحاً لا يتسامح مطلقاً مع التصرفات غير الأخلاقية داخل شركتنا”.

في فرنسا خلال الشهر الماضي، وافقت شركة “إيرباص”، عملاقة صناعة الطائرات الأوروبية، على دفع 16.4 مليون دولار لتسوية مزاعم رشوة في ليبيا وكازاخستان، إضافةً إلى صفقة أخرى وقَّعتها في عام 2020 بلغت قيمتها 3.9 مليار دولار.

وقالت “إيرباص” في بيان لها، “اتخذت الشركة خطوات كبيرة وجادة منذ عام 2016 لإصلاح نفسها، مدعومة بالتزام راسخ بالنزاهة ومواصلة التحسين”. 

يُظهر تدقيق “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” أن الشركات المخالفة وقَّعت على اتفاقات تفاوضية – أحياناً خلال فترات زمنية متداخلة – مع بلدانٍ مختلفة، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا. وافق بنك “كريدي سويس”، الذي يُعد واحداً من أكبر المصارف الأوروبية، على دفع 2.6 مليار دولار في عام 2014 لتسوية اتهامات بمساعدة أفراد أميركيين متهربين من الضرائب في الولايات المتحدة. ووافق البنك أيضاً على “غلق الحسابات كافة” التي يرفض أصحابها الكشف عن ملكيتهم لها. 

وأفادت وكالة “بلومبيرغ نيوز”، قبل شهرين، بأن وزارة العدل كانت تحقق في ادعاءات مبلغين عن الفساد بأن بنك “كريدي سويس” لم يُغلِق فعلياً الحسابات كافة، وأنه انتهك اتفاقه بالإقرار بالذنب. وقد جاء هذا التقرير قبل أيام من موافقة البنك على دفع 234 مليون دولار إلى فرنسا، لتجنب الملاحقة القضائية في قضية تهرب ضريبي وغسيل أموال أخرى.

أتت هذه القضايا بعد اتفاقية مقاضاة مؤجلة أُبرمت في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2021 بين البنك والسلطات الأميركية على خلفية اتهامات بالاحتيال في قضية مختلفة تماماً. وحتى قبل ذلك، توصل بنك “كريدي سويس” إلى اتفاقية مع السلطات الإيطالية بلغت قيمتها 117 مليون دولار في عام 2016، ووافق على دفع 205 ملايين دولار لتسوية قضية أخرى في ألمانيا في عام 2011، وتتعلق كلتا التسويتين الأخيرتين بادعاءات بمساعدته عملاء على التهرب من الضرائب.

يقول سابين أن بنك “كريدي سويس” وشركات أخرى لا تُعتبر من “أصحاب السوابق” لأنها لم ترتكب الجريمة نفسها مرتين في فرنسا. “صحيح أن أسماء الشركات تتكرر في قضايا عدة، وأن ثمة استمرارية مؤكدة لممارسة الفساد. لكن هذا لا ينطبق على فرنسا”، مضيفاً أن أصحاب السوابق ليسوا مؤهلين لعقد صفقات متساهلة.

وعالمياً أيضاً، كافأت الحكومات الشركات من خلال إبرام اتفاقات تفاوضية للمرة الثانية، كانت أحياناً أكثر تساهلاً من التسوية الأولى.

في عام 2020، وافقت عملاقة الطاقة الإيطالية “إيني” على أمر مدني أميركي بعدم انتهاك القواعد المحاسبية لمكافحة الرشوة، من دون الاعتراف بارتكاب أيّ مخالفات أو نفي ذلك، وهي القواعد ذاتها التي وعدت بعدم انتهاكها قبل عقد من الزمن. تتعلق التسوية الأولى بادعاءات دفع شركة فرعية كانت تابعة لمجموعة “إيني” لرشوة في نيجيريا، أما الثانية، فقد كانت في الجزائر، وحدثت بعد أن وقَّعت شركة فرعية أخرى تديرها مجموعة “إيني” عقوداً صورية لإخفاء رشاوى على أنها رسوم مشروعة، وهي طريقة اتبعتها للفوز بعقود النفط.

وقالت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية في بيان صحافي، أعلنت فيه عن الأمر المدني لعام 2020، أن “شركة إيني عادت لارتكاب الجريمة نفسها”.

وقد أمرت الهيئات المالية التنظيمية “إيني” بدفع 24.5 مليون دولار من العائدات غير المشروعة، قائلةً إن شركة النفط تعاونت مع السلطات خلال التحقيق، وهي صفقة وصفها خبير قانوني بأنها “تسوية تبدو متساهلة”. وفي وقت سابق، برَّأت المحاكم الإيطالية “إيني” والشركة التابعة لها في قضية الجزائر، لتعلن الشركة براءتها.

وفي العام الماضي، أبرمت شركة “إيني” تسوية منفصلة مع السلطات الإيطالية، هذه المرة في قضية كسب غير مشروع في جمهورية الكونغو. وقد وافقت الشركة على تخفيف تهمة “الحصول على تراخيص من خلال المغريات غير القانونية” ودفع غرامة صغيرة مقدارها 975 مليون دولار، إضافة إلى مصادرة 12.9 مليون دولار بوصفها أرباحاً غير مشروعة من الرشوة. وفي تقرير صدر في تشرين الأول، انتقد مراقبو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنود الاتفاق لأن قيمة الرشاوى قُدرت بنحو 77 مليون دولار، في حين بلغت قيمة التراخيص المُتحصل عليها من خلال الرشوة مليار دولار تقريباً. لكن قرر القاضي أن الغرامات المفروضة على الشركة مناسبة لأنها عززت برامج الامتثال الخاصة بها، من بين إجراءات أخرى عدة.

في رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين”، نفى الناطق الرسمي باسم شركة “إيني”، روبرتو ألبيني، اتهامات الرشوة. وقال أن قضية نيجيريا كانت تخص شركة فرعية سابقة، وأن الشركة “لم تدفع أيّ رشوة في الجزائر”. أما عن قضية جمهورية الكونغو، فقال ألبيني أن الشركة وافقت فقط على تهمة مخففة لا تتعلق بالرشوة. مضيفاً أن “المبلغ الرمزي نسبياً للعقوبة المتفق عليها يبرهن من تلقاء نفسه على أنه لم تكن هناك قضية حقيقية”، وأن التهم التي وجَّهها المدعون العامون والنشطاء الإعلاميين كانت “بلا شك خاطئة ومُبالغ فيها إلى حدٍ كبير”.

يُظهر تحقيق “الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين” أن 10 شركات على الأقل من أفضل شركات الأدوية والأجهزة الطبية في العالم قد سوَّت تهماً تتعلق بالفساد لمرتين على الأقل. فقد سوَّت شركة “نوفارتس” اتهامات بدفعها رشاوى أو عمولات لأطباء ومستشفيات لأربع مرات على الأقل.

ففي عام 2010، وافقت شركة فرعية في الولايات المتحدة تابعة لمجموعة “نوفارتس” على دفع غرامات تتعلق بدعاوى مدنية وجنائية بلغت قيمتها أكثر من 422 مليون دولار لتسوية اتهامات تتعلق بتسويق دواء “تريليبتال” (Trileptal)  المضاد للتشنجات وخمسة أدوية أخرى بطرق غير مشروعة. واتهمها المدعون أيضاً بدفع عمولات لاختصاصيين في مجال الرعاية الصحية لحثّهم على وصف أدوية “نوفارتس”.

وكتبت وزارة العدل في عام 2013، عندما قدمت شكوى جديدة ضد الشركة، معترفةً فيها بأن العقوبات السابقة لم تضع حداً للرشاوى والعمولات، أن العقوبات “عموماً كانت مجرد توبيخ بسيط. فقد واصلت “نوفارتس” عقد مؤتمرات طبية زائفة، كانت وسيلة فقط لدفع عمولات ورشاوى للأطباء في هيئة إكراميات ووجبات باهظة”.

وبعد عامين، وافقت الشركة على دفع 390 مليون دولار لتسوية قضية جديدة رفعتها وزارة العدل. ووافقت شركة “نوفارتس” أيضاً على تمديد اتفاقية تتعلق بسلامة العمل المؤسسي وقَّعتها في عام 2010 لمدة خمس سنوات، وتعهدت مجدداً بعدم انتهاك قوانين مكافحة الرشوة. لكن في عام 2020، وقَّعت الشركة اتفاقية أخرى من النوع نفسه مدتها خمس سنوات تعهدت فيها بعدم دفع أي عمولات أو رشاوى.

وفي عام 2016، دفعت الشركة 25 مليون دولار لتسوية قضية مدنية وادعاءات بأن الشركات الفرعية التابعة لها في الصين دفعت أموالاً غير قانونية لمقدمي الرعاية الصحية لزيادة مبيعاتها. وقد قدمت الشركات الفرعية هناك هدايا ورحلات سياحية وجلسات سبا وساونا و”مصاريف” روتينية ورسوماً خاصة بملهى للتعري، وغيرها من الأشياء الأخرى. وفي العام التالي، فرضت كوريا الجنوبية غرامة مقدارها 49 مليون دولار على الشركة لتقديمها عمولات للأطباء هناك.

وفي عام 2020، وافقت “نوفارتس” على دفع 591 مليون دولار لتسوية دعاوى مدنية من وزارة العدل بأنها قدمت عمولات لأطباء أميركيين لحثهم على وصف أدوية شركة “نوفارتس”.

ووافقت الشركة الفرعية في اليونان وشركة أخرى كانت تابعة للمجموعة على دفع 233 مليون دولار لتجنب الملاحقة القضائية في الولايات المتحدة على خلفية اتهامات بتقديم رشاوى إلى مقدمي رعاية صحية في فيتنام واليونان من أجل شراء أدوية للعين وعدسات لاصقة. ووافقت الشركة الرئيسة على دفع 112 مليون دولار لتسوية دعاوى مدنية تتهمها بانتهاك القواعد المحاسبية لقانون مكافحة الرشوة الأميركي حينما كانت تمارس نشاطاتها التجارية في كوريا الجنوبية وفيتنام واليونان والصين. 

سمحت الولايات المتحدة للشركة الفرعية في اليونان بتوقيع اتفاقية مقاضاة مؤجلة مدتها ثلاث سنوات ودفع غرامة لا تزيد عن الحد الأدنى المنصوص عليه في المبادئ التوجيهية المتعلقة بإصدار الأحكام، معللة ذلك “بتعاونها الكامل” مع السلطات.

في المقابل، وعد الرؤساء التنفيذيين لشركة “نوفارتس” بالارتقاء إلى مستوى قيم الشركة وفتح صفحة جديدة لا تمت الى الماضي بصلة. 

ساهم في إعداد هذا التقرير: نيكول صادق وبريندا مِدينا وماغي مايكل وسبنسر وودمان وبن هولمان ودين ستاركمان وريتشارد سيا وإميليا دياز ستروك ولارس بوف وجيلهيرمي أمادو وزاك دوبينسكي وجون هانسن وآن ميشيل وأدريان سنكات وفريدريك أوبرماير وباستيان أوبرماير ومارفن ميلاتز وفريدريك روهريك وروبن سكار وليو سيستي وباولو بيونداني وكارلين كويجبرز وفريدريك لورين وكريستيان برونيمان وجيون كيم وجيمس أوليفر.

هذا المقال مترجم عن الرابط التالي.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.