fbpx

سيرة همام حيدر: عن “البعث” والبزنس والإدارة المحلّية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكشف سيرة همام حيدر عن طبيعة “العمل” ضمن النظام السوري، الرشاوى والفساد سبل وحيدة للاقتراب من مراكز القوة ومراكمة الثروة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“القرية خلية زجاجية، ومُحَال أن يمرّ فيها شيء من دون مُراقبة” 

تشارلز سبورجون (1834 – 1892)-  واعظ ديني بريطاني

تُحاول هذه المادة الصحافية تقديم نظرة من داخل حزب البعث الحاكم في سوريا عبر سرد سيرة أحمد همام حيدر، شخصية قيادية تسلّقت بنفس طويل سلّم السلطة في ظل صفقات قذرة. تسعى هذه الشخصية اليوم الى الحفاظ على نفوذها، تجمع بين أيديولوجية الحزب الاشتراكي ومراكمة الثروة التي تُبقي مفاصل النظام السوري مرنة. ذلك كله بالتوازي مع علاقات مخابراتية يرسّخها المال والمصالح المتبادلة، فيما السوريون معلّقون وبلادهم رهينة.

كان أحمد همام حيدر في إحدى أمسيات صيف 2018، يستقبل المهنئين بعيد الأضحى في منزله في قرية دير قانون في وادي بردى، آنذاك دسّ في يد أحد ضيوفه “عيدية” قيمتها ألف دولار أميركي. ذلك الضيف هو منير أبو كحلا، أمين شعبة حزب البعث في مدينة قدسيا التي تتبعها إدارياً قرية دير قانون. آتت “العيدية” أُكُلها  بعد شهرين، إذ عيّن أبو كحلا -وفق الأصول- أحد أقارب حيدر رئيساً لمجلس بلدية دير قانون، المنصب ذاته الذي قدم حيدر رشاوى مشابهة كي يناله بنفسه بين عامي 2003 و2012.

هذه الوقائع رواها لـ”درج” مواطن عاينها، وأكدها شخص آخر من أبناء البلدة، وطلبا عدم ذكر اسميهما.

طريق معبّد بالرشاوى

شراء مناصب السلطة في سوريا ليس بالأمر الجديد، فهي احتلت عام 2011 المرتبة 129 على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية. بعد عشر سنوات، أي عام 2021، احتلت المرتبة الثانية بين الدول الأكثر فساداً على المؤشر نفسه، المركز الذي تشغله منذ عام 2017 بين دول تحكمها المحسوبية وينطق فيها المال. 

ما تغيّر في “أعراف” الرشوة في سوريا هو قيمتها، فضمن اقتصاد تسحقه العقوبات، ويعيش 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر، يمكن -كالعادة- شراء ذمم الناس بأثمان بخسة، ففي عام 2003، دفع حيدر ثلاثة آلاف دولار ليصبح رئيس بلدية دير قانون. وبعد ثماني سنوات، نصّب قريبه محمود مقابل ثلث المبلغ.

“من يرفض الأوامر، يُعتبر متمرداً على الحزب”، بهذه العبارة هدد أبو كحلا أعضاء المجالس البلدية التابعة لشعبة قدسيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2018 حين طلب منهم “انتخاب أسماء محددة – بمن فيهم قريب حيدر – لرئاسة البلديات”. 

أكمل حيدر، عضو اللجنة المركزية لحزب البعث، مسيرته عبر رشوة مسؤولين في الحزب والمخابرات، وتعيين أقاربه في مناصب رسمية وبعثية في منطقة وادي بردى بريف دمشق الغربي، حيث تقع دير قانون مركز إقطاعه. 

أصبح محمود حيدر في تشرين الأول 2022 عضواً في المكتب التنفيذي في محافظة ريف دمشق. أما قريبه الآخر، معتصم حيدر، فأمين فرع ريف دمشق لمنظمة اتحاد شبيبة الثورة التابعة لحزب البعث الحاكم، بينما قريبه الآخر، خالد حيدر، فعُيّن عضواً في المكتب التنفيذي لاتحاد فلاحي محافظة دمشق المرتبط بحزب البعث. أما أخوه، أحمد حسام، فكان عضواً في مجلس محافظة ريف دمشق ما بين 2018 و2022، ويشغل حالياً منصب رئيس دائرة التوجيه التربوي لمجمع الشهيد العماد محسن مخلوف التعليمي في ضاحية قدسيا.

سعى حيدر على مدار السنوات العشرين الماضية، إلى إحكام قبضته على السلطة، فأندى راحات صغار المسؤولين مثل أبو كحلة، الذي كان رئيساً لبلدية قرية الديماس المجاورة ثم تسلّم إدارة مجمع محسن مخلوف التعليمي أواخر عام 2020، وفاز في العام نفسه في انتخابات الإدارة المحلية إلى جانب كونه أميناً لشعبة قدسيا للحزب، وغدا عضواً في المجلس المحلي لمحافظة ريف دمشق. وبينما يحلم ومسؤولون على شاكلته ممن هم تحت جناح حيدر بأن يغدوا أعضاء في مجلس الشعب، يطمح حيدر اليوم الى أن يصبح رئيساً للوزراء.

سعى حيدر على مدار السنوات العشرين الماضية، إلى إحكام قبضته على السلطة، فأندى راحات صغار المسؤولين

انفتاح الاقتصاد وتضخّم الفساد

لم يكن سعي حيدر الى النفوذ سهلاً ولا مباشراً. نشأ يتيماً بعد مقتل والده في شجار قروي، ثم التحق بكلية الحقوق في أواخر التسعينات. كل صباح، كان الطالب الجامعي الخجول والعاطل من العمل يتسكّع أمام منزل أسرته المطلّ على ساحة القرية مع شباب آخرين في انتظار فرصة ما. ارتفعت معدلات البطالة في المنطقة منذ السبعينات، إذ استملك النظام السوري أراضيَ زراعية كثيرة لمصلحة النفع العام لبناء مدرسة أو جامعة. ما شُيّد حقيقة آنذاك فيلات وفندق ذو خمس نجوم ومجمع للفروسية لمسؤولي حزب البعث من الأثرياء الجدد،  كان الحزب حينها يصنّع انهياراً لما تبقى من الاقتصاد. 

ورث بشار الأسد رئاسة سوريا عام 2000 وأعلن انفتاح الاقتصاد السوري، فتحسّنت الفرص أمام حيدر، وسرعان ما تعلم كيف يراكم الثروة في مسقط رأسه في ريف دمشق. أصبح في حزيران/ يونيو 2003، رئيس مجلس بلدية دير قانون بعد أن دفع 150 ألف ليرة سورية (3000 دولار أميركي) لشخصيات مخابراتية وبعثية للفوز في انتخابات الإدارة المحلية. خلال العقد الأول من رئاسة بشار الأسد، ساهمت الظروف الإقليمية والدولية والسياسات الوطنية للاقتصاد المنفتح، في جذب رؤوس أموال المغتربين العرب والسوريين إلى البلاد، وضُخّت بعض تلك الأموال في السوق العقارية.

ارتفعت قيمة العقارات في ريف دمشق مع إطلاق مشاريع فاخرة عدة عام 2005 مثل “البوابة الثامنة” بالقرب من دير قانون، التي بلغت تكلفتها 500 مليون دولار أميركي، و”تلال دمشق” بكلفة 3.4 مليار دولار أميركي، آنذاك كان ضخ الأموال الخليجية في الاقتصاد السوري جزءاً من استراتيجية القوة الناعمة لكسب نفوذ إقليمي قائم على المحسوبية.

حاول مطورون عقاريون سوريون جذب الاستثمارات الخليجية الى مشاريعهم، ففي عام 2005، وُضع حجر الأساس لضاحية “الشيخ زايد” الراقية، التي طورتها “جمعية بركة التعاونية للسكن والاصطياف”، وسمّتها تيمناً بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس السابق لدولة الإمارات العربية المتحدة، الذي توفي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004.

تطل ضاحية “الشيخ زايد” على قرى الأسد، بلدة من الفيلات الفاخرة التي سكنتها شخصيات بارزة في النظام مثل بشرى الأسد، شقيقة الرئيس بشار، واللواء محمد ديب زيتون، رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث. وانتشرت أخبار جيرة ذوي الهيبة بين السوريين، ما جذب عدداً من أثرياء البلاد، بمن فيهم اشتراكيو حزب البعث في سوريا، واقتنوا فيلات فاخرة في “الشيخ زايد”، على رغم بنائها “خلافاً للقانون” كما ذكرت صحيفة “تشرين” الحكومية. 

استفاد حيدر من المشروع، فأثناء رئاسته لبلدية دير قانون، تمكّن في غضون أربع سنوات من مراكمة 350 مليون ليرة سورية (7 ملايين دولار أميركي)كرشاوى لترخيص 500 فيلا في “الشيخ زايد”، بينما ظلّت الفيلات الأخرى البالغ عددها 2000 فيلا غير مرخّصة حتى اليوم. دفعت “جمعية بركة” ما بين عامي 2005 و2013، نحو 4 مليارات ليرة سورية (80 مليون دولار أميركي) كرشاوى لمسؤولين في الدولة، بما في ذلك موظفون مدنيون وآخرون في المخابرات، لتسهيل بناء ضاحية “الشيخ زايد، وبلغت قيمة الاكتتابات فيها 12 مليار ليرة سورية (240 مليون دولار).

استمرّ حيدر في التقرب من مراكز السلطة في النظام موازياً بين “البزنس” وعلاقاته داخل البعث والمخابرات، يخدمُ كل منهما الآخر، وفي آذار/ مارس 2010، كُلف حيدر بإدارة شؤون قرى الأسد بعد إقالة رئيس مجلسها البلدي بسبب تهم فساد. واصل هناك العمل في المقاولات والسمسرة العقارية، وأعاد إكساء فيلات لكبار المسؤولين، إحداها كانت مُلك العميد غسان بلال، ذراع ماهر الأسد، شقيق الرئيس بشار وقائد الفرقة الرابعة المدرعة.

حصل حيدر عام 2011 على 50 مليون ليرة سورية (1 مليون دولار أميركي) إثر وساطته لبيع 30 كيلومتراً مربعاً في دير قانون بسعر 125 مليون ليرة سورية (2.5 مليون دولار أميركي) لأيمن جابر، زوج بنت عم الرئيس بشار. سلّم حيدر حصته تلك إلى العميد بلال كهدية، وعلى تلك الأرض بنى جابر مدرسة سماها “النوادر”.

الثورة في سوريا وتقلّب الولاء

غيّر حيدر نغمته حين اندلعت الاحتجاجات الشعبية في آذار 2011، لكن نشازه لم يستمر طويلاً، فخلال الأشهر الستة الأولى من الانتفاضة، وقف مع العديد من أبناء القرى إلى جانب الثورة حيث خرجت تظاهرات في بسيمة وعين الفيجة ودير مقرن وكفير الزيت ودير قانون، تطالب بإسقاط نظام الرئيس بشار.

اشتكى السكان المحليون من تغييب النظام لحقوقهم بالأراضي والمياه، تلك الأراضي التي استملكها النظام في السبعينات، ثم مدّ في التسعينات أنابيب لنقل مياه نهر بردى من منبعه في بردى إلى العاصمة من دون إعطاء حصة لسكان الوادي. ورداً على الاحتجاجات، أرسل النظام في نيسان 2011 وفداً عسكرياً بقيادة اللواء عصام زهر الدين من الحرس الجمهوري إلى وادي بردى للتفاوض مع المتظاهرين.

أراد حيدر الاستفادة من طموح المتظاهرين بإسقاط النظام حتى يتحرر من قبضة داعميه الماليين والأمنيين الذين يغطون ملفات فساده مقابل المبالغ التي يدفعها لهم، وهو اقتصاد شائع قائم على الابتزاز الروتيني. اعتاد حيدر على قيادة سيارة “رينج روفر” سوداء في الوادي من دون أن يضايقه أحد، وأمضى أمسيات في لعب الورق وتدخين الأركيلة في مقاهي ومطاعم قرى الحسينية وعين الفيجة وعين الخضراء المجاورة مع عدد من قادة التظاهرات، ولاحقاً قادة فصائل المعارضة المسلّحة.

تراجع حيدر عن ولاءاته الجديدة سريعاً حين اعتقلته دورية تابعة لإدارة المخابرات الجوية وعثرت في سيارته على أسلحة وهاتف “ثريا” الفضائي الممنوع في البلاد. أقنع حيدر من اعتقله برشوة صغيرة سمح له مقابلها بإجراء مكالمة هاتفيّة، فاتصل باكياً برجل أعمال نافذ تواصل مع العميد بلال. بدوره، اتصل بلال باللواء جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، وإحدى أكثر شخصيات النظام نفوذاً وإثارة للرعب. وصل حيدر إلى مكتب بلال بعينين دامعتين، سلّم عليه وجلس بصمت لبضع دقائق حتى أطلق بلال سراحه.

أخذ حيدر هدية للعميد بلال بعد أيام قليلة، شاكراً إياه ومقدماً فروض الطاعة والولاء، ومنذ ذلك اليوم، عدّل حيدر سلوكه وبدأ يقيم الولائم والحفلات في مجمع الريم السياحي بدير قانون لضباط الحرس الجمهوري والمخابرات سعياً وراء نفوذ وعلاقات أقوى.

مع الأسد في المعركة

تشظّت الثورة إلى فصائل مسلّحة، وتدهور الوضع الاقتصادي بالتزامن مع ركود في السوق العقارية. ومرة أخرى، وضع حيدر خبرته في السمسرة في خدمة شخصيات نافذة في النظام، من بينهم رئيسا الوزراء السابقان عادل سفر ووائل الحلقي، والأمين العام المساعد لحزب البعث محمد سعيد بخيتان. ساعدهم حيدر في بيع بعض عقاراتهم الموجودة في مناطق عدة، بما في ذلك فيلات في  “الشيخ زايد”. في المقابل، تقلّد مناصب رسمية عدة، منها عضوية مجلس محافظة ريف دمشق، مدير مديرية التجارة الداخلية، معاون وزير الاقتصاد، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للمناطق الحرة. وأخيراً، عُين حيدر بأوامر من بخيتان، أميناً لفرع ريف دمشق لحزب البعث في آذار 2015، ما جعل حيدر عضواً في اللجنة المركزية للحزب إلى جانب أهم 80 شخصية سياسية في البلاد.

تَدهورَ الوضع الأمني ​​في دير قانون مع اشتداد الصراع المسلّح، ما جعل حركة حيدر صعبة وفرض عليه مسؤوليات جديدة. فبين عامي 2012 و2017، حاصر الجيش السوري عدداً من قرى وادي بردى وقتل النظام مئات المدنيين، كما اغتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة عشرات المدنيين والمسؤولين الرسميين الموالين للنظام. 

أقنع حيدر النظام بوقف استهداف دير قانون، وسيطر على دخول الإمدادات الغذائية والطبية والوقود إلى الوادي، وشكل مجموعات تابعة لميليشيا قوات الدفاع الوطني الموالية للنظام، فاحتفظ بحصته من العقارات المحليّة، مقابل الحفاظ على استقرار منطقته، مانعاً الجيش من تدمير بلدته أو احتلالها كما حدث في عين الفيجة ومناطق أخرى.

تمكن حيدر من اختراق المعارضة عبر بعض أقاربه، الذين تقلّب بعضهم في مواقفه، على سبيل المثال، في حزيران/ يونيو 2013، أعدم عدنان (قريب حيدر) أمير حركة أحرار الشام المعارضة في الوادي، مقاتلاً معارضاً من غير محاكمة، ثم انشقّ عن الحركة التي شجبت الجريمة. إثر ذلك، عاد عدنان إلى حضن الوطن، وشكل مجموعة تابعة لـ”الدفاع الوطني” تعمل لحماية حيدر، قُتل عدنان لاحقاً على يد تنظيم “داعش” في خريف 2015.

أثناء الحصار بين عامي 2012 و2017، فشلت فصائل المعارضة في اغتيال حيدر عبر زرع عبوة ناسفة في الطريق المؤدي إلى منزله، إذ أحبط مرافقوه التفجير الذي كان انتقاماً لـ “محاولاته شق صفوف الفصائل الثورية” و”إعانته النظام على قصف الوادي”. صار حيدر مذاك أكثر حذراً. إذ لم يكن يزور الوادي كثيراً، وإن زاره، لا يغادر منزله الذي كان محجاً لأهل المنطقة، أما الشارع فلم يطأه إلا نادراً ومحاطاً بعشرات من مسلّحي العائلة المتطوّعين لحمايته. 

بقيت قبضة حيدر شديدة في منطقته، وسيطر بالتنسيق مع جيش النظام على مفرق رأس العمود، المدخل الرئيس للوادي. وأثناء المعركة الأخيرة في الوادي (23 كانون الأول/ ديسمبر 2016 – 29 كانون الثاني / يناير 2017)، فاوضت وفود عسكرية وأمنية مثّلت الروس والنظام إلى جانب سماسرة عقاريين محليين، وفوداً عن المعارضة المسلحة والمجتمع المحلي على تسليم وادي بردى لجيش النظام. قال مفاوضون ممن حضروا الجلسات: “أراد الروس حلاً، لكن المفاوضين عن الأسد أرادوا المنطقة بأي ثمن”.

كان خصم النظام والروس مفاوضاً حازماً، اللواء المتقاعد أحمد الغضبان، القائد السابق للفرقة 14 – قوات خاصة، ووفق من حضروا المفاوضات، سعى الغضبان، الذي كان ممثلاً عن المجتمع الأهلي المحلي، إلى حل سلمي يجنّب وادي بردى الاقتحام العسكري. في المقابل، سعى حيدر الى “حماية قريته وممتلكاته”. قُتل الغضبان على حاجز للحرس الجمهوري في 14 كانون ثاني 2017 عند مفرق رأس العمود بعد جلسة تفاوضية. وبعد أسبوعين، سيطر جيش النظام على وادي بردى ونبع الفيجة بعد أن دمّر قرى بسيمة وعين الفيجة وعين الخضرة، ثم استملك غالبية أراضيها وجرف معظم منازلها ومنع أهلها من العودة إليها.

تمكّن حيدر من جعل نفسه ورقةً يصعب الاستغناء عنها، إذ حوّل نفسه خادماً للنظام، ليحمي أملاكه في منطقته. تابع حيدر بعدها استقطاب المتطوعين للقتال في صفوف الميليشيات الموالية مثل “كتائب البعث” و”قوات الدفاع الوطني” و”الفيلق الخامس اقتحام”. وصار يخطب بالمقاتلين الجدد وهو يرتدي اللباس العسكريّ، مذكراً إياهم  بـ”عظَمة” الرئيس بشار و”حب الوطن” بلهجة كتب القومية البعثية المقررة في المدرسة. قُتل العشرات من أولئك المقاتلين وأُعيدت جثثهم إلى ذويهم كـ “شهداء” وفق وصف وسائل الإعلام الموالية للنظام.

السقوط ومصاهرة “آل الأسد” في المنفى

سقط حيدر بسبب رغبته في كسب الشرعية كفرد في طبقة التكنوقراط، والوجه المحَدّث للجيل الجديد من الخبراء والمستشارين المساعدين لبشار الأسد في بداية عهده، سواء من المستقلين أو البعثيين. أدار حافظ الأسد سوريا عبر تنسيق الإدارات المحلية، بمن فيهم الزعامات العشائرية والدينية من داخل حزب البعث وبإشراف أجهزة المخابرات. في المقابل، حين تولى بشار مقاليد الحكم، أدار البلاد كـ(شركة) هو مالكها، فيما كانت شخصيات كابن خاله، رامي مخلوف، ورجل الأعمال محمد حمشو، تدير قطاعات حدّدها الأسد. احتاجت هذه الشركة/ الدولة، كي تجذب المستثمرين، إلى طبقة من التكنوقراط على رأس مشاريعها. نتيجة ذلك، اشتدّت شراسة الضغوط سعياً الى التميز والظهور كنخبة ماهرة ذات تعليم عالٍ.

فشل حيدر في أولى محاولاته شراء شهادة جامعية من روسيا، التي سافر إليها لمدة قصيرة بحجة العلاج عام 2006، نجح بعدها في شراء شهادة دكتوراه عبر شبكة احتيال محلية. وقام عام 2016 برشوة أحد المهجّرين قسراً – لن نُفصح عن هويته لأسباب تتعلق بسلامة مصدر المعلومات – ليتقدم عوضاً عنه في امتحانات كلية الحقوق، وتخرّج حيدر في كلية الحقوق بدمشق في العام التالي.

تقدم حيدر مطلع عام 2018، بطلب إلى وزارة التعليم العالي لمعادلة شهادة الدكتوراه المزوّرة، إلا أن عاطف نداف، وزير التعليم العالي، ضبط العملية وأبلغ عماد خميس، رئيس الوزراء، الذي أبلغ الرئيس بشار الأسد. وفي 24 كانون الثاني 2018، أُعفي حيدر من أمانة فرع حزب البعث “بسبب تزويره شهادة جامعية، ولأسباب أخرى عديدة” لم يفصح النظام عنها. 

فرّ حيدر إلى الإمارات العربية المتحدة بعد مدة وجيزة. وصدر لاحقاً، حكم غيابي بسجنه تسع سنوات ونصف السنة على خلفية تحويله، لمصلحته، ملكية عقار مملوك لبلدية قرى الأسد بقيمة خمسة مليارات ليرة سورية (10 ملايين دولار أميركي). ومع ذلك، تكتّمت وسائل الإعلام الموالية على ذلك الاتهام.

مهّد حيدر لتلك الصفقة عبر إهدائه سيارتين فاخرتين لعلاء منير إبراهيم، محافظ ريف دمشق، الذي أُعفي لاحقاً من منصبه من دون إيضاح الأسباب، ومن دون تعيينه في منصب جديد. أرضى حيدر شخصيات نافذة أخرى على رأسها اللواء محمد ديب زيتون، الذي غدا بعد أشهر رئيساً لمكتب الأمن الوطني لحزب البعث.

تزوج حيدر في المنفى الإماراتي  من سيدة من عائلة الأسد، وواظب على حضور المناسبات الوطنية من انتخابات رئاسية وافتتاح للجناح السوري في معرض إكسبو دبي وغيرها. وظل يبث عبر صفحته على “فيسبوك” أشواقه للرئيس بشار وشقيقه ماهر وينشر صورهما مرفقة بعبارات الفخر والتمنيات والتهاني. كما استمر في مواكبة المناسبات في قريته، يعزي في جنائزها ويهنئ في أعراسها بل ويحضر بعضها عبر “واتساب”.

هدد حيدر في كانون الأول 2018، في فيديو نشره على فيسبوك، بكشف قضايا فساد في الدولة. وأكد أن دافعه كان تصريحات عماد خميس، رئيس مجلس الوزراء “حول مكافحة الفساد”، وأحد الوزراء – لم يسمّه – والتي “تستخف بعقول الشعب”، إلا أنه حذف الفيديو بعد فترة وجيزة نافياً التهديدات.

إصلاحات إعادة الإعمار

تغير اسم ضاحية “الشيخ زايد” إلى “رابية الشام” عام 2019، وانتخبت “جمعية بركة” مجلس إدارة جديداً يضم من بين آخرين، حمزة آصف شوكت، نجل صهر الرئيس بشار الأسد، إلى جانب رئيس مجلس الإدارة، محمد زيدان، نجل اللواء الراحل عزت زيدان، القائد السابق للقوات السورية العاملة في لبنان. وفي شباط / فبراير 2021، قال زيدان أنه أُعيدت 52 فيلا الى أصحابها كان قد تم تغيير ملكيتها بعمليات احتيالية.

 وأشارت وسائل الإعلام الموالية للنظام في الآونة الأخيرة، بما فيها تلك التي تديرها الدولة، إلى فساد حيدر، وذكرت أن جميع ممتلكات ضاحية “الشيخ زايد” التي تبلغ مساحتها خمسة كيلومترات، مخالفة للقانون. “تم شراء أراضي الضاحية والمباشرة في بنائها بالتواطؤ مع بلدية دير قانون [في عهد حيدر] ومن دون وجود رخصة”، هذا ما نقلته صحيفة “تشرين” اليومية عن سامر بيتموني، رئيس اللجنة الحكومية لدراسة واقع “جمعية بركة” – بما فيها ضاحية “الشيخ زايد” – في كانون الثاني 2020. وأضاف بيتموني: “ذلك كله مخالف للأنظمة وتم من دون وجود رخصة. بعض الأبنية بُني في حرم خطوط كهرباء التوتر العالي، وبعضها أنشئ خارج أراضي الجمعية”.

 اتهمت صحيفة “تشرين” في المقال ذاته محمد صبحي الهوا، أول رئيس لـ”جمعية بركة”، بـ”الهروب إلى باريس عام 2012 وسرقته 800 مليون ليرة سورية (11 مليوناً و190 ألف دولار أميركي) من صندوق الجمعية”. أنكر الهوا الاتهامات قائلاً أنه عَمِل على مرأى من السلطات، وأن شخصية عسكرية كبيرة من داخل النظام أخبرته أن بإمكانه العودة إلى دمشق، وأن “سجله نظيف”. وأشار الهوا الى أن حيدر سطا على عقارات، منها ما هو ملك له، بين دير قانون ويعفور والديماس وقرى الأسد وجديدة الشيباني (جديدة الوادي).

قدّر الهوا، على صفحته على “فيسبوك”، عقاراته تلك بعشرة ملايين دولار أميركي. وأضاف: “تسبب حيدر في سجن محاسبة الجمعية سابقاً سمر النايف حتى يتمكن من الاستيلاء على عقاراتها في مشروع “طلة الوادي” السكني في دير قانون البالغة قيمته نحو 12 مليون دولار أميركي”.

لم يتجاوز عدد قاطني “الشيخ زايد” حتى عام 2020، العشرين شخصاً من العدد الإجمالي للمكتتبين الذين يبلغ عددهم 2400. ولغاية تاريخ نشر هذا المقال، ما زالت معظم الفيلات على الهيكل وغير مكتملة.

حضن الوطن المفتوح للرشاوى

نجح حيدر في هندسة عودته إلى سوريا على رغم الانتكاسات التي مرّ بها، إذ أُلغي الحكم القضائي بسجنه بعد أن دفع رشاوى بقيمة 500 ألف دولار أميركي،  200 ألف دولار ذهبت إلى قضاة نظروا في قضيته، و100 ألف دولار كتبرع لمؤسسة العرين الإنسانية، التي تديرها أسماء الأسد، عقيلة الرئيس بشار. أما باقي المبلغ، فلم نتمكن من تحديد وجهته. وبناءً عليه، عاد حيدر في 18 تموز/ يوليو 2021، من الإمارات العربية المتحدة إلى سوريا. وفي 19 تموز 2022، صدر قرار مجلس فرع نقابة المحامين بريف دمشق بمنح حيدر لقب أستاذ بالمحاماة، تبعه قرار مجلس نقابة المحامين السوريين في 15 آب/ أغسطس من العام نفسه. وهكذا أصبح حيدر عضواً في نقابة المحامين في سوريا على رغم أن عضويته في النقابة مخالفة للقانون، إذ لم يتدرب في مكتب محام، ولم يجتاز اختبار القبول في النقابة، ولا يمتلك سيرة حسنة تؤهّله ليصبح محامياً.

الحفاظ على التوازن

يتمسك حيدر بولائه لبشار الأسد بعد أن أصبح “محامياً”، ومع “برستيجه” الجديد لن يكون باستطاعته تغيير ولائه طالما أن النظام السوري هو الطرف الأقوى في محافظة ريف دمشق بتعاون استراتيجي مع إيران. وإثر ترسيخ ذلك التحالف، ستبقى مشاريع حيدر وطموحاته معلّقة في ميزان السياسات الإقليمية.

المفارقة، أن حيدر عالق في مربع رقعة الشطرنج الخاص به من دون وجود مكان يقفز إليه، هو محاط بالقوى المتصارعة في سوريا، فثكنة الإمام الحسين (أو ثكنة الشيباني) تقع غرب دير قانون وضاحية “الشيخ زايد”، وتشغل الفرقة الرابعة آلاف الكيلومترات بين دمشق والحدود اللبنانية، وتضع يدها على عقارات عدة تعد الأغلى ثمناً في سوريا. إذ قال مصدر عسكري أنه وفقاً لوزارة الدفاع، فإن الفرقة الرابعة تسيطر على أكثر من 105 كيلومترات مربعة في محافظة ريف دمشق – أي حجم باريس أو العاصمة دمشق.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.