fbpx

الذكورة الحصريّة في الدراما المصرية… نسر يحلّق في فضاء الحارات 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تُتم شخصية “جعفر” كِمالة القدرة والفحولة المُطلقة، فهو مُتحقق اجتماعياً، عُمدة وكبير منطقة ولسان حُكمها العادِل، ومادياً، إذ يمتلك ثروة ضخمة تصلُ إلى إقراض رجال الأعمال، وهو إقراض بالربا، مرّ للمفاجأة مرور الكرام على العاطفة الدينية، وُمتحقق أيضاً جنسياً، لديه أربع زوجات بجدول أسبوعي، وشجار أنثوي حاد حول الظفر بنظرة رضا من جعفر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حفلت السنوات الفاصلة بين الآن و ما بعد “كانون الثاني/ يناير- 2011” مباشرة، بتطوّر واضح في استعادة الحضور الجماهيري للدراما التلفزيونية، من خلال التطور التقني والترويج للأعمال الدرامية باستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ، إضافةً إلى تغيّر السياقات الحكائية الدرامية ومُحاولتها مُحاكاة الواقع بشكل نمطي، مُطعّم في غالبية أشكاله بنماذج ذات بُطولة مُفتعلة أو بعيدة من التحقق واقعياً.

تباينت الصور الجديدة للعمل الدرامي المصري خلال هذه السنوات، واختلفت القوالب السنوية طبقاً لحاجة السوق، ما بين مُسلسلات الكومباوند والرفاه الاجتماعي وتأطير مُشكلات -مُستحقّة المُعالجة- في أدنى شرائح العيش الآمن داخل صورة آمنة للمحيط المكاني والزماني، وبين دراما الشؤون المعنوية، والحذق الفنّي المُبارك مؤسسياً.

إضافة إلى الجدل السنوي حول نمطية الشخصيات وحكاياتها، تطويع مُحيطها وظروفها لينسحقا أمام بطولتها الكاملة، على نحو مُغاير للواقع، والجدل أيضاً حول الأساس التاريخي لبعض الأعمال، مثلما يحدث حالياً في “سرّه الباتع” و “رسالة الإمام”. الملاحظ بشكل عام، العلاقة بين الحضور الجسدي لأبطال المُسلسلات، ذات الطابع الشعبي بخاصة، وبين الخطاب الاجتماعي ومدلولاته وانعكاسها على المُتفرجين. 

تكوّنت صورة البطل الشعبي التي نراها حالياً، بدءاً من نموذج مُغاير تماماً، وهو شخصية “عشري – عمرو واكد” في مسلسل “إبراهيم الأبيض”، شخص هزيل جسدياً وجدير بالهامش، يبكي بضعف ويحتاج إلى صديقه “إبراهيم الأبيض – أحمد السقا”. لدى عشري سمات جسدية وواقعية، تتأرجح بين القدرة والعجز تشتبك مع الواقع وتنعكسُ عليه، لذلك فإن ضعفه في الفيلم، يستحيلُ إلى ضعف عمومي، يُمكن لشخص آخر، في سياق زمني واجتماعي مُختلف، أن يشتبك معه. 

لاحقاً، ومن رحابة الالتزام الواقعي إلى الفقر الفنّي وصعود إنتاج نماذج تنتقلُ من الصورة إلى الشارع ، ظهر المُمثل محمد رمضان في 2012 بفيلم “عبده موتة”، ثم “قلب الأسد” في 2013، ابن حارة فقيرة يُطلق عضلاته على الكاميرا، ومع أن صراعاته كلها محسومة لصالحه، إلا أنه صُدّر كنموذج حصري لأقرانه في الحواري والمناطق الشعبية. 

النموذج الرمضاني نفسه، انتقل مُخاطباً قطاعاً أوسع، وعلى اختلاف الحكاية، استقبلت المنازل والمقاهي ومجتمعات التواصل الاجتماعي شخصية “رفاعي الدسوقي” وامتدادها “ناصر” في مُسلسل “الأسطورة – 2016”. البطل مُنتصر مثلما هو، لدينا فقط محطات من الموت الوهمي، لكن البطولة الجسدية أصبحت مُنمّقة أكثر، دخلت إلى عالم الكِبار والغنى، بينما المرأة ظهرت في المُسلسل، عن طريق استقطاب للسردية السائدة والمُحافظة مُجتمعياً، هي ليست أكثر من جسد تابع، وجوده مدفوع ناحية اكتمال صورة “البطل”. 

من أسطورة واحدة إلى أساطير عدة، “سريّة وسفينة” في مُسلسل “ملوك الجدعنة – 2021″، الذي رأينا فيه الممثلان مُصطفى شعبان وعمرو سعد، ضيفين جديدين على النموذج البطولي الجديد، الخارج حالًا من صالة الجيم، تطفح منهما طبائع الإطلاق الخيري والنباهة الخطابية والقدرة الجسدية على ضرب من “على الله حكايتهم” مثلما قال ملك التستستيرون في الدراما المصرية، المُمثّل أحمد العوضي. 

C:\Users\TECHNICAL\Desktop\E_XWeX4WEAEQVUc.jpg
عمرو واكد (عشري) من فيلم “إبراهيم الأبيض” 
C:\Users\TECHNICAL\Desktop\2884012_1618813024.png
شعبان وسعد – ملوك الجدعنة

تزامنت مع التطور السريع “للفحولة” في الدراما المصرية، مُحاولات مواكبة لذلك التحوّل واقعياً، من خلال خطابها المُختزل في جمل عدة عبارة عن صدر ورد بين الكلمات، وبعيداً من معناها، لا بد أن تحتوي على التمكّن والقدرة على الإيذاء، مع ضرورة العفو عن رحمة ، وإضافة إلى ذلك حلّ الجسد كرمز مُمتد، فُتحت صالات الجيم على اتساعها، وأصبح الأخير مادة أحد وسائل ترويجها هو تحقيق “الرجولة” بالجسد المثالي. 

يدفعنا ذلك التداخل، ما بين الدرامي والافتراضي والواقعي، إلى النظر حول مشوار البطل الشعبي الدرامي خلال السنوات الفائتة، من خلال تماثلات الجسد، واعتباره رمزاً له تنعكس عليه دواخل الأكواد الثقافية والمجتمعية، ومن ثم يعكسها بحكم المساحة كمركز قُوى لديه صلاحية على الشاشة التلفزيونية. كيف يُمكن للجسد أن يكون مادة لتمثيل الأفكار، للتماهي معها، ولإعادة إنتاجها حسبما تقتضيه مُتطلبات السوق؟ وكيف يُمكن للجسد أن يوهم بتعويض – من خلال الشاشة- ما يفتقرُ إليه الرجال في الواقع؟ 

الذكورة الحصرية 

قبل صعود الحداثة الغربية، لم يكن الجسد أكثر من مادة للبحث الفلسفي في إطار ثنائية الروح والمادة. جاءت الحداثة ومعها الاهتمام بالجسد كمادة تعكسُ دواخل السياقات المُجتمعية والخطاب العام، وتجلّى ذلك في الحركات الفنّية والثقافية في النصف الثاني من القرن العشرين. مع التداخل السياسي، وهيمنة الخطاب المؤسّسي، أصبحت لدى المجتمع مفردات خاصة تنعكسُ على الجسد، الذي بدوره يستقبل طيّ أكواد كُبرى، ومن ثم يُصدّرها، ثم تم تطعيم ذلك بثقافة الاستهلاك في ما بعد الحداثة، التي حوّلت الجسد نفسه، وما يطويه من خطاب، إلى أداة يُمكن التربّح منها وبها. 

الجسد السليم المُطابق لمُتطلبات الذكورة والجسد العادي، الجسد المنبوذ والمثير، تباينات تخلقها ثقافة المجتمع ذاته، أحالت  الجسد إلى وجود اجتماعي، له معنى وقيم وقدرة على المُخاطبة. 

في الموسم الرمضاني قبل السابق، 2021، ظهرت لدينا ثلاثة نماذج مثّلت الصور الأمثل للذكورة المُطلقة، المُطعّمة بثيمة البطل الأميركي الذي تمنعه كل الظروف للتحقق، ثم، وبشكل فردي تُعيده الظروف ذاتها إلى ذروة النجاح. 

في مُسلسل “ملوك الجدعنة”، يتشارك الممثلان “عمرو سعد – سرية”  و “مصطفى شعبان – سفينة” البطولة، والطموح والأزمات وبنية الجسد نفسها أمام الكاميرا بسياق أو من دون سياق. 

يُحب سرية، بنت جميلة من بنات الحارة، تمنعهما الحاجة المادية من الزواج، تبعدهما الأحداث من بعضهما، وطبعاً تُعيدهما في النهاية. في سياق مُماثل من جهة الضرورة العاطفية المُطعمة بمثالية الخير والعطاء، سفينة مُتعلّق بأخته ومُدافع عنها دائماً في زيجتها السيئة. الشخصيتان مربوطتان برباط عاطفي، ليس هو الأسوأ، لأن المُشكلة لا تكمن في أوليّة المادة الدرامية نفسها، لكن آلية تطويعها لتأخذ بُعداً لصالح التركيبة المُتقنة للبطل، هو ما يُحيل الدراما إلى رحلة “اكتمال” البطل رغماً عن كل العقبات. 

في “برومو” ملوك الجدعنة، هناك خناقة، سرّية وسفينة ينتصران، أجساد مطلوقة، شرّ لا بد من مواجهته، أصوات بديلة تضرب المثل بالبطلان. عوامل التقديم ذاتها، نراها في مُسلسل “اللي مالوش كبير” بطولة “ياسمين عبد العزيز- غزل” و “أحمد العوضي- الخواجة”.

المُمثل أحمد العوضي لا يحتاج إلى مقال لتناول اعتماده الكُليّ على الخشونة، الجسد المثالي والجُملة المضبوطة إيقاعاً ووزناً. يلتقي الخواجة بغزل، وبسبب اختلاف بسيط، تقول له “لو عايز تهزّق راجل هاتله واحدة ست”، يفحمها الخواجة قائلًا “على الله حكايتك يا ست”. رغم أن الخواجة رجل مُتزوج، يُحبّ غزل، ويخوضان معاً رحلة ضد “عبد تيمور- خالد الصاوي”، زوج غزل السيئ ودلالة الشر المحض. فالعوضي لا يرد على “واحدة نسوان” 

الفيديوات الترويجية للمُسلسلين كافية لمعرفة قالب البطل الشعبي، سواء في حارة شعبية أو كومباوند، إضافة إلى تطابق العداوات والثيمات الدرامية وحيثيات الانتصار، يحضرُ الجسد مُحققًا التطابق، كأنه منسوخ، أجساد مبنية عدة بشكل مثالي وبالمعايير نفسها، ويحضر بالتتابع التشابه في آليات تفعيل ذلك الجسد كمادة لقراءة الدوافع المُتمثلة في قدرة الأبطال الثلاثة، إذ يحوم كُل شيء حول الخضوع لها، تقديرها، الخوف منها، إما على سبيل الرغبة من المُحيط المُبارِك، أو على سبيل الخوف من الطرف العدو. 

يكتسبُ جسم الإنسان تعريفاته وقيمته من خلال تصوّر المُجتمع له، يُشير ديفيد لوبرتون إلى تأثير المُجتمع على تعريفات الجسد في “أنثروبولوجيا الجسد والحداثة“، وينقل عن مارس دوغلاس أن الجسد الاجتماعي هو من يُحدد الطريقة التي ننظرُ بها إلى الجسم الفردي والطبيعي. تنعكسُ الإملاءات – من خلال الوسائط الفنّية كمثال فعّال – بمختلف أشكالها على الصورة المثالية للجسد، حتى يُصبح وجوداً جماعياً له غالبية، وهو بدوره يُحدد الرؤية المُجتمعية المُقيّمة للجسد، ولا تتوقف عن كونها قياساً للتحقق الفردي، بل تمتد إلى اعتبار مزايا الجسد مادة لاستقطاب المزيد. 

لهذا السبب، تسبقُ البطولات ذات الفحولة الجودة الدرامية، لأن العمل الدرامي يخضعُ للخطاب الجسدي وما يُصدّره، كأولوية سابقة على الرؤية الفنّية، وبالتالي ندور في حلقة من التطوير السريع والفج، يُضاف إلى الجسد الرجولي مزيد من التركيبات الفرعية، والتي تتخذُ بُعداً قيمياً حال إضافتها إلى الجسد المُنظومة. 

مع بعض الإضافات والتنسيق الباحث عن الاكتمال، ولو بالعافية، يتجلّى لدينا البطل برحلة لا تشوبها شائبة، يستحيلُ الفقر إلى سبب فرعي للفشل، والعقبات هي بالضرورة أقل من الرغبة والجدعنة والدأب الفردي، وكل شيء مُستقر على حاله، ينتظرُ الانتصار، لأن كل الشخصيات المُحيطة – بخاصة النساء – تكتسب وجودها من قدرة البطل على النجاح. يتمركزُ الجسد البطولي أمام الكاميرا، يشغل حيّزاً كبيراً منها عادة، هو كفاية لدلالة السيادة على عالمه،  رغم أن المناطق الشعبية تميلُ إلى التواجد ككتلة، وتتحاكم إلى الجماعية حتى ولو في إطار رجعي. 

حينما يتوسّط الجسد مركز الصورة، يضرب وينتصر ويحصل على حبيبته وحقّه المادي المنزوع من فم الأسد\ الدنيا، فإن هذه الصورة تستحيلُ إلى خطاب حول الطموح والتحقق، وأن المشاهد، يستطيع، فردياً، امتلاك هذا النمط الجسدي، يقطع شوطاً كبيراً في التحقق، في القدرة على تغيير المصير. 

تجلّيات الذكور والنسور

تخضعُ معايير تناول الجسد في سياق اجتماعي لأربع آليات: إعادة إنتاج سكّان المجتمع عبر الوقت، التحكّم في الجسد عبر قوانين المكان، كبح الجسد الداخلي “الرغبات”، واحتمالية نفي ذلك من خلال حضور الجسد في حيّز اجتماعي.

يعيشُ مشاهدو الأعمال الدرامية، وما ينطوي داخلها من قطاع واسع من المُشاهد “العادي”، مع الرموز والمعاني الحاضرة في سياق كل حدث يُرى في عمل درامي، لذا فإن عامل الثبات – مع تطعيمات الإضافة والتغيير حسب الكود النمطي للجسد – يخلق حالة من الإقناع لدى المُشاهدين، لأنهم يُعايشون بطولات سنوية مُتكررة، جميعها مُكللة بالنجاح، لذلك أعاد الثنائي، العوضي وياسمين عبد العزيز، ثيمة “اللي مالوش كبير” نفسها في مُسلسل “ضرب نار” المعروض حالياً، والذي يتخذُ فيه العوضي النسر صديقاً له، وكانت هذه الصورة الأداة الترويجية للمُسلسل، قبل حتى معرفة حكايته، بينما حوّل عمرو سعد و مصطفى شعبان “ملوك الجدعنة” إلى مسلسلين يُعرضان الآن “الأجهر- بابا المجال”، مع الحفاظ على نمط الفحولة الجسدية نفسه ومشروع البطل ضروري الانتصار. 

مع تكرار ذلك النموذج، يُفعّل التأثر به، بتبعية بنيته الجسدية وما يُمليه هذا النمط من مُمارسات لإحالة الجسد إلى “خطاب اجتماعي”، يتحوّل الخطاب الاجتماعي إلى مادة إنتاج جديدة لسلوك الأفراد، آليات تفاعلهم، ماذا يُمكن أن يحدث خلال استحقاق كامل تجاه كل شيء، حينما تنتقل أجساد المُسلسلات هذه إلى الواقع؟ وكيف ستكون المواجهة بين الافتراضي، المُنتقل من واقع مُملى ومُلفّق، إلى واقع حقيقي له قوانين تلزم كل طبقة عند مُفرداتها؟ 

C:\Users\TECHNICAL\Desktop\2051681_0.jpg
عمرو سعد من مُسلسل “الأجهر”
C:\Users\TECHNICAL\Desktop\20230206205253232.jpg
مصطفى شعبان “بابا المجال” 

من بين النماذج المنثورة، يأتي “جعفر العُمدة” محُلقاً في فضاء السيدة زينب بدلاً من النسر صديق “جابر” في “ضرب نار”. احتفظ محمد رمضان ببطاقة الحضور الأقوى عقب مُسلسل “الأسطورة – 2016” الذي كان حديث الساعة، كان هذا المُسلسل تحديداً انتقالاً في “الجسد الرمضاني” وتنويعاته الدرامية، لأنه تحوّل من مُخاطبة قطاع يطوي بداخله عنفاً كتيماً، إلى مُخاطبة مساحة أكثر سعة وعادية، وهذه تحديداً الأكثر احتياجاً الى الجسد البطولي. 

يوم كتابة هذا المقال، خرج جعفر العُمدة من السجن بعد البراءة من تُهمة مُلفّقة، ومن فرحة المشاهدين، باركوا له بتعليق “بانر” في الشارع، ومنهم من وزّع مشاريب مجانية على الناس، حتى المزاج العام لسخرية منصّات التواصل الاجتماعي، انشغل بـ”ميمز” كثيرة حول عالم جعفر. 

ما يجعل رمضان أكثر جماهيرية وتأثيراً، قدرته على سبك الرحلة المُعتادة سنوياً، والعودة إليها حينما لا تنفع المُحاولات الجادة، مثلما فشل مُسلسله “المشوار” في الموسم الرمضاني الفائت. يشغلُ الجسد في مُسلسلات رمضان أبعاداً أكثر تركيباً عن نمطية البطولات الشعبية الأخرى، لأن الصورة المُتضخّمة لنجومية رمضان، تجعل مُحتواه نموذجاً اجتماعياً مُصغّراً، تمثيلاً لثقافة، تتحددُ صورة الجسد فيها من خلال نماذج المعرفة المُحيطة به، هي من تضعه في مكانة اجتماعية مُعيّنة. 

في المُسلسل الحالي، تُتم شخصية “جعفر” كِمالة القدرة والفحولة المُطلقة، فهو مُتحقق اجتماعياً، عُمدة وكبير منطقة ولسان حُكمها العادِل، ومادياً، إذ يمتلك ثروة ضخمة تصلُ إلى إقراض رجال الأعمال، وهو إقراض بالربا، مرّ للمفاجأة مرور الكرام على العاطفة الدينية، وُمتحقق أيضاً جنسياً، لديه أربع زوجات بجدول أسبوعي، وشجار أنثوي حاد حول الظفر بنظرة رضا من جعفر. 

C:\Users\TECHNICAL\Desktop\elaosboa27465.jpg

يُشير كتاب “عالم ماك: المواجهة بين التأقلم والعولمة”، إلى أن الجسد هو المادة الأكثر فاعلية في تحقيق التوسّع الاستهلاكي، لأنه المادة المركزية لعكس حالة “الترف”. في حالة جعفر، الترف الجسدي ساحرٌ للمُشاهد على المقهى، أو في المنزل بعد الإفطار، لأن هذا النموذج المعروض أمامه، يمتلك الكثير من مُفردات المُشاهد، من أعراف حاكمة والتزام بالتصوّر الشعبي للقاعدة الدينية، وميل نحو الأصالة والجدعنة والطيبة وتقديس العائلة. 

يحضرُ جعفر ببنية مُهندمة، جاهز لأي شجار، “هيكسبه” طبعاً، وجاهز – خلال تجلٍّ مُضخّم من خلال الكاميرا- لأي مُشكلة عمل، لأنه “هيحلّها” طبعاً. للجمع بين الحُسنيين (الحفاظ على إضافات جديدة- إعادة انتاج أفكار آمنة سابقاً)، أعاد محمد رمضان إنتاج شخصية نور الشريف في “عائلة الحاج متولي” ومصطفى شعبان في “الزوجة الرابعة”.

“جعفر العُمدة” ليس بتقليدية “الحاج متولي”، فالأول أكثر قدرة وعافية، جسده ما بين ذروة الشباب واستقبال حنكة الشيب، يظل جزء من القالب واحداً، في ما يتعلّق بالمساواة ومُراضاة النسوة الأربع بما يُرضي الله، هذه الصبغة الدينية كانت “غطاء” الحاج فوّاز، المزواج المُتدين في “الزوجة الرابعة”. 

تكمن إحدى آليات الانتشار الجماهيري لجعفر العُمدة ولشخصيات محمد رمضان الدرامية، في سحب بعض المُسمّيات العمومية من الواقع، ثم قولبتها في إطار يُعيد تحديد مراكز القوى، وبصورة تلفيقية وبضعة كادرات، يُعاد إنتاج النموذج الدرامي من الافتراضي إلى الواقعي، لأن الأوّل مُطعّم بالرغبة في الطموح والمُشابهة، وهذه إحدى آليات صناعة الثقافة عبر الوسائط المرئية، أن يُعطى إيحاء كاذب بالاختيار، ويكون الجسد المادة الأولى لتصدير إمكان التحقق في اتجاه التمكّن. 

على مستوى فرعي، تحضرُ الأجساد المُحيطة بشخصية جعفر كهوامش لا تنفصلُ عن المتن، النسوة الأربع على اختلافهن، ينتمين جميعاً إلى المركزية الجسدية لجعفر، لأن نشاطهن داخل الحكاية يذهبُ تجاهه، الطموحات وتباينات الجمال والمكائد، وحتى الود الإنساني بين الضرائر، ذلك كله يدور في فلك جعفري، لا يصدُر عن أي من الشخصيات النسائية فعل مستقل، أو تجلٍّ جسديّ منزوع السياق عن التوجّه لصالح شخصية جعفر العُمدة. 

لتبعية الجسد الأنثوي باع طويلة من التأويل، فالسرديات الوطنية تلجأ إليه كدلالة على الشرف، كرامة الأرض، مصر الطيّبة الجميلة والعفيفة، لذلك فإن إحالة هذه التبعية في سياق درامي إلى تجلٍّ آخر، يُمثّل سُلطة عُليا ، مادة سهلة المُرور إلى المُشاهد، إضافة إلى سهولة مُغازلة الفحولة المصرية، التي تجدُ في امتلاك الجسد النسائي – مشّرع بتعدد الزوجات – نافذة ورخصة مجتمعية للتحقق الرجولي. 

تأثير حضور جعفر العُمدة، لا يتأتّى فقط من مُعالجة فقيرة للواقع تقوم على مُغازلة النمط الذكوري الشعبي الساكن في أذهان الناس، وإنما يكمن في تحقيق “قالب” كامل لهذه الشخصية، كيف تومئ وتغضب وتبكي، وحتى كيف تمشي، كيف تعدِلُ بين نسائها، وكيف تُحقق المُوازنة بين التديّن في إطار تصوّراتنا عنه، وبين تضمين اللذة ضمن النشاط الجسدي الحاكم. 

تبدأ كل هذه الآليات من الجسد، المادة الأولى لعكسِ الترف المُمكن، الذي يُغازل أذهان المُتفرج، لا يمتلكُ جعفر العمدة أقداماً أو أيادي زائدة، لذلك فإن مُخاطبة الجسد المُشاهد، توحي بواقعية التمنّي، يُمكن للجسد الجماعي/ المُشاهِد، أن يكون مشروعاً للجسد الجعفري، النموذج والمرجع. 

لا تمنع البهرجة الفنّية في مسلسلات جعفر العمدة والتنميط البادئ من مُواكبة المزاج الاستهلاكي المُعاصر، أن الحارة الشعبية في مصر خالية من هذه الثقافة التراتبية وسيادة الجسد الرجولي، مع تبعية الجسد الأنثوي بالكامل له، لكن هذه المُمارسات تتدفقُ في الواقع ضمن إطار مُركّب، لا يقوم على مُباشرة الصورة الدرامية، عالم واقعي له تحاكماته وأدوات عيشه وثقافة ذات خصوصية، يُمكننا فهمها خلال التزام في النقل، لا تسبقه بطولة الجسد أو مركزيته، أو مثاليته التي تُنافي الهيكل التقليدي للجسد الشعبي، الهزيل أحياناً، ومُفرط السمنة في أحيان أخرى، والذي يكتسبُ حضوره خلال حيثيات مُتداخلة، فعلى الأقل، لا تأتي السيادة الذكورية في المناطق الشعبية من ضرورة الذهاب إلى صالات الجيم.