fbpx

أوروبا والهجرة… هل “الاستبدال السكاني” كبير أم صغير؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعتمد الخطاب الموصوف بالتقدمي اليوم، على أسس ليبرالية، ويتبناها في الحديث عن التسامح والتعددية وقبول الآخرين والغنى بالاختلاف، في تجاهل لما تتركه الهجرة من آثار، سواء على المهاجرين المجبرين غالباً على ترك بلادهم، أو على المجتمعات التي يحلّون فيها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يكاد يتراجع الحديث عن “الاستبدال الكبير” في بعض الدول الأوروبية، حتى يعود محمولاً على أحداث، تُشعل النقاش حول التحولات الاجتماعية المتسارعة، التي تعيشها مجتمعات أوروبا خلال العقود الأخيرة، بخاصة من ناحية تركيبتها السكانية، والفجوة الحاصلة على هذا الصعيد منذ السبعينات، إثر انخفاض عدد المواليد، وارتفاع معدلات الأعمار، ما يُهدّدُ النمو الاقتصادي، ويُضطر دول القارّة العجوز إلى سدّ هذه الفجوة باستقدام المهاجرين.

بيدَ أن وصول المهاجرين إلى دول أوروبا، لا يمرُّ من دون إثارة موجاتٍ من الاحتجاج والنقاش، تشغل الرأي العام. ففي ملف لها صدر عام 1985، بعنوان “هل سنبقى فرنسيين بعد 30 عاماً؟”، تساءلت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، عن شكل المجتمع الفرنسي عام 2015، محذرةً من أنه سيكون إفريقياً إثنياً، ومسلماً ثقافياً، وهو ما أثبتت الأيام أنه كلام غير دقيق ومبالغ فيه.

أما آخر جولات هذا الجدل، فكانت وراءه صورة رئيس الوزراء الاسكتلندي الجديد حمزة يوسف وأفراد عائلته، يؤدّون الصلاة على الطريقة الإسلامية، بعد فوزه بمنصبه، إذ أعادت الصورة نقاشاً حادّاً، بين من يرون فيها، دليلاً على مصداقية ما يسمونه استبدالاً للسكان الأوروبيين بالمهاجرين، وطيف من اليساريين والليبراليين عموماً، يرى فيها خطوةً تقدمية نحو الانفتاح والتعددية.

بين حدّي هذا النقاش، يبدو التساؤل مشروعاً حول حقيقة حديث اليمين المتطرف عن الاستبدال الكبير، فهل هذا الاستبدال موجود، أم أنه مجرّد تخوّفات؟ وكيف يردّ خصوم هذا الخطاب عليه؟ وهل يمكن ألا تترك موجات الهجرة آثاراً مختلفة سواء على المهاجرين أو على مجتمعاتهم الجديدة؟

وصول المهاجرين إلى دول أوروبا، لا يمرُّ من دون إثارة موجاتٍ من الاحتجاج والنقاش، تشغل الرأي العام.

عن أبوّة المصطلح

استخدم الكاتب رونو كامو (1946) مصطلح “الاستبدال الكبير” للمرة الأولى، في كتابه “أبجديات البراءة ” الصادر عام 2010، ثم جعل العبارة عنواناً لكتاب مستقل صدر عام 2011، وفيه يفصّل ما يراه عملية إحلال ممنهجة لسكان جدد على الأراضي الأوروبية.

بالنسبة الى كامو الذي لا تخلو أفكاره من أبعاد مؤامراتية، فإن سلطات الدول الأوروبية تتساهل إلى حدّ التواطؤ، في مواجهة عملية استبدال ديموغرافي منظّمة لسكان القارّة، بحيث يحلُّ محلَّ السكان الأوروبيين البيض، مهاجرون قادمون من دول الشرق الأوسط والمغرب العربي، وجنوب الصحراء الأفريقية، ليؤدّي هذا التحوّل الكمي بعدد السكان، إلى زوال المجتمع المسيحي التقليدي وتفتته، واستبداله بمجتمع آخر غالبيته من المسلمين والأفارقة.

ويرى كامو أن مواجهة ما يسميه “الغزو”، وهي واحدة من المفردات المتكررة لديه، لا تكون إلا في إطار سياسات أوروبية شاملة، ويعتبر أنه من الجنون التفريط بما بنته أوروبا بعد معاناة وحروب. إذ يهددها اليوم، شكل من أشكال “الاستعمار العكسي”، من مهاجرين يحملون ثقافة لا تتناسب مع أفكار وتقاليد العلمانية والمجتمع بجذوره المسيحية. وفي هذا السياق، تتكرر لديه مصطلحات يجوز وصفها بالحربية، مثل “الغزو” و”الاستعمار العكسي”، و”الإحلال الديموغرافي”، ويَعتبرُ هذا الإحلال أخطر من الاستعمار، لأنه نهائي ولا رجعة عنه. فالحلّ بالنسبة إليه هو عودة “الغزاة” إلى بلادهم، وهي دعوات تلقى صدى في أوساط اليمين المتطرّف، إذ عدا عن إعادة المهاجرين، تنتشر دعوات تطالب بسحب الجنسية ممن حصلوا عليها.  

عموماً، لم يخترع الناشط السابق في صفوف الحزب الاشتراكي رونو كامو شيئاً، بل أعاد جمع مجموع الخطابات العنصرية لليمين المتطرّف وتدقيقه، ورغم أنه كان كسب جزءاً مهماً من شهرته أواخر سبعينات القرن الماضي، حين أعلن عن مثليّته الجنسية، وأصدر كتاباً سِيَريّاً حول الموضوع عام 1979، إلا أن تحوّله الفكري اتجاه اعتناق أفكار يمينية متشدّدة، أعطاه تأثيراً واسعاً في أوساط هذا التيار الشعبوي الصاعد في الحياة السياسية الأوروبية اليوم.

ومن المثير للاهتمام في السنوات الأخيرة، تقارب شخصيات سياسية أو فكرية مثليّة مع هذا التيار، وحتى انضمامها للعمل في صفوفه، رغم أن أوساط  اليمين المتطرّف معادية للمثليّين، ولا تخلو من اضطهادهم، وفي هذا لا يعدُّ كامو وحيداً، فعلى سبيل المثال تترأّس السياسية الألمانية أليس فايدل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرّف، وهي مرتبطة بامرأة من أصول سيريلانكية، رغم كراهيتها المعلنة للمهاجرين. حيث  يبدو أن التحالف مع اليمين المتطرّف، أو حتى الانخراط العملي في صفوفه أولوية، في وجه المعركة الأهم أمام ما يعتبرونه “غزواً” و”أسلمة” للمجتمعات الأوروبية.

ومن اللافت للانتباه في السنوات الأخيرة، استقطاب اليمين المتطرّف ليس فقط للمثليّين، إنما لفئات من النساء أيضاً. رغم مواقفه المحافظة اتجاه قضاياهم، لكن باعتباره قد يدافع عنهم في وجه الأسلمة المتشدّدة، التي تظهر للعيان في بعض أوساط المهاجرين وأحيائهم، حيث لا يندر أن تتعرّض النساء أو المثليّون لاعتداءات، وهذه من الوقائع الأساسية التي يستلّغها اليمين المتطرّف، ويبني عليها خطابه المُعادي للمهاجرين.

 يتبنى هذا التيّار اليوم، شعارات وإن كانت شعبوية، تتحدّث عن الدفاع عن الشعب والأمة وهويتها، إلّا أنها تركّز كذلك على احترام القوانين العامة، والحرّيات الفردية، والمساواة أمام القانون في المجتمعات الأوروبية، في وجه ما يمكن أن تتعرّض له من انتهاك، في حال العودة الى القوانين الدينية لكلّ جماعة، والمقصود هنا بشكل أساسي الشريعة والقوانين الإسلامية، التي لا يندر وجود ناشطين إسلاميّين ينادون بتطبيقها في أوروبا، أو مَن يلجأ إليها احتماءً واحتيالاً على القوانين، بخاصة في ما يخصّ الأحوال الشخصية.

 من دون أن ننسى النقد السائد على ألسنة شخصيات اليمين المتطرّف اتجاه النظام الاقتصادي الرأسمالي، وهو ما يلقى شعبية وقبولاً واسعاً، لدى الفئات الشعبية والفقيرة المتضرّرة من الأزمات الاقتصادية، وسياسات نزع التصنيع وتفكيكه، رغم أن سهام هذا النقد لا تلبث أن توجّه بعدها باتجاه المهاجرين بوصفهم سبب الأزمة.   

ضمن هذا الإطار، تخدم نظرية “الاستبدال الكبير” صعود اليمين المتطرّف، إذ لا تغذيه فقط من الناحية النظرية، بل تقدّم له مصدراً مهماً لاستمرار خطاب التخويف، القائم على الدفاع عن الهوية، ومن المهمّ الإشارة إلى أن  كامو يرفض اعتبار “الاستبدال الكبير” نظرية أو فرضية، بل يعتبره “حقائق” قائمة على ملاحظاته العيانية.

في الردّ على الاستبدال الكبير

يأتي الردُّ على الاستبدال الكبير، من أوساط يسارية وليبرالية وأكاديمية عادةً، ويلعب هنا علماء الإحصاء والديموغرافيا والمؤرّخون المتخصّصون بتاريخ الهجرة، دور رأس الحربة العِلمية إذا جاز التعبير، في مواجهة تيار اليمين المتطرّف، وخطابه حول استبدال التركيبة السكانية وتغييرها.

ضمن هذا السياق، يعتبر عالم الديموغرافيا والدراسات السكانية هيرفي لوبرا، في كتابه “لا وجود لاستبدال كبير”، الصادر عن “منشورات غراسيه” عام 2022، أنّ “الاستبدال الكبير” يستند إلى الخوف والأوهام الموجودة في رؤوس من يؤمنون بوجوده. إذ لا تشير أرقام المهاجرين إلى إمكان استبدال السكان بآخرين على الإطلاق، ففي كامل القارة الأوروبية، خلال الفترة ما بين 2010 إلى 2012، لم تتجاوز نسبة المسلمين الـ 6 في المئة، وستصل في 2030 إلى 8 في المئة، وهي نسبة عادية لا يمكنها أن تكون “غزواً“. كما أن المهاجرين من أصول وأعراق متعدّدة، ولا يأتون من خلفية ثقافية واجتماعية واحدة، فهناك من هم أوروبيون، أو من جنوب آسيا وشرقها، إضافة الى العرب والأفارقة، والمشكلة التي يشير إليها لوبرا أن اليمين المتطرّف والمؤمنين بـ”الاستبدال الكبير”، يتعاملون مع مجموعات المهاجرين وكأنها كتلة واحدة، لها أفكار وتوجّهات وخطط مسبقة.  

يفنّد لوبرا، بالاستناد إلى الإحصاءات الديموغرافيّة، الأرقام المُضخّمة التي توردها شخصيات من اليمين المتطرّف في مداخلاتها، فعلى سبيل المثال يقول المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الفرنسية إيريك زيمور: “إن عدد اللاجئين الذين دخلوا فرنسا في الولاية الرئاسية الأولى (2017 – 2022) للرئيس إيمانويل ماكرون، بلغ 400 ألف مهاجر سنوياً”. وهذا رقم خيالي بطبيعة الحال، يشبه عنوان “لوفيغارو” المشار إليه في بداية هذا المقال، بينما يوضح لوبرا أن العدد يتراوح بين 250 إلى 275 ألفاً، من بينهم 74 ألفاً من الأوروبيين، عدا عن المهاجرين الموقتين الذين يدخلون بهدف الدراسة والعلاج، ما يعني أنهم لن يبقوا في فرنسا إلى الأبد، بل سيعودون إلى بلادهم، أو سيتوجهون إلى دول أُخرى. ويشير لوبرا إلى أنه يعيش في فرنسا اليوم 7 ملايين شخص، وُلدوا خارجها من المهاجرين، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى 30 في المئة من الفرنسيين لديهم أصول غير فرنسية، من جهة الأب أو الأم أو الاثنين معاً.

يربط لوبرا في محاججته بين خريطتين، الأولى لأماكن إقامة المهاجرين، والثانية لأماكن التصويت لليمين المتطرّف، إذ يجد أن المناطق التي يتراجع فيها عدد المهاجرين، تصوّت بشكل أعلى لليمين المتطرّف. ويرى أن رفض المهاجرين يأتي من تخوّفات لا تستند إلى حقائق بالضرورة. فعلى سبيل المثال، في ألمانيا تزداد نسب المهاجرين في المناطق الغربية، في المقابل لا يأتي التصويت الأكبر لليمين المتشدّد من هذه المناطق، بل يرتفع في المناطق الشرقية، وعلى المنوال نفسه في فرنسا، تصوّت بشكل أكبر لمرشحي اليمين المتطرّف، المناطق النائية التي لا يوجد فيها عدد كبير من المهاجرين.

في السياق ذاته ، لا ينكر لوبرا أن هناك أحياء تغيّرَ شكلها اليوم في أوروبا، بعدما سكنها المهاجرون، وأقاموا فيها أنشطتهم الاقتصادية، مثل المتاجر أو المطاعم التي تبيع منتوجات وأطعمة من بلادهم، فلم تعد هذه الأحياء تشبه ما كانت عليه قبل سنوات أو عقود قليلة، وربما تكون ضواحٍ مثل سان دوني قرب باريس، أو مولنبيك بالقرب من بروكسيل، خير مثال على ما يسمّيه لوبرا “الاستبدال الصغير”، وهو ما يردُّه إلى خطأ سياسات الاندماج وتوزيع المهاجرين، حيث تتركز نسبة عالية منهم في أطراف المدن الكبرى، ويشكلون مجتمعات مغلقة على نفسها. كما يعترف لوبرا بأن المهاجرين المتعلّمين القادمين حديثاً، وأبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين القدماء، هم أقوى صوتاً، وأكثر تعلّماً وقدرة على إظهار أنفسهم، وطرح قضاياهم على الرأي العام، ما جعلهم مرئيين على ساحة النقاش، ومنخرطين في الشأن العام بما يخص قضاياهم. ولا ينفي وجود مجموعات بين المهاجرين لا ترغب في الاندماج مع المجتمعات الجديدة لأسباب مختلفة.

يستند لوبرا إلى حقائق إحصائية وديموغرافية في كتابه ومجمل مداخلاته، ما يجعل الأمور معقّدة أحياناً، بخاصة أن خصومه من أتباع اليمين المتطرّف ونظرية الاستبدال الكبير، لا يُصدّقون هذه الأرقام من أساسها، ويعتبرونها مجرّد أكاذيب تصدرها السلطة المتواطئة في عملية استبدال السكان.

أيُّ أرخبيلٍ في انتظارنا؟

منذ مطلع الألفية، عاد اليمين المتطرّف ليبرز بقوّة في الحياة السياسية الأوروبية، ووصل إلى الحكم خلال السنوات الماضية في دول عدة، منها إيطاليا والسويد وهنغاريا، وتزداد حظوظه في فرنسا وألمانيا وإسبانيا، بحصد المزيد من الشعبية والأصوات والنفوذ. 

ومن الملاحظ أن الفضاء العام طبّع إلى حدٍّ بعيد مع خطاب اليمين المتشدّد، في ما يتعلّق بمسائل الهجرة والمهاجرين، بخاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية واستمرارها. هذا الحضور لليمين الجديد لم يأت من فراغ، فعلى مدى عقود، وبعد الحرب العالمية الثانية، غيّر اليمين المتطرّف من خطابه، مستبدلاً العنصرية البيولوجية التي باتت موضع نقد واستنكار، بالعنصرية الثقافية التي يمكن تمريرها، تحت حجج مختلفة. هكذا استُبدلَ الحديثُ الذي كان سائداً عن “لون بشرتهم، وشكل جمجمتهم” لهؤلاء الآخرين أو الأغيار، بإشارة أسهل وأقل كلفة إلى “ثقافتهم” بمعناها العريض والواسع، والتي قد تبدأ باللغة، إذ عادةً ما يتم ربطها بالعنف أو التخلّف أو التعقيد، ولا تنتهي برائحة خاصّة للأجساد أو الطعام يجري التذمّر أو السخرية منها.

ضمن هذا السياق، يتمُّ مزج الأمثلة العيانية بنظريات المؤامرة، التي تتحدّث عن أهداف النخب المعولمة، ببناء إنسان هجين وعديم الهوية والجذور، من خلال تنظيم واسع للهجرة، وإحلال القادمين الجدد مكان السكان الأصليين، وهو ما يمكن متابعته في مداخلات وخطابات وجوه بارزة في تيار اليمين المتطرّف، مثل المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الفرنسية إيريك زيمور، أو رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني.  

من ناحية أُخرى، وإن بدت ساخرة بعض الشيء، لكنها لا تخلو من واقعية، ربما تكون من أسباب مقبولية الخطاب اليمني المتطرّف اليوم، محاكاته للمخيال العام عن صورة المتمرّد، الرافض للسلطة وهيمنتها، والمنتفض على ما تقرّره المؤسسات الحاكمة ونخبها. فيما صارت صورة اليساري، بعد التحوّلات التي عاشتها الحركات اليسارية الأوروبية، منذ نهاية السبعينات إلى اليوم، واندماجها الكامل في إطار النخب الليبرالية، وكأنه هو من يحرس بوابة السلطة، ويسعى الى الحفاظ على المؤسسة والأخلاقيات واللغة الحميدة، التي لا تجرح أية حساسية فردية أو جماعية. 

لم يكتفِ اليمين المتطرّف بحجز موقع المتمرّد، بعدما تراجع عنه اليسار، بل استعار الخطاب اليساري النقدي، اتجاه ما اقترفته سنوات العولمة، التي ساهمت خلال العقود السابقة في تدمير أنماط الإنتاج الثقافي المحلية والشعبية، وتغييبها لصالح آلة صناعة الثقافة والترفيه الضخمة، والمُحْتَكمة الى قوانين السوق وسلطة النخب المالية، ما خلقَ أسباباً جديدة عند الناس للخوف على مصيرهم وهويتهم، ومنتجات ثقافتهم ابتداء بالموسيقى والأغاني الشعبية والمحلّية المهددة بالزوال والنسيان، مروراً بالطعام والوجبات التقليدية، التي حلّت مكانها مطاعم الوجبات السريعة، وليس انتهاء باللغة ومفرداتها التي تعيش تغيّرات متسارعة أيضاً.  

إلا أن اليمين في المحصلة، يلعب ورقة ما يعتقده هوية ثابتة للمجتمعات التي يدّعي تمثيلها، ويظهر خوفاً مبالغاً فيه اتجاه أي تغيرات اجتماعية أو ثقافية، ليبني سرديته بالكامل على هذا الخوف من الهجنة والاختلاط، اللذين يمكن أن يحصلا مع أو من دون هجرة بطبيعة الحال.

في المقابل، يعتمد الخطاب الموصوف بالتقدمي اليوم، على أسس ليبرالية، ويتبناها في الحديث عن التسامح والتعددية وقبول الآخرين والغنى بالاختلاف، في تجاهل لما تتركه الهجرة من آثار، سواء على المهاجرين المجبرين غالباً على ترك بلادهم، أو على المجتمعات التي يحلّون فيها، والتي ليس بالضرورة أن يكون كل أفرادها سعداء، لأنهم سيحصلون على جيران من كل أنحاء العالم في بنايتهم مثلاً.

ضمن إطار هذا الخطاب، الذي يريد أن يفكر في الهجرة بعقلية الاستثمار فقط، وهو خطاب سائد في كثير من وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والسياسية، يبدو المهاجر والمواطن وكأنهما لا خيار لهما، ولا مصالح اقتصادية-اجتماعية أو تفضيلات ثقافية، بمنطق أقرب إلى الابتزاز الاقتصادي، لطرفين محكومين بقبول بعضهما، وقبول الأوضاع المفروضة عليهما في الوقت نفسه.  بينما يغيب الحديث عن أخوّة إنسانية جامعة، ومبادئ كونية تضامنية، يمكنها المساعدة في تجاوز الفوارق الثقافية، وتبني على المشتركات الموجودة، وتفسح الطريق لمشتركات ممكنة، كما تغيب الإشارة إلى التحدّيات الاقتصادية والإنسانية التي يفرضها نظام اقتصادي جائر، لا يتوقف عن إنتاج الحروب والأزمات الاقتصادية.   

الهجرة والتحولات الاجتماعية والثقافية، تجري في إطار اقتصاد مُعولم، ركيزته الأساسية السفر والنقل وتطور وسائل الاتصال والمواصلات وسرعتها، ما يعني ملاحظة التحولات بشكل أكثر دقة وتفصيلاً، وأكثر تسارعاً، فيبدو التغيير سريعاً في الشوارع، وواجهات المحلّات وأماكن الطعام وغيرها من المعالم المدينية. إذ بعدما عاشت البشرية، منذ مطلع القرن التاسع عشر، على وقع التحولات التقنية والاختراعات في قطاعي الاتصالات والمواصلات، فهي تعيش اليوم على إيقاع التحولات والاختلافات الاجتماعية والثقافية، شديدة المرئية والظهور، نتيجة ارتفاع التركيز والطلب عليها، وتصاعد وتيرة إنتاج رموزها واستهلاكها، ابتداء بالأطعمة وليس انتهاءً بالصور والملصقات والثياب والأدوات.

بهذا، لا يبدو ما يحصل “استبدالاً كبيراً” على ما يزعم يمينيون متطرفون، بل مجموعة لا متناهية من الاستبدالات الصغيرة، إن جاز لنا التعبير، والتي لا تعيشها فقط مدن المراكز الغربية، التي يملك من يعيشون فيها قدرة على إسماع صوتهم وتذمرهم من المهاجرين، بل تعيشها أيضاً دول الجنوب المستنزفة السكان والموارد، فيما تبدو صورةُ المجتمعات العالمية التي تنتظرنا مستقبلاً، أكثر أرخبيلية وعزلة. إذاً، ربما هو الأرخبيل الكبير من الجماعات المعزولة ما سنعيشه، وما ينتظرنا يجب أن نخشى منه.  

هلا نصرالدين (درج) ومحمد بسيكي (سراج) | 14.05.2024

“مفاتيح دبي” بأيدي رجال أعمال مرتبطين بحزب الله وخاضعين للعقوبات الأميركية!

في سياق مشروع "مفاتيح دبي" الذي تمّ العمل عليه بالتعاون مع مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد OCCRP، وخلال بحثنا في بيانات ووثائق عقارات دبي، وجد فريق التحقيق عقارات لأشخاص مرتبطين بحزب الله ومدرجين على لوائح العقوبات الأميركية، ما يطرح علامات استفهام كثيرة على عملية العناية الواجبة الاماراتية وامتثال السلطات في دبي للوائح العقوبات الدولية،…