fbpx

بريطانيا: تتويج مسيحي مبهر في دولة لا دينية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل كانت مراسم التتويج هذه متّسقةً مع طبيعة بريطانيا اليوم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أياً كان موقفك من المؤسسة العتيقة، من الملك تشارلز الثالث، هو و”الملكة الرفيقة” (queen consort)، أو من المتظاهرين ضد الملكية في اليوم نفسه في العاصمة نفسها، لا مفر من ملاحظة الاستعراض الغني بالرموز لمراسم التتويج يوم السبت السادس من أيار/ مايو الماضي، والتي تجهد لتخبر الحضور والمشاهدين بأن القديم الثابت موجود ومستمر وراسخ، بينما الجديد المتغير مقبول ومرحبٌ به. هل تنجح  محاولة  موازنة النقائض هذه؟ بل هل كانت مراسم التتويج هذه متّسقةً مع طبيعة بريطانيا اليوم؟

تتشكل المملكة المتحدة من إنكلترا وويلز واسكتلند وإيرلندا الشمالية. بحسب تقرير نشرته جريدة الـ”واشنطن بوست” في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أعلن مكتب الإحصاء الوطني الحكومي البريطاني أنه في عام 2021 وصف 46 في المئة فقط من  مواطني إنكلترا وويلز أنفسهم كمسيحيين، مقارنة بـ59 في المئة عام 2011، وفي الفترة نفسها زادت في البلدين نسبة من عرّفوا أنفسهم بغير الدينيين، من 25 إلى 37 في المئة. في اسكتلندا لا تختلف الصورة، فبحسب تقرير نشرته صحيفة “ذي هيرالد الاسكتلندية” في آذار/ مارس الماضي، فإن أقل من ربع الزيجات التي عقدت في عام 2022 كانت مسيحية، وفي إحصاء أجرته الحكومة الاسكتلندية عام 2022 على المتقدمين للترشح للمجالس المحلية (نُشر في 14 تشرين الثاني 2022 على موقع الحكومة الاسكتلندية)، عرّف 48 في المئة من المشاركين أنفسهم بلا دينيين، بينما صنف 43 في المئة فقط أنفسهم مسيحيين من كنائس مختلفة. علماً أن رئيس وزراء بريطانيا الحالي، الحاكم الحقيقي للبلاد، هندوسي، ورئيس وزراء اسكتلند مسلم. فهل حتى وإن بقي رأس الدولة هو نفسه رأس الكنيسة، وبقيت الدولة (اسماً) دينية، هل ما زالت بريطانيا بلداً مسيحياً؟ أو حتى مؤمناً؟ رغم هذا السؤال الذي تبدو إجابته بالنفي، كان أهم ما قُدم كأساس ثابت في تفاصيل حفل التتويج الكثيرة، هو هوية العرش المسيحية التي حضرت صلواتٍ وغناءً وتراتيل، وتلامساً (حرفياً) مع أدواتٍ ورموزٍ ضاربة في القِدم. 

أُجريت المراسم في كاتدرائية وستمنستر، التي يتبع قساوستها العرش مباشرة (لا عبر كبير أساقفة كنيسة  إنكلترا الأنغليكانية). أول من استقبل الملك طفلٌ في الرابعة عشرة، أكبر أعضاء جوقة الصغار في الكاتدرائية، مخاطباً إياه: “نحن أبناء مملكة الرب نرحب بجلالتك باسم ملك الملوك (في إشارة للسيد المسيح)”، فرد عليه تشارلز الثالث: “باسمه، ومهتدياً بمثاله، أتيت لا لأُخدَم، بل لأَخدُم”. (كما في أي طقس من هذا النوع، الكلام هنا “معياري” محدد سلفاً)، وعند وصول تشارلز إلى البهو الرئيسي خاطبه، أو بالأحرى دعا له، كبير أساقفة الكنيسة الأنغليكانية (التي يرأسها شاغل العرش البريطاني، والتي اقترنت لقرونٍ بهوية إنكلترا كبلدٍ بروتستانتي): “لتكن بركة سيدنا عيسى المسيح، وحب الله وصحبة الروح القدس معكم”، ثم خاطب الحضور “مرحى، لقد قام المسيح  (من الموت بعد صلبه)”، فأتى الرد من هؤلاء: “حقاً لقد قام”. 

38 حفلاً و39 تتويجاً

يخبرنا موقع كاتدرائية ويستمنستر على الإنترنت، بأنها شهدت 38 حفل تتويج لـ39 ملكاً وملكاً (في أحدها، عام 1689، كان التتويج لملك وملكة اعتبرا شريكين في العرش). جذور طقوس التنصيب تعود الى الملك إدغار، أول من حكم كل إنكلترا، والذي تُوج في مدينة باث (إلى الشرق من لندن حيث الحمامات الرومانية الشهيرة). دفن ملك وقرار غازٍ منحا هذه الكاتدرائية دورها قبل عشرة قرون، فهنا قبر الملك إدوار الملقب بالمعترف (ت 1066)، الوحيد من ملوك إنكلترا الذي طوُب قديساً، والذي اعُتبر دوماً المثل الأعلى للملوك الإنكليز. وفي خضم خلافٍ على وراثة العرش، غزا إنكلترا، آتياً من فرنسا المعاصرة، ويليام دوق نورماندي واستولى على البلاد، وليؤكد شرعية حكمه بعد انتصاره، قرر أن يتم تتويجه حيث دُفن إدوارد المعترف، فاختار هذه الكاتدرائية (علماً أن المبنى الأصلي هُدم عام 1245 وشُيّد مكانه البناء الحالي).

طقوس التتويج خمس مراحل رئيسية: الموكب، القسم، المباركة بالزيت المقدس (أو المسح بالزيت)، التنصيب أو وضع التاج ثم القربان المقدس (أو طقس التناول). النص (المكتوب باللاتينية) المنظم للتتويج هو كتاب الملوك liber regalis، والذي يعود الى أواخر القرن الرابع عشر، والموجود في مكتبة الكاتدرائية، بقي الكتاب هذا أساس كل تتويج منذ كتابته حتى الآن، رغم التحول من الكاثوليكية الى البروتستانتية ونشوء كنيسة إنكلترا المستقلة عن روما في القرن السادس عشر. لكن النص العتيق هنا  إطار لا يلغي حرية الحركة والتعديل داخله.

موكب دخول الكنيسة استهلّه الحوار القصير الذي ذكرناه بين الصبي والملك، والذي أكد هوية الداخل للحضور وهوية الطقس وطبيعته. بعد تقدّم الموكب إلى قلب الكنيسة، جلس تشارلز، حسب تطور مراحل المراسم، على 3 كراسٍ، الأول “كرسي السلطة” إلى يسار المذبح (من ثم إلى يمين موكب الملك الداخل)، جلس عليه حتى جاء وقت المسح بالزيت والتتويج على ما يسمى كرسي التتويج، المعروف أيضاً بكرسي الملك إدوارد أو كرسي القديس (الملك) إدوارد المعترف، والذي وُضع مواجهاً المذبح الذي اعتلته صورة كبيرة مطرزة للعشاء الأخير للسيد المسيح. وفي إحدى التسميات هنا، مغالطة معروفة ورمز لوحدة الجزر البريطانية تحت التاج ذاته. الكرسي أمر بصناعته الملك إدوارد الأول، الذي حكم بعد إدوارد المعترف بما يزيد عن القرنين، والذي اشتهر، عكس سَميَه القديس، بدمويته وعنفه (هذا هو الملك الإنكليزي في فيلم بريف هارت الشهير، وشيطانية الشخصية في الفيلم توافق ما يقوله لنا التاريخ). ابن إدوارد الأول، إدوارد الثاني، كان أول من تُوج على هذا الكرسي خلفاً لأبيه عام 1307، ثُم تم كل تتويج مذاك التاريخ عليه. سبب صناعة الكرسي أنه كان رمزاً استولى عليه إدوارد الأول من اسكتلندا التي هزمها: حجر “سكون” الذي كان ملوك اسكتلندا يتوجون عليه، إذ أمر إدوارد الأول بصناعة كرسي فيه مكان للحجر ليجلس صاحب العرش للتتويج على المملكتين إنكلترا واسكتلندا (كما هو معروف، لم تتحد اسكتلندا وإنكلترا إلا مطلع القرن الثامن عشر طوعاً بعدما ورثت سلالة ستيوارت عرشَي المملكتين بقرن). بعد التتويج، جلس تشارلز على المقعد الثالث: كرسي العرش الذي واجه، كما كرسي التتويج، المذبح. علماً أنه، ولأن وارث العرش هنا ذكر، تتوج زوجته ملكة (إذا كانت الوارثة امرأة لا يتوج زوجها ملكاً)، لذلك كان هناك أيضاً كرسي سلطة ثم كرسي عرش لزوجته، أما كرسي التتويج فللملك وحده. 

بعد جلوس الملك على كرسي السلطة، قدم له كبير قساوسة  كنيسة اسكتلندا نسخة من الإنجيل طُبعت خصيصاً للمناسبة، وكان مما قاله عند التقديم: “… هنا الحكمة، هذا قانون المُلك. هذا وحي الله الحي”. ومن الكرسي ذاته، بدأت مراسم القسم وهو (أي تشارلز) جاثٍ على ركبتيه واضعاً يده اليمنى على الإنجيل الذي تلقاه للتو هو وكبير أساقفة كانتبري (كنيسة إنكلترا الأنغليكانية)، ثم وضع تشارلز كلتَي يديه على الإنجيل. نص التمهيد للقسم واضح أنه تم تعديله ليتوافق مع بريطانيا اليوم، البلد متعدد الأعراق والديانات والثقافات. مما سأله كبير الأساقفة: “جلالتكم، الكنيسة التي أُسست بالقانون، والتي ستقسمون على الحفاظ عليها ملتزمة بالإنجيل … و(في) التزامها هذا ستسعى الى خلق بيئة يعيش فيها الناس من كل دينٍ وعقيدة (all faiths and beliefs)  بحرية. قسم التتويج عمره قرون ومنصوص عليه في القانون، أمستعدون أنتم للقسم؟” (وهو ما رد عليه الملك بالإيجاب). ثم عاد الأمر لهوية الكنيسة والعرش في صيغة متشددة (إن لم تكن منفصلةً عن الواقع): مما قرأه كبير الأساقفة وأقسم عليه الملك الجديد: “… [هل تقسم] أن تحافظ … على الدين البروتستانتي الذي يؤسسه القانون؟ … وعلى عدم المساس بكنيسة إنكلترا وما يرتبط بها من عقيدةٍ، عبادة وسلطة؟”، لا يتوقف رد الملك (المعد سلفاً والذي أقسمه أسلافه) عند الموافقة بل يذهب أبعد، فكان مما قاله: “أنا أشهد وأعلن أنني بروتستانتي مخلص… وأنني سأؤمن الوراثة البروتستانتية للعرش.” بعد ذلك، وقع الملك على وثيقة تضمنت القسم. 

الصراع البروتستانتي- الكاثوليكي

الهوية البروتستانتية الطافحة هذه، ما هي إلا صدى لصراعٍ مرير امتد قروناً مع الكنيسة الكاثوليكية، لكن يبدو غريباً أن يبقى ذلك كله في بلد تغلب عليه العلمانية، علماً أنه، إلى اليوم، أي فرد من الأسرة المالكة يغادر الكنيسة الأنغليكانية إلى أي عقيدةٍ أخرى، مسيحية أو غير مسيحية، يخرج آلياً من خط وراثة العرش، أمر منطقي ربما إن أخذنا في الاعتبار أن الملك هو رأس كنيسة إنكلترا (أي الأنغليكانية). وربما لموازنة هذا التشدد في بلد أصبح متعدد الثقافات والأعراق والأديان، أدخل تشارلز كنائس مسيحية أخرى، بل ومثَّل عقائد أخرى، لاحقاً في المراسم.

بعد القسم، قام الملك من كرسي السلطة، لكن قبل أن يتخذ مقعده الثاني على كرسي التتويج، شرع في خلع ملابسه الرسمية التي تمثل مكانته ليبقى بالبسيط منها استعداداً للطقس الذي يرفعه فوق شعبه: المسح بالزيت. هذه المرة أتى الزيت من جبل الزيتون في القدس، وتحديداً من حديقة دير السيدة مريم المجدلية، حيث دفنت جدة تشارلز لأبيه: أليس أميرة اليونان. وفي القدس أيضاً، في كنيسة القيامة، أحد أقدس أماكن العبادة المسيحية، بارك الزيت كبير أساقفة كنيسة اليونان الأرثوذكس وكبير أساقفة الكنيسة الإنجيلية بالقدس. الملعقة المستخدمة في الطقس مصنوعة من الذهب ومرصعة باللؤلؤ وتعود الى القرن الثاني عشر، القطعة الوحيدة من أدوات التتويج التي سلمت من تدمير أوليفر كرومويل الذي قلب البلاد جمهورية لفترة قصيرة وأعدم الملك تشارلز الأول منتصف القرن السابع عشر. 

أما القارورة فترجع، كما معظم ما استُخدم في المراسم، الى القرن السابع عشر (بعد كرومويل) ومصبوبة على شكل نسر. ولأن وضع الزيت المقدس على الملك لحظة خاصة بينه وبين الخالق، ترفعه فوق البشر “العاديين”، أحيط تشارلز بحواجز من جهاتٍ ثلاث تحجب الرؤية عنه، بينما بقيت الجهة الرابعة، حيث المذبح  مفتوحة. أصل الطقس من العهد القديم،  سفر الملوك، تحديداً مباركة الملك سليمان الحكيم بالزيت على يد الحاخام زادوك والنبي ناثان، وذكر كبير الأساقفة كيف امتد هذا الطقس الى السيد المسيح (كما ينم اسمه). ومما يردده كبير الأساقفة وراء الحجاب وهو يمسح الزيت على رأس الملك ويده وصدره: “لتكن رأسك مباركة بالزيت المقدس، كما بورك ملوك وأنبياء [قبلك]، وكما بورك به سليمان… لتكن مباركاً [بهذا الزيت] ومرفوعاً ملكاً فوق الشعوب التي أعطاها الرب إلهك لك لتحكم”. وفي الخلفية، غنت الجوقة مقطوعة باسم “زادوك القس” للمؤلف الموسيقي هايدن، صاحبت كل تتويج عرفته البلاد منذ اعتلاء جورج الثالث العرش عام 1727. 

رداء الذهب

بعد المسح بالزيت، ارتدى تشارلز رداءً ذهبياً خاصاً في الأصل بالقساوسة، ثم بدأ تقديم شارات الملك له، شملت هذه مهمازين  يمثلان الفروسية، أسوارتين مرصعتين يمثلان الإخلاص والحكمة، خاتماً عليه صليب يمثل العقيدة، صولجانين يمثلان سلطة الملك الروحية ورعايته لشعبه، كرة تمثل العالم فوقها صليب، قفازاً (لليد اليمنى فقط)، ثلاثة سيوف واحد منها من دون طرف حاد ليمثل الرحمة، بينما الأولان يمثلان، بالترتيب، القوة عموماً والدفاع عن العقيدة خصوصاً، كذلك قُدمت للملك عباءة مذهبة تمثل ملكه على الجزر البريطانية. في مزج بين قديمٍ وجديد، من ناحية، عند تقديم كل واحد من هذه الرموز، قرأ كبير الأساقفة وصفاً لمعناه مقروناً بدعاء متضمن للملك، من ناحية أخرى، وللمرة الأولى، قدم مُمثلون للديانات الأخرى في بريطانيا من المسلمين والسيخ واليهود والهندوس بعضاً من هذه الرموز للملك. وخلال هذا الجزء من المراسم، وللمرة الأولى أيضاً، غنت جوقة من الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ترنيمة قيل إنها تعود الى تنصيب أباطرة بيزنطة، في إشارة إلى أسرة والد تشارلز الراحل، الأمير فيليب، التي حكمت اليونان (عدا الزيت الآتي من دير يوناني أرثوذكسي في القدس، وُضعت أيقونتان أرثوذكسيتان للعذراء والسيد المسيح في بهو الكنيسة). 

ثم أتى وضع التاج. هنا تاجان، واحد خاص بالمناسبة هذه تحديداً، تاج القديس إدوارد وهذا بقي في الكاتدرائية بعد التنصيب، وآخر، تاج الدولة الإمبراطوري، خرج به الملك الجديد وسيرتديه في مناسباتٍ مختلفة. التاج الأول (العائد الى القرن السابع عشر عند إعادة الملكية بعد تدمير التاج الأصلي) رفعه كبير الأساقفة  أمام المذبح وتلا الآتي: “يا ملك الملوك ورب الأرباب، نتوسل لك أن تبارك هذا التاج، وأن تطهر (sanctify) خادمك تشارلز الذي على رأسه تضع هذا التاج علامةً على الجلالة الملكية ليتوج بجميل كرمك (Thy gracious favour) ولتميزه بالفضل العميم… ببركته (أي السيد المسيح) التي تحيا وتحكم فوق كل شيء[أنت] إله واحد… آمين”. ثم استدار لوضع التاج على رأس الملك وبعدها هتف بحياة الملك وردد الحضور هتافه. الآن وقد ارتدى التاج، تحرك الملك للجلوس على كرسي العرش، عُرفاً يُعتبر أنه قد تسلم المملكة لحظة الجلوس هذه تحديداً. ثم تنقلب الأدوار بالنسبة لكبير الأساقفة، فبعدما أعلن هذا الأخير الجالس أمامه ملكاً، كان هو (كما العرف) أول من أعلن الولاء للملك الجديد ليتبعه الحضور.  بعد ذلك، تُوجت الملكة ثم كان ختام المراسم الكنسية إتمام طقس القربان المقدس، هذا الطقس المسيحي الأساس. 

رغم الهوية البروتستانتية – الأنغليكانية الحاضرة، يبدو أن الملك ومن معه حاولوا جعل التتويج جامعاً لممثلين عن أوسع قطاع ممكن من البريطانيين، على الأقل المؤمنين منهم بدين ما (وهو ما يترك حوالى نصفهم كما تبين الإحصاءات التي ذكرنا). هذا التوجه عكسته صلاة (أو دعاء) قرأها الملك الجديد خلال المراسم: “يا إله العطف والرحمة، الذي أرسل ابنه لا ليُخدم بل ليخدم [الجملة نفسه التي استهل بها الملك الجديد مراسم التتويج عند دخوله الكاتدرائية]، أعني بكرمك لأجد الحرية المُثلى في خدمتك، الحرية التي بها أعرف حقيقتك. أعني لأكون بركة لكل أبنائك من كل عقيدةٍ ودين، لنكتشف سوياً سُبل… السلام”. بالنسبة إلى المسيحيين الآخرين، عدا عما ذكرنا من دورٍ للكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، وفي سابقة جديدة، شارك قساوسة من كنائس أخرى في مباركة الملك بعد التتويج، وكان لافتاً أن أحد هؤلاء كان كاردينالاً كاثوليكياً، أمر لم يكن متخيلاً قبل بضعة عقود. ومع هذا، وللمرة الأولى أيضاً، شاركت نساء، كقساوسة ومشاركات من خارج الكنيسة وكحاملات لعلامات الملك خلال المراسم، أهمهن كانت السياسية البارزة من “حزب المحافظين” بيني موردنت، التي حملت سيف التتويج معظم الحفل. وبالنسبة إلى بريطانيا وشعوبها، فعدا الإنجيل الآتي من كنيسة اسكتلندا الذي تم القسم عليه، شهد الحفل للمرة الأولى غناءً باللغة الويلزية. كذلك، كان واضحاً الحرص على التعدد العرقي في المراسم. أما مشاركة غير المسيحيين فأتت في صور عدة. رئيس الوزراء الهندوسي قرأ رسائل من الإنجيل، غنت جوقة صغيرة كل أفرادها من أصول أفريقية أنشودة استلهمت موسيقى الإنجيل الأميركية (gospel music)، لحنتها المؤلفة الموسيقية اليهودية – البريطانية ديبي ويزمان، هذا عدا مشاركة غير مسيحيين في طقس التتويج المسيحي كما أسلفنا. 

أقدم ما في الحفل، كان نسخة من الإنجيل تعود إلى القرن السادس الميلادي، مزدانة بالرسوم خُطت في إيطاليا المعاصرة، وتنسب الى القديس أوغسطين، أول أسقف مسيحي عرفته إنكلترا (وهذا متأخر بقرن عن القديس أوغسطين ابن قسنطينة الجزائرية، أشهر فلاسفة المسيحية). وجود الكتاب هذا، أحد أقدم التحف المسيحية ببريطانيا، كان تأكيداً آخر على هوية المراسم والعرش وتاريخ البلاد، لكن أين ذلك من واقع بلدٍ معظم أبنائه يلفظون الدين أصلاً؟ علماً أننا لم نذكر ما يوجه من نقدٍ الى ثراء العائلة المالكة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة.  ربما تزيد الملكية من نفوذ بريطانيا في بعض مستعمراتها السابقة (بخاصة في منظمة الكومنولث)، ربما تمثل مراسمها وقصورها و “مسرحية” طقوسها جذباً للسياحة، لكن هذه المزايا كلها (إن صحت) لا تنفي الأسئلة الآتية حتماً عن دور مؤسسة لم تعد لها سلطة حقيقية، ضاربة في القدم تمثل ركناً للهوية الوطنية من جهة، ونقيضٌ لمجتمعٍ آخذ في التغير من جهة أخرى. الملك رأس الكنيسة، العرش والرب لا ينفصلان، لكن إلى متى يبقى من يقبلون ذلك في مجتمع علماني وديمقراطي معظم أبنائه لا يؤمنون بشيء؟ لا إجابة واضحة، لكن تبقى الطقوس مشاهدة ممتعة ومادة دراسة غنية!