fbpx

في شهر التوعية بالصحة النفسيّة: عن أبي “المجنون”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أن تعيش في عائلة لها تاريخ مع المرض النفسي، إضافة الى كونه أمراً محرجاً لطفلة، فهو أمر ثقيل، عليك مواجهة المرض كل يوم، ستكبر في كنفه، ولن يكون طيباً معك، أعتقد أن من رباني هو المرض النفسي لا أبي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يغيب صوت صراخه عن رأسي، ولا الوقت الطويل الذي استغرقته حتى فهمت مرضه، واكتشفت طبقات نفسه واحدة تلو الأخرى، وأدركت أن الجميع تركه في وحدته وخوفه وهواجسه، وألّا حلَّ في مكان لا يعترف بالأمراض النفسية ولا باضطراب ثنائي القطب أو الهذيان، مكان يحاسبك إذا ما حزنت أو صرخت خوفاً، ولا يصدقك أحدٌ لو قلت إن هناك من سيقتلني، كان هناك قاتلٌ يلاحق أبي، ولم نصدقه ولم أصدقه ولم يقتله أحدٌ في النهاية.

قالوا إن أبي “مجنونٌ”

كنت طفلة حين سمعت أصدقائي في الصف يتهامسون عن أبي: “أبوها مجنون”، لم أكن أفهم ما يحصل وكيف تحوّلت حياتنا في المنزل إلى قصة عن رجل مجنون، يتناقلها أهالي الحي ثم أهالي البلدة بكاملها، وكنت أخجل وأنطوي على نفسي خوفاً من أي رد فعل قد يظهرني “مجنونةً” كأبي، فكلّ تصرف غير مقبول اجتماعياً هو جنونٌ، كل طريقة حياة تختلف عن السائد وكل خطوة جريئة تتخذها لأسبابك الخاصة هي جنون، وأنا امتلكت هذا كله. عشتُ طفولتي صامتةً، شعرتُ بأنني سأصمت إلى الأبد، لم أعد أتحدث أو أتحدى أحداً في أي شيء، وحتى حين جئت لأكتب تلك القصة لم أستطع كتابتها باسمي الحقيقي، ما زال هناك ما يشعرني بالخزي والخوف والتردد، وكأن العالم سيكتشف نقطة ضعفي التي تحولت فجأة خلال دراستي الجامعية إلى قوة، فغدوت فتاة فظة وعدائية، كان الصمت أقسى من تحمّله، وبقيت هكذا حتى بدأت أفهم “جنون” أبي الذي أورثني جزءاً منه.

لم يرضَ أبي أن يزور طبيباً نفسياً، حاولنا مراراً وتكراراً، كان يقول: “شو أنا مجنون؟” ويضحك ساخراً منا، أنا وأخوتي، وكان علينا أن نسايره وأن يذهب أحدُنا بدلاً منه، ويخبر طبيبه عمّا يحصل في منزلنا وفي داخل أبي، ذهبت أنا بدلاً منه. في المرة الأولى جلستُ أمام طبيبه النفسي، كنت وحيدة، عليَّ إخباره بكل ما يعانيه أبي، وكان هذا هو الجزء الأصعب. في ذلك اليوم، أخبرت الطبيب تفاصيل كثيرة وأدركت أنني أعرف أبي أكثر مما يعرفني، أخبرت طبيبه عن تخيّله أشخاصاً وروائح غير موجودة، عن الأعراض التي يعانيها، عن خوفه من كل شخص يدخل منزلنا، وعن اكتئابه وانطوائه لأسابيع، وكان الطبيب يسمعني بتركيز، لكن من كان المريض في تلك اللحظة أنا أم أبي؟

يعاني والدي من اضطرابات نفسية عدّة، ففي البداية شخّص الطبيب حالته بالفصام نظراً الى أنه يرى ويسمع أشياء غير موجودة، ثم شخّصها باضطراب ثنائي القطب وهو مرض نفسي مزمن، يتسبب في تقلبات مزاجية حادة ومفرطة تتضمن موجات من المزاج العالي (الهوس) وموجات من المزاج المنخفض (الاكتئاب)، قد تتسبب نوبات الهوس بأفعال طائشة أو غير عقلانية، وقد يؤدي الاكتئاب إلى الانتحار. لاحقاً وبعد بحثي وقراءتي عن الأمراض النفسية، أدركت أن أبي قد يكون مصاباً بمرضين في آن، فالتفريق بين الفصام واضطراب ثنائي القطب صعبٌ في بعض الأحيان، لذلك هناك ما يسمى بالاضطراب الفصامي العاطفي. لستُ متأكدة إن كان ذلك صحيحاً، في النهاية لا يوجد في سوريا كلها سوى 11 طبيباً نفسياً، لا أعلم حقاً إن كانوا قادرين على تحديد التشخيص الصحيح، وسواء كان أبي يعاني من الفصام أو اضطراب ثنائي القطب أو الاضطراب الفصامي العاطفي، فهو يتوهّم أموراً غير موجودة ويهلوس ويتكلم بصورة غير منطقية في أحيان كثيرة، وتصيبه نوبات هوس حادة. وبسبب هذا كله  خسر عمله وأفلس. لطالما أخبرني بقصص غير حقيقية، عن خوفه عليَّ من أشياء لم أكن أفهمها لكنها كانت تخيفني، حتى كبرت وأنا أخاف كل شيء. كان يشك في كل ما يأكله، ويتخيل طعامه مراً في بعض الأحيان، وفي أحيانٍ أخرى يقسم بأن في الطعام سمّاً، كان يصرخ، يفسر الأشياء على هواه، يتخيل قيامي بأمور لم أفعلها، لكن الخاسر الأكبر ومن تلقى جرعات لا تُحتمل من الألم كان أمي، امرأة وقفت أمام رجل غاضب ومستاء وخائف على الدوام، من دون أن تتخيل للحظة أن يكون مريضاً نفسياً، بكت طويلاً أمامنا وكنا أطفالاً، لم نعرف كيف نخفف الألم عنها ونواسيها، وكيف نقنع أبي بأن يصمت، لم يصمت أبي يوماً، ولم تتوقف أمي عن البكاء!

لا يغيب صوت صراخه عن رأسي، ولا الوقت الطويل الذي استغرقته حتى فهمت مرضه، واكتشفت طبقات نفسه واحدة تلو الأخرى، وأدركت أن الجميع تركه في وحدته وخوفه وهواجسه.

في بداية المرض كانت المعرفة

 على رغم أن هذا المرض مزمن لكنه قابل للسيطرة عن طريق العلاج والمتابعة، لكن أبي لم يمتلك هذه الفرصة! ساعدتني القراءة والبحث في فهم ما كان يجري في عائلتنا، لم أمتلك أي مرجع في البداية، لم يكن حولي كبار يدركون ما هو المرض النفسي، أو يستطيعون مساعدتنا في فهم شكل حياتنا الفوضوي، وبدأت أدرك مع الأيام ما يعنيه المرض النفسي، وأن ما يعانيه أبي اسمه الاضطراب الفصامي العاطفي وليس “جنوناً”. كان أبي مريضاً وليس مجنوناً، لكننا تأخرنا في مساعدته ولم يعد الدواء يفيده، بخاصة مع رجل عجوز يرتاب من كل شيء حتى من حبة دواء صفراء تمنحها إياها ابنته التي يثق بها كثيراً، وكنت أخدعه حين يرفض تناولها، أطحنها وأضعها في القهوة أو الطعام، وكنت أشعر بالذنب رغم أني أفعل الصواب، لماذا كان علي أن أخدعه؟ لكن الأصعب كان إقناع أمي بأنه مريض، ليس سهلاً على امرأة نشأت في قرية صغيرة أن تصدق أن غضب زوجها واتهاماته لها هي مجرد مرض. لم تصدق أمي يوماً أن أبي مريض، كيف لرجل قرأ نصف كتب العالم أن يكون مريضاً! كانت تصرّ على كونه ذكياً وحقوداً، وكانت محقة في الأولى، كان رجلاً مريضاً وذكياً لذلك كان ألمه وألمنا مضاعفاً، كان والدي شغوفاً بالقراءة، عاش عزلة طويلة، قرأ فيها آلاف الكتب، أكاد أجزم بأنه عانى نوبة هوس تجاه القراءة في حينها.

عاش أبي حياته مصدقاً أن هناك خطراً يلاحقه من دون أن يصدقه أحد. تخيّل أن تعيش حياتك بطولها تحت وطأة الخوف، وهيمنة دماغك، وأن تخسر الكثير من الأشياء من دون أن تعرف لماذا! أن تخسر عملك وكل ما جمعته من مال لأنك لا تعلم أنك مريض، كان لوالدي عمله الخاص، أشبه بشركة صغيرة، لكنه أفلس في النهاية، كان يترك العمل لأسابيع في نوبات اكتئابه، دمّر علاقاته مع الآخرين حتى غدا وحيداً تماماً. يشبه ما حدث معه أن تكون مريضاً بالسكري من دون أن يصدقك أحد، وأن تصيب الغرغرينا أصابعك فتُقطعَ، بعدها تُقطع يدك ثم ذراعك بأكلمها من دون أن يصدق أحد أنك مريض بارتفاع السكر، كانت حياتنا بهذه البساطة والتعقيد معاً.

أخذتُ وقتاً طويلاً حتى تقبلت أبي كما هو، وأدركت أننا مجرد بشر ضعفاء ومساكين ومحكومين بالمجتمع الذي يهدد بإقصائنا لأننا “مجانين” في نظره، لأننا نخاف أكثر مما يجب ولأننا ننام لأيام غير راغبين في المحاربة مجدداً. تحسّن أبي قليلاً مع الدواء، لكنه لم ولن يتمكن من ترميم عقود من الهذيان والهوس والاكتئاب، لقد تأخرنا في إعادته إلى الحياة، الشيء الوحيد الذي أفكر به، كم شخصاً مثل أبي لم يعلم لماذا دُمرت حياته، كم كلّف الجهل بالأمراض النفسية عشرات العائلات!

ورثتُ الألم عن أبي

لن يدرك أحد معنى أن تعيش مع أب أو أم يعانيان من مرض نفسي، من دون علاج، سوى من عاش هذه التجربة، الأطفال الذين يتربون تحت جناح أب مريض، لا يستمرون في البحث عن الأب وحسب بل ينقصهم شيء للأبد، لن يملؤه أي شيء في العالم، لا الكتابة ولا الحب ولا النجاح ولا المال، سيبقى ذلك الجزء مفقوداً دائماً. وأنا أيضاً حاولت البحث عن حنان أبي في طفولتي، في مراهقتي غضبت منه وكرهته وصرخت في وجهه، وعندما نضجت رعيته كأمّه، بررت تصرفاته وخففت من خوفه ودافعت عنه وكنت أطمئنه ألّا خطر قريب، لا منه ولا مني.

أن تعيش في عائلة لها تاريخ مع المرض النفسي، إضافة الى كونه أمراً محرجاً لطفلة، فهو أمر ثقيل، عليك مواجهة المرض كل يوم، ستكبر في كنفه، ولن يكون طيباً معك، أعتقد أن من رباني هو المرض النفسي لا أبي، ما زال هذا الأمر يتعبني، رغم فهمي وتقبّلي وتعاملي مع المرض كأيّ مرض آخر كالسكري أو ارتفاع ضغط الدم، إلا أن عبارة مثل “كل العيلة مجنونة” ما زالت تخيفني وتوقظ في داخلي الذعر من أن أسقط أمام أعينهم وأن يظهر “جنوني”.

ورثت المرض النفسي عن أبي، قال لي طبيبي إن نسبة ظهور المرض النفسي كبيرة لدى طفل يعاني أحد والديه من اضطراب نفسي، وأنا كنت التالية التي اختارها المرض في العائلة، تأخرت قليلاً في الانتباه إلى أن عامل الوراثة قد يتبعني، إنه اضطراب ثنائي القطب مرة أخرى، لكن هذه المرة لن أواجهه في أبي إنما في داخلي، نوبات طويلة من الاكتئاب وعدم الرغبة في شيء، كلفتني سنوات طويلة. بدأت أشعر بتلك التغيرات في بداية مراهقتي، حزنٌ عميق وغير مفسر، لكن المرض انفجر مع فشل علاقتي العاطفية الأولى، والتي كانت أشبه باستنزاف كامل لعقلي ومشاعري. ومع تلك الصدمة العاطفية، تبلور مرضي، يقول طبيبي إن هناك لحظة تساهم في تطور المرض وجعله عنيفاً، أوقفني مرضي عن دراستي الجامعية فتأخرت خمس سنوات قبل أن أتخرج، حطمتني أشهر من الاكتئاب، وتأخرت عن حياتي. في المقابل، عشت نوبات هوس رائعة، جميع مرضى اضطراب ثنائي القطب مغرمون بنوبات هوسهم، إنها ساعات وساعات من الطاقة والإبداع والأفكار، أكتب وأكتب كأن كل شيء موجودٌ مسبقاً في دماغي، لكن تبقى معضلة المزاج المرتفع والمنخفض متعبة، وستأخذ الكثير من الوقت والجهد للتأقلم معها. كنت محظوظةً بنفسي، فأنقذت حياتي، عكس والدي، تتبعت هواجسي ومخاوفي وواجهت مرضي باكراً، وقفت بمفردي أمام وحشي ونظرت في عينيه، أذكر حين شخّصني طبيبي باضطراب ثنائي القطب، مشيت في شوارع المدينة وكأن هناك عبئاً ثقيلاً تخلصت منه، لقد عرفت عدوي، وفكرت بالأخطاء والسنوات التي خسرتها بسبب المرض، لكنني كنت سعيدة، لقد كان لذلك الشيء اسم، أن تجد اسماً أو عنواناً لكل ما عشته، فهذا يختصر نصف المعاناة. لكن الرحلة لم تنتهِ، ولن تنتهي، ساهمت الحرب التي عشتها في سوريا في تعقيد حالتي وإضافة صدمات نفسية إليها، فصرت خليطاً من المرض النفسي الموروث من والدي ومن الصدمات التي عشتها في كنف أب ووطن مريضين. ما زالت صدمة الحرب ترافقني، ما زال كل صوت عالٍ يدفعني الى الذعر، وما زلت أتحاشى رجال الأمن والشرطة وأبحث عن أبي. اكتشفت مع معالجتي النفسية أشياء أخرى، عميقة ومريبة، دهاليز في نفسي وصدمات قديمة ممزوجة بأخرى حديثة، حينها فقط أدركت أن الطريق طويل، وأطول من مجرد حبتَي دواء في الصباح والمساء، الفرق الآن أنني صرت أرى آلامي وأقول لها أنا أعرفك، في هذه الصدمة احتجت والدي، وفي هذه الصدمة صرخ أبي في وجهي، وفي نوبة اكتئاب هربتُ نحو رجل خذلني كما أبي لكن بوعيه وإرادته.

لو أردت وصف نفسي اليوم، سأقول إنني امرأة شجاعة، فعلتُ الكثير في ظروف قاسية، تابعت مسيرتي حين سقط من يمتلك رفاهية النجاح والأمان والعائلة المطمئنة، عالجت نفسي بنفسي، صنعت من ألمي ما يعبّر عني ويحميني، صرت استثنائية بما مررت به. بالطبع أتمنى في أوقات كثيرة لو أن حياتي كانت طبيعية، لو أن مرض أبي لم يسرق طفولتي، والحرب لم تسرق شبابي، أسقط كثيراً وأقف مجدداً، وفي كل مرة تبدأ حياتي مجدداً، لحياتي بدايات كثيرة.

في كل مساء، أفكر في حياتي وفي كل ما كتبته، وفي مرضي الذي يُدعى مرض المبدعين، كفان غوغ، فرجينيا وولف، إرنست همنغواي ومايكل أنجلو، أفكر بكل هؤلاء وأتمنى أن أكون مبدعة، أن يوجد جانب مشرق في هذه العتمة كلها، أفكر في أبي الذي ينظر من النافذة، ينظر إلى اللاشيء، وأبتسم، هناك علاقة غريبة امتلكتها مع الحياة، بقدر قسوتها كانت عميقة وعاصفة عاطفياً، اختبرت من المشاعر ما لا يمكن أن يختبره أحد سوى أبي، أبي الذي لم يكن “مجنوناً”.