fbpx

احتجاجات فرنسا… تكوين مجتمع المهاجرين والفرنسيين من الأصول المهاجرة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هناك شبه إجماع بين المؤرّخين وعلماء الاجتماع والسّياسة على وجود شبه استحالة لفهم الدّول الأوروبيّة ونظمها الحديثة، وكيفيّة تطوّر دولة الرّفاه فيها من دون العودة إلى الحربين العالميّتين الأولى والثانية، والنتائج البربريّة والموت اللذين سادا في هاتين الحقبتين. وفرنسا ليسَت مستثناة من هذه القراءة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سيتناول هذا المقال بشكل أساسي، تكوين المجتمع الفرنسي من ذَوي الأصول المهاجرة بعد الحرب العالميّة الثانيّة، إلى حين لحظة تسيّسه الأولى في عام 1983، مع انطلاق مسيرة Marche des Beurs، من ثمّ الديناميّات التاريخيّة المعاصرة التي ستضع بدورها أسس نشوء الغيتوات المدينية، والتي تُعرف اليوم بمشكلة الضّواحي (Les banlieues et les cités). للتذكير، عرض المقالان السّابقان الإشكاليّات الرئيسيّة المتعلّقة بظاهرة المهاجرين، ومشاكل المواطنة الموروثة عن الإمبراطوريّة الفرنسيّة ومستعمراتها. في هذا المقال وما يَليه، سيَتمّ التّركيز بشكل أكبر على التّاريخ المعاصر والحديث للمهاجرين والاندماج والمدن.

الحرب العالميّة الثانية وتبعاتها على بناء دولة الرّفاه والقانون في فرنسا

هناك شبه إجماع بين المؤرّخين وعلماء الاجتماع والسّياسة على وجود شبه استحالة لفهم الدّول الأوروبيّة ونظمها الحديثة، وكيفيّة تطوّر دولة الرّفاه فيها من دون العودة إلى الحربين العالميّتين الأولى والثانية، والنتائج البربريّة والموت اللذين سادا في هاتين الحقبتين. وفرنسا ليسَت مستثناة من هذه القراءة.  

أثناء الحرب العالميّة الأولى وبعدها، تمّ الاعتماد على المستعمرات (Appel à l’effort des colonies) في المجهود الحربي والقتالي، وكذلك في إعادة الإعمار. وسَبق أن أشرنا إلى أنّ عدد المهاجرين بلغ قرابة ثلاثة ملايين خلال ثلاثين عاماً، ما أدّى إلى تأمين العمّال المهاجرين رافعة اقتصاديّة لفرنسا في قطاع المناجم والصّناعة وإعادة الإعمار. لم تكن ظروف عملهم سهلة دائماً، ولكن تجدر الإشارة أيضاً، إلى أنّ ظروف العمّال بشكل عام لم تكن أفضل بكثير؛ إذ ظلّ الصّراع الاجتماعي وظروف العمل بشكل عام، في حالة صعبة للغاية إلى حين وصول الجبهة الشعبيّة (Front Populaire) إلى السّلطة في عام 1936. فقط بعد هذا العام، بدأت الأمور تتحسّن من خلال تقليل ساعات العمل، والفرص المدفوعة، والكثير من المكتسبات الاجتماعيّة التي بدأت في التطوّر في عشرينيّات القرن الماضي. ومع ذلك، في كثير من الحالات، لم يستفد العمّال المهاجرون من هذه المساهمات لأسباب عدة، بما في ذلك أنّهم كانوا جزئيّاً إمّا غير شرعيين أو يعملون في قطاعات غير مهيكلة. كانت النّقابات اليَساريّة والأحزاب الشيوعيّة بخاصة، تبذل جهوداً هائلة لدمج العمّال المهاجرين في الحركة النقابيّة؛ إنّما لم يكن النّجاح دائماً حليفها، وغالباً ما كان يتمّ استخدام العمّال المهاجرين لكسر الإضرابات (Briseurs de Grèves)، ووحدة التحركات والمطالبات. كما زُجّ كثر من هؤلاء العمّال المهاجرين في معسكرات العمل خلال الحرب العالميّة الثانية، وساهم جزء منهم في حركة المقاومة الفرنسيّة ضد النازيين وحكومة فيتشي.

مع نهاية الحرب العالميّة الثانية، كانت فرنسا أكثر تعطشاً الى العمالة المهاجرة، في جهدها الهائل لإعادة البناء والتّحديث والتّصنيع في خضم المنافسة التي فرضتها الحرب الباردة في أوروبا، والمنافسة مع الاتّحاد السوفياتي. هذه الديناميّات كلها أدّت إلى تسريع بناء دولة الرّفاه، والتّحسين الجذري لظروف العمال الاجتماعيّة على جميع المستويات. ومع ذلك، كانت تحديّات السّكن هي الأكبر. فالحرب العالمية الثانية خلّفت 400 ألف مبنى مدمر ومليوني مبنى متضرّر جزئياً، وكان لا بدّ من الرّد على هذا التّحدي، خصوصاً مع أوّل وفاة لامرأة من دون مسكن من البرد عام 1954، ودخول الأب بيير (Abbé Pierre) ساحة المطالبة بـ”الحقّ في السّكن”. هنا، بدأت المشاريع الكبرى (Grand Ensemble) في الضّواحي مع ما كان يعرف باسم ZUP : Zone à Urbaniser en Priorité، والمدن الجديدة (Les Villes Nouvelles) المخصّصة للعائلات الفرنسيّة، والعاملين الشرعيين في ظلّ ظروف معيّنة.

هذه هي الاستراتيجيّات العمرانيّة نفسها التي اتُّبعت في كلّ الغرب في هذه الحقبة، من الاتّحاد السّوفياتي وصولاً إلى إنكلترا. كان هذا النّوع من العمارة في البداية ثورياً، وعبّر عن جودة متقدّمة من الشّقق (مطبخ كبير، تهوية، حمّامات)، مقارنة بمدن التّنك والمساكن الفقيرة التي كانت سائدة في الأوساط الشعبية. لكن ذلك كله سرعان ما سيتغيّر، وستشهد هذه المدن تراكم المشاكل والتّحدّيات.

حرب الجزائر ومرحلة ما بعد الاستعمار

صحيح أنّ الحرب الجزائريّة دارت بشكل رئيسي في الجزائر نفسها، لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الأرض الفرنسيّة كانت متورّطة في نواح كثيرة. لذلك، من الصّعب العثور على عائلة فرنسية لم تشارك في هذه الحرب التي استمرّت ثماني سنوات وشارك فيها أكثر من مليوني جندي فرنسي. إضافة إلى ذلك، شارك العمّال الجزائريّون بقوّة في دعم نضال الاستقلال والانفصال، بخاصّة من التّيار القومي واليَساري الذي كان اليَسار الفرنسي يؤمّن له دعماً. ويعتبر باحثون أنّ هذه الفترة أرسَت دائرة العنف بين الشّرطة الفرنسيّة والجزائريين من وجهة نظر تاريخية. وقد تكون حادثة تشرين الأوّل/ أكتوبر 1961 هي الظّاهرة الأكثر تعبيراً عن هذا العنف، إذ قمعت شرطة باريس تظاهرة للجزائريين داعمة للاستقلال، وألقت أعداداً كبيرة منهم في نهر السّين.

هذه الحقبة محوريّة في فهم تكوين ظاهرة المدن والضواحي الشعبية، لأنّ فرنسا استقبلت مباشرة بعد الاستقلال الجزائري، أكثر من مليون مواطن (Les Harkis et les Pieds Noirs) من الفرنسيين والأوروبيين الجزائريين والجزائريين الذين قاتلوا من أجل فرنسيّة الجزائر الفارّين من القمع والتّصفيات. ومع تفكّك بقيّة المستعمرات، ووصول المهاجرين والمبعدين، وزيادة الولادات الفرنسيّة (Baby Boomers)، كثُر الطّلب على السّكن. فانتقلت فرنسا من امتلاك 12 مليون وحدة سكنيّة في عام 1966 إلى 21 مليون وحدة سكنيّة في عام 1975. ولم يكن هذا ممكناً من دون وجود اقتصاد قوي وتدخل قويّ من قبل الدّولة الفرنسيّة في سوق السّكن من خلال سياسات الدّعم العامّة (APL: Aides Publiques au Logement). بين عامي 1946 و1974، زاد عدد سكّان فرنسا بمقدار 12 مليوناً، وتقدّر مساهمة المهاجرين في هذه الزّيادة بـ 20 في المئة، بينما ساهم المهاجرون الفرنسيّون بـ 10 في المئة فقط، والباقي 70 في المئة جاؤوا من زيادة الولادات (Accroissement Naturel).

ثورة 1968 وأزمة الطاقة بعد حرب 1973

في عام 1968، كانت نسبة 82 في المئة من اليَد العاملة الأجنبيّة في فرنسا (المهاجرون) يَداً عاملة غير شرعيّة تعيش في أحياء الصّفيح، أو المساكن الفقيرة. يتحدّث طلّاب ثورة 1968 في جامعة باريس العاشرة (Nanterre) كثيراً عن هذه التّجربة الصّعبة، عندما كانوا يصلون إلى الجامعة بالقطار ويحتكّون بالفقر والتّهميش في مدن الصفيح، وكيف لعب ذلك دور في تثويرهم. هذه المدينة نفسها التي اندلعت فيها الأحداث الأخيرة في فرنسا. خلال هذه الفترة، (الستينات) وحتى الثّمانينات، شهدت فرنسا صعود تيّار يساري خارج أحضان الحزب الشّيوعي، فضلاً عن صعود اليَمين اللّيبرالي مع الرئيس جيسكار ديستان، بالإضافة إلى النظريّات السياسيّة والاجتماعيّة حول مراحل ما بعد الاستعمار، ونظريّات “الهوامش” (Théorie de la marge) التي دعت وعملت على دمج الفئات المهمّشة، بمن فيها المهاجرون، والدّفع بشكل قانوني الى تسهيل اندماجها وتحصيل حقوقها الكاملة. وكانت المدن الشعبيّة (Les cités) بدأت تعيش في فترة اختلاط كبيرة (Mixité Sociale) بين الفرنسيين من مختلف انتماءاتهم العماليّة وبين المهاجرين من جنسيّات مختلفة. النّقابات العمّالية والحزب الشّيوعي وطبيعة العمل الصّناعي الذي يجبر العمّال على العمل والعيش في مدن مختلطة، هذا كله ساعد في الحفاظ على تفاعل إيجابي إلى حدّ كبير، وتسهيل عمليّة تعلّم اللّغة والاندماج للمهاجرين. كانت الثّقافة الفرنسيّة محميّة وطاغية ودامجة (Assimilatrice). ومع ذلك، فإنّ مرحلة ما بعد الاستعمار وبدايات الدّمج المصحوبة بنموّ اقتصادي كبير، ما لبِسَت أن تعَرقلت بسبب حرب تشرين الأوّل 1973، وصدمة التّضخم النّاتجة من ارتفاع أسعار الطّاقة العالميّة. جاء ذلك أيضاً، مع بداية انتكاسة الفكرة القوميّة الناصريّة نتيجة لهزيمة 1967، وبداية صعود الإسلام السّياسي ضمن معادلات الحرب الباردة. ذلك كله أدّى إلى إغلاق باب الهجرة عام 1974 أمام العمّال، ودفعهم للعودة إلى بلادهم. لكن سيَتبع ذلك قانون “لمّ شمل الأسرة” (Regroupement familiale)، الذي سيشكّل نقطة تحوّل في جوهر الهجرة إلى فرنسا وطبيعتها، بخاصّة من إفريقيا والمغرب العربي. وَصَف البعض ذلك بأنّه تحوّل من هجرة اليَد العاملة إلى شكل من أشكال الاستيطان. وكما ذكرنا في مقالات سابقة، انقسَم المجتمع الفرنسي بين اليَمين واليَسار على “المواطنة” والهويّة والحقوق والدّمج، بخاصّة مع كلّ الكراهية الموروثة عن جيل كامل عاش حرب الجزائر، فدخلت إشكالية الهجرة الى النقاش السياسي الفرنسي. 

التفكّك الصّناعي، بداية تراجع دولة الرّفاه وصعود التيّار النيو ليبرالي

بعد أزمة أسعار الطّاقة وما صاحبها من تضخّم، شهد الغرب صعود تيّار النيوليبرالي الذي عمل على تقليص دور الدّولة، وبالتّالي مهاجمة دولة الرّفاه ولبرلة الاقتصاد، ما ساهم في التفكّك الصّناعي (Désindustrialisation)، وانتقال المعامل إلى دوَل تكون فيها القوانين أكثر مرونة، واليد العاملة أرخص. ترافق ذلك مع أولى التظاهرات العنيفة في المدن العمّالية والشّعبيّة (Les émeutes urbaines) في أكثر من بلد أوروبي (إنكلترا، فرنسا، إيطاليا…) بين 1980 و1981. كانت غالبيّة الضّواحي التي تتكوّن من مدن عمّالية، هي الجغرافيا المدنيّة الأكثر عرضة لهذه التغييرات. بالإضافة إلى أزمة النّموذج السّكني التي ظهرت في الخمسينات من القرن الماضي، أدّت التغييرات الاقتصاديّة إلى تهميش هذه المدن وإفقارها، وأثّرت على الفئات الأكثر هشاشة، أيّ العمّال المهاجرين أو الفرنسيين من أصول مهاجرة. إنّ التّراجع في خلق الوظائف الصناعيّة للعمّال ذوي الكفاءة المحدودة، دفع إلى البطالة بأعداد كبيرة، وإلى ظهور الفوارق داخل الطبقة العاملة الفرنسيّة نفسها، بين الفرنسيين المتحدّرين من أصول فرنسية وبين الفرنسيين من أصول مهاجرة. هذا ما يسمّيه بورديو رأس المال الاجتماعي والعلمي بين اللّغة والعلاقات، وهذا ما كان يعطي دائماً الأفضليّة للفرنسيين في التحوّل المهني (Conversion professionnelle).

فمثلاً، أظهر المسح السّكاني عام 1979، أنّ هناك مليوناً وثلاثمائة ألف مواطن من دول المغرب العربي. ويجب أخذ هذا الرّقم بحذر. الكثير من هؤلاء كانوا مندمجين على الرّغم من أنّ معظمهم ظلّوا على علاقة بوطنهم الأمّ. إلّا أنّ تراكم المشاكل خلال السبعينات، بخاصّة مع تعاظم المشكلات الاقتصاديّة، دفع الدّولة إلى وقف “لمّ شمل الأسرة”، لكنّها قوبلت بمعارضة شعبيّة من اليَسار، وتمّ تقديم طعن أمام المجلس الدّستوري الذي وافق بدوره عليه، واستمرّ تدفّق المهاجرين من المغرب العربي، إذ وصل عددهم بعد ذلك إلى مليون ونصف المليون بحلول عام 1985.

تفجّر هذا الاحتقان عام 1981 في مدينة ليون، مع ما عُرف باسم “تمّوز الأسود”، الذي نتج منه للمرّة الأولى إنشاء إدارة معنيّة بهذه الأحياء من النّاحية الاجتماعيّة عام 1982، كمؤشّر إلى عقل الدّولة الفرنسيّة في ظلّ هذه المشكلة بعيداً من السّياسة (Commission Nationale Pour Le Développement Social Des Quartiers). كتقليد فرنسي في مقاربات الدّمج، خصّصت الدّولة الأحياء الشعبيّة، حيث توجد كثافة مهاجرين، بمجهود تعليمي وتربوي مضاعف (ZEP: Zones d’Education Prioritaire).

استمرار الظّروف الصّعبة وتعرّض المهاجرين وذَوي الأصول المهاجرة للتمييز وأحياناً لجرائم ذات طابع عنصري، ومع وصول اليَسار إلى السّلطة، ذلك كله دفع شباب هذه الأحياء الشعبيّة إلى تنظيم مسيرة من مرسيليا إلى باريس سنة 1983 برفقة الأب كريستيان ديلورم (Christian Delrome)، لمقابلة الرّئيس فرانسوا ميتران. 

كانت هذه المسيرة محاولة للتسييس الإيجابي لإشكاليّة الفرنسيين من ذَوي أصول مهاجرة، وشكّلت بداية ظهور هويّة خاصّة لهذه الضّواحي (Black، Blanc، Beur)، داعية الدّولة الفرنسيّة إلى قبول تنوّع ثقافي أكبر، ومحاربة التّمييز بجميع جوانبه.

اللافت، أنّ أبناء الأحياء في تلك الضّواحي برزوا كظاهرة سياسيّة تطرح تحدياً للنموذج الفرنسي، بالتّوازي مع بداية صعود الجبهة القومية (Front National) على أقصى اليَمين كحزب ضدّ الهجرة. وتجدر الإشارة إلى أنّه في انتخابات 1981 الرّئاسيّة، لم تتمكّن الجبهة الوطنيّة من جمع 500 توقيع لخوض الانتخابات، فيما حظيَت المسيرة الشبابيّة بدعم كبير من الفرنسيين وتشجيع استثنائي، ما أدّى بعد عام إلى تأسيس جمعيّة “SOS Racisme” (مجموعة مكافحة العنصريّة)، التي كانت مقارباتها مماثلة لحركة “مارتن لوثر كينغ” في نضاله في أميركا.

في المقال المقبل، الرابع والأخير، سأتناول ظهور الغيتوات وصعود الإسلام السياسي وتجزّر المشاكل في الضواحي الشعبية المصاحب لصعود اليمين القومي.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.