fbpx

العنف في فرنسا: الجذور العميقة لمشكلة المواطنة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذه المفارقة واللامساواة بين شعوب “الإمبراطوريّة- الجمهوريّة” قد بقيَت عنصر خلاف سياسيّ داخل الطبقة السياسيّة الفرنسيّة؛ وقد يكون الجزائر البلد الذي تمركزت فيه وحوله هذه الإشكاليّة بشكل كبير. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في المقال الأوّل، حاولتُ الإضاءة على تعقيدات ظاهرة الضواحي والمهاجرين في فرنسا، سعياً إلى فهم هذه “الانفجارات الاجتماعيّة” التي تحدث بين الحين والآخر؛ فاختصار المشكلة بالضواحي أو المهاجرين غير مفيدة إلّا للمتطرّفين الإسلامويين، ولليَمين الأكثر تطرّفاً ضدّ الهجرة. في هذه المقالة والمقالات اللّاحقة، سَنرى أنّ المهاجرين (أو ذَوي الأصول المهاجرة) ما عادوا على هامش المدن، ولا على هامش المجتمع كما كانت الحال حتّى أوائل الثمانينات؛ وقد أصبحت هذه الظاهرة إشكاليّة أساسيّة للمدينة، والمواطنة، وقيَم الجمهورية. 

يقول الباحث جاك دونزولو (Jacques Donzelot) في دراسته المقارنة بين سياسات المدينة في الولايات المتحدة وفرنسا في كتابه Faire Société: “أصبح مصير السكان الأصليين في المجتمع يتعلّق بمصير هؤلاء الذين على الهامش أو الوافدين”. والأهمّ من ذلك، الإصرار على وضع كلّ مَن هو من أصول مهاجرة في خانة “المهاجرين” ولو كان من الجيل الثالث، يطرح إشكاليّة حول “المدينة” في الغرب، و”دولة القانون”، وقيَم الجمهوريّة والعلمانية، وفلسفة الدستور القائمة على “حقّ الأرض (Droit du sol)، وليس حصراً على قوانين الهجرة ومشكلات الاندماج، أو إشكاليّة الهجرة الجزائريّة تحديداً والمسلمين عامّة. وهذا ما يعقّد فهمنا نحن على الضّفة الجنوبيّة والشرقيّة للمتوسّط، حيث فلسفة دساتيرنا ما زالت تعتمد على مرجعيّات دينيّة، أو بطريركيّة أو Droit du Sang؛ بخاصّة أنّ اللّبنانيين ميالون للمقارنة بين ذاكرتهم الجماعيّة عن تجربتهم التاريخية مع الانتداب وبين علاقتهم بفرنسا التي لا تشبه كثيراً تاريخها الكولونيالي في أفريقيا وشمالها. 

قبل إعلان الجمهوريّة الثالثة وبالتوازي مع تطوّر الاستعمار الفرنسي لا سيّما في الجزائر بعد عام 1830، وضع الفرنسيّون نظاماً إدارياً وجزائيّاً للمستعمرات، تطوّر ليشمل المستعمرات الفرنسيّة كافة لاحقاً، نحو عام 1887.

متحف تاريخ الهجرة في باريس، Palais de la Porte Dorée، والعقل الفرنسي

عندما بنَى الفرنسيّون هذا المتحف عام 1931 بمناسبة المعرض الاستعماري، أرادوا تقديم الاستعمار للشعب والتسويق لعوائده الاقتصاديّة؛ وذلك بعد تراجع حماسة جزء كبير من اليسار الذي أصابته التحوّلات الدوليّة للحرب العالميّة الأولى. 

فبعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا وحلفائها في الحرب عام 1870، وإعلان الجمهوريّة الفرنسية الثالثة، دار نقاش كبير في فرنسا بين مختلف التيارات السياسيّة حول المستعمرات وخاصّة حول استعمار أفريقيا. وكان هذا النقاش بطريقة ما اندفاعة إلى الأمام للتعويض عن خسارة الحرب والذّل الذي أصاب فرنسا. جزء كبير من اليَسار أراد تصدير الثّورة، ومبادئ الجمهوريّة، وقيمها الكونيّة (Universalisme)، والعلمانيّة، كما وان جزء من اليَمين الأورليوني (Orléanistes) ساهم في هذه الاندفاعة. هذا التيار عبّر عنه جول فيري (Jules Ferri) واستطاع أن يقنع اليَمين القومي ورجال الأعمال بوجود فرص اقتصاديّة مهمّة خلف هذه الحملة الجديدة. وكان هناك تيّار الكنيسة الكاثوليكيّة الذي عبّر عنه الكاردينال شارلز لافيجري المتحمّس للتبشير والنظرة الجاكوبيّة Jacobisme في ربط المستعمرات بفرنسا. 

مقابل المتحمّسين، كان هناك المعارضون من بعض اليَمين واليَسار. فجزء من اليَمين، مثال “الشّرعيون” (Les légitimistes)- أنصار البوربون والبونبارتيّة، اعتبروا أنّ الجمهوريّة ما زالت ضعيفة وأيّ نجاح استعماري يمكن أن يؤدّي إلى تقويتها وتأبيدها. كما أنّ جزءاً منهم اعتبر أن على فرنسا ألا تُشتّت قوّتها العسكرية أمام ألمانيا بسمارك التي كانت قد صادرت قسماً من الشرق الفرنسي، وما زالت تشكّل تهديداً حقيقيّاً لها. في المقابل، كان جزء من اليَسار يعارض الاستعمار، ولا يؤيد النظرة الفوقية للحضارات الأخرى وعلى رأسهم كليمنصو. 

قبل إعلان الجمهوريّة الثالثة وبالتوازي مع تطوّر الاستعمار الفرنسي لا سيّما في الجزائر بعد عام 1830، وضع الفرنسيّون نظاماً إدارياً وجزائيّاً للمستعمرات، تطوّر ليشمل المستعمرات الفرنسيّة كافة لاحقاً، نحو عام 1887. عُرف ذلك بنظام الIndigénat أو المواليد، الذي يعالج قانون الأحوال الشخصيّة للشعوب الواقعة تحت إدارة الاستعمار، ومسألة المشاركة السّياسيّة، والانتخابات (Droit Local). شكّل ذلك تحدّيّاً فلسفيّاً وقانونيّاً للنموذج الفرنسي الجمهوري والعلماني في إدارة شعوب الإمبراطوريّة. إذ على الرّغم من انتمائها الى الإمبراطوريّة الفرنسية، فإنّ شعوب المستعمرات لا يحقّ لها الاشتراك بالحياة السّياسيّة الفرنسيّة؛ إنّما أعطيَت فقط الحقّ في انتخاب مجالسها المحليّة، والبتّ في شؤون أحوالها الشّخصيّة. وبالتالي ظلّ الفرد في مستعمرات الإمبراطوريّة الفرنسيّة موضوع قانون/ إداري (Sujet) من دون أن يُمنح حق المواطنة الكامل.

إنّ هذه المفارقة واللامساواة بين شعوب “الإمبراطوريّة- الجمهوريّة” قد بقيَت عنصر خلاف سياسيّ داخل الطبقة السياسيّة الفرنسيّة؛ وقد يكون الجزائر البلد الذي تمركزت فيه وحوله هذه الإشكاليّة بشكل كبير. 

عام 1944، تمّ التخلي عن نظام الـIndigénat؛ إنّما استمرّت بعض ممارساته بخاصة في الجزائر إلى حين الاستقلال، واتفاقيّة إيفيان عام 1962 حين أُعطيت بعض الاستثناءات لبعض الجزائريين في الحصول على الجنسية الفرنسيّة ضمن مهل معيّنة. 

الجدير بالذكر أنّ هذه الإشكاليّات العالقة قد تمّ علاجها جزئياً خلال نقاشات التي تَلت الحرب العالميّة الثانيّة (المستعمرات، المواطنة، الجنسيّة، إلى آخره) في خضم تأسيس الجمهوريّة الرابعة، أما في الحالة الجزائريّة فاكتمل ذلك فترة حرب الجزائر وحتّى إعلان الاستقلال. 

وبذلك، فإنّ علاقة فرنسا بشعوب مستعمراتها السابقة هي علاقة إشكاليّة لها امتداد تاريخي، لا يمكن اختصارها بشكل من أشكال الهجرة الاقتصاديّة المعاصرة (على سبيل المثال الهجرة إلى كندا). ناهيك عن ذلك، مفاعيل حرب الجزائر التي بجزء منها هي حرب أهليّة والتي أدّت إلى هجرات كبيرة إلى فرنسا، لم تقتصر على الأوروبيين. أضف أيضاً الى كل ذلك المواطنة الكاملة التي أُعطيت لشعوب المقاطعات ما وراء البحار Département et région d’outre-mer، والتي تعتبر اليوم جزءاً لا يتجزّأ من الأمّة الفرنسيّة. وقد يكون أفضل تعبير عن هذه التعقيدات التاريخيّة هو وصول ابن العبوديّة على رأس مجلس الشيوخ الفرنسي عام 1947 القادم من الغويانا الفرنسيّة (Guyane Française)، وقد بقي في منصبه حتى عام 1968 وكان شديد المعارضة لجنوح الجنرال ديغول في تعامله مع ممثلي الشعب. 

بين المصنع والمعمل: 

إلى ذلك، هناك المعطى التاريخي المرتبط بتاريخ الإمبراطوريّة الفرنسيّة ومستعمراتها وقيمها الجمهوريّة، إلى جانب تاريخ التطوّر الصناعي، والرأسماليّة، والطاقة (الفحم الحجري الذي استجلب وجذب الكثير من العمالة الغير متخصّصة للعمل في فرنسا). فمع اكتشاف المناجم في القرن الثامن عشر، وتطوّر الصناعات في القرن التاسع عشر، أصبحت فرنسا بلد الهجرات الشرعية وغير شرعيّة، لتلبية الطلب المتنامي على اليد العاملة الرخيصة الضروريّة للمناجم والصناعات وأعمال البناء.

عام 1881، كان عدد العمال المهاجرين من إيطاليا، وألمانيا، وبولندا، وبلجيكا قد تخطّى المليون. أضيف إليهم خلال الحرب العالميّة الأولى 400 ألف في المصانع تعويضاً عن ذهاب الشباب إلى الجبهات. وبعد الحرب، ومع ضرورات إعادة الإعمار، كان يقدّر عدد المهاجرين بمليون ونصف المليون عام 1921. ثمّ وصل هذا العدد إلى 2.7 مليون عام 1931. 

كما الهجرة الداخليّة كانت كثيفة من عالم الريف إلى المدن الصناعيّة التي تشكّل ضواحي الفقر، والضّواحي المختلطة بين الفرنسيين والمهاجرين. حتّى أواخر الخمسينات، كانت مدينة باريس تضع آرمات مكتوب عليها “ممنوع البصق أرضاً”. لقد أخذ استيعاب ذلك وهضمه في المدن عشرات السنين.

مع انتهاء الحرب العالميّة الثانية وضرورات الإعمار، استمرّت الحاجة إلى اليد العاملة المهاجرة، وزاد عدد الوافدين من بلدان المغرب العربي، وإسبانيا، ويوغوسلافيا، والبرتغال. فبين عام 1960 و1975، ارتفع عدد العمال الجزائريين من 350 ألفاً إلى 700 ألف، أمّا الإسبان والبرتغال من 50 ألفاً إلى 750 ألفاً. ثمّ عام 1975، أضيف إليهم 120 ألفاً من القادمين من البلدان الآسيويّة التي كانت تقع تحت النفوذ الفرنسي: كالكمبودج، ولاوس، وفيتنام. 

هذا التنوّع بالمهاجرين واختلاطهم بالطبقة العاملة الفرنسيّة حافظ على مسألة المهاجرين -باستثناء الأحداث التي حصلت بين الشرطة والجزائريين خلال حرب الاستقلال- كمسألة اقتصادية واجتماعيّة بعيدة من السياسة وطابعها الإثنو- ديني الذي سَيتمظهر لاحقاً، وذلك تحديداً مع الهجرة الأوروبيّة التي بقيت الأهمّ عدديّاً، مقارنة مع الهجرة الأفريقيّة وتلك الآتية من بلدان المغرب العربي. 

صحيح أنّ معالجة مشكلات اليَوم تقوم على معطيات الحاضر، لكن من الضروري دراسة المعطى التاريخي من أجل فهم الديناميّات التي تشكّل محرّكات صراع اليَوم، وإنْ بشكل غير واعٍ، وهي ثلاث:

انتصار الجمهوريّة في فرنسا ورسالتها الكونيّة الجمهوريّة وقيم العلمانية، الماضي الاستعماري والإمبراطوري وتحديات المواطنة، والمعطى الأخير يتعلّق بالاقتصاد، والثورة الصناعيّة، والمناجم، وإعادة الإعمار. 

في المقال اللاحق، سندخل أكثر بتفصيل التاريخ المعاصر للهجرة والاندماج والمدن متكئين على الديناميات التاريخية وأثرها في نجاح التجربة الفرنسية وفشلها في هذا المضمار. 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.