fbpx

سكان الضواحي: قنبلة فرنسا الموقوتة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الاضطرابات الأخيرة في فرنسا دلت على نشأة جيل جديد أصغر سناً وأكثر عنفاً بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وضغوط اقتصادية وثقافية يعيشها هؤلاء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يشارك عزيز (اسم مستعار) على نحو مباشر في موجة احتجاجات فرنسا الأخيرة، لكنه على تواصل مع شبان ومراهقين نزلوا إلى الشارع للتعبير عن سخطهم، على حد تعبيره. 

عزيز يبلغ من العمر 32 سنة، يعمل سائق أجرة ويقطن في ضاحية من ضواحي باريس الجنوبية غير بعيد عن منطقة L’hay les roses حيث تم إحراق منزل رئيس بلديتها خلال الاضطرابات الأخيرة. رفض عزيز، كما أوضح لـ”درج”، مقاربة الأحداث بصورة مجتزأة: لو لم ينتشر المقطع المصور الذي يوثق مصرع نائل، كانت رواية الشرطة الكاذبة ستُفرض علينا  وهذا ما فجر الأوضاع، ما حصل نتيجة وليس سبباً.  

كلامه يحيلنا إلى اللحظات الأولى التي انتشر فيها الخبر. محطة BFMTV نقلت عن الشرطة الفرنسية ما يلي: “بعد رفض الفتى الامتثال لأوامر الدورية، وقف الشرطي أمام السيارة التي انطلق سائقها مسرعاً، ما دفع بالشرطي إلى إطلاق النار”، وكأن مطلق النار كان في حالة دفاع عن النفس. 

لكن التمعن في تفاصيل المقطع المصور سمح للطرف الآخر بتقديم رواية مغايرة: لم ينكر أحد مخالفة نائل قانون السير، لكن تبين أن عناصر الدورية لم يكونوا أمام السيارة بل على طرفها الأيسر. بالتالي واستناداً إلى قانون الأمن الداخلي الفرنسي لم تكن شروط إطلاق النار متوفرة، كما أن عدم الامتثال للشرطة لا يعاقب عليه بالقتل بل بغرامة مالية تصل إلى 7500 يورو والسجن عاماً كحد أقصى.

يتساءل عزيز: هل يجب استنفار كاميرات المراقبة والهواتف الجوالة طوال الوقت وفي كل بقعة في فرنسا كي نضمن العدالة؟ إذا كان الفتية والشبان غاضبين، فالسبب هو الضغط المتراكم بفعل سنوات من عنف الشرطة وعنصريتها، حتى شعر كل واحد منهم بأنه قد يواجه مصير نائل في أي لحظة.  

في هذا الصدد، يشير عزيز إلى بيانات مديرية “الدفاع عن الحقوق”  Le Défenseur des droits، الصادرة عام 2016 التي أشارت إلى أن معدل خضوع الشبان الأفارقة والعرب (سواء كانوا مهاجرين أو فرنسيين) إلى تفتيش الشرطة، يفوق 20 مرة معدلات التفتيش التي يخضع لها ذوي الملامح الأوروبية. يتابع عزيز حديثه إلى درج : الذين اضرموا النيران واستهدفوا الشرطة بالألعاب النارية هم ذات الأشخاص الذين كانت “تستمتع” دوريات الشرطة في تفتيشهم أسبوعياً وأحياناً يومياً دون مبرر، فلا عجب أن “ينفجروا” يوما ما.

اندلاع الأحداث لم يكن مفاجئاً للرأي العام الفرنسي. منذ الساعات الأولى ساد جدال حول ما إذا كانت البلاد ستعرف اضطرابات مشابهة لعام 2005. في حينها شهدت ضواحٍ فرنسية أعمال عنف وشغب استمرت ثلاثة أسابيع على أثر وفاة شابين، من أصول عربية وأفريقية، صعقاً بالكهرباء، بعد دخولهما إلى محطة كهرباء للاختباء من الشرطة التي كانت تلاحقهما للاشتباه بتورطهما بحادثة سطو. 

استباق الأحداث بهذه السرعة دل على إدراك مسبق لوجود أسباب ومشاكل عميقة لم تعد خافية على أحد وتلخص بكلمتين “أزمة الضواحي”.

الاضطرابات الأخيرة أعادت فتح ملف المناطق والأحياء المصنفة “ذات أولوية” بحسب الدولة الفرنسية، تصنيف مرده إلى مستوى المعيشة المتدني لسكانها. يبلغ عدد تلك الاحياء السكنية نحو 1500 ويقطنها 8 في المئة من سكان فرنسا، بحسب “المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية” (INSEE).  

الخبير الاقتصادي فيليب بيلكنجتون اعتبر أن السبب الرئيسي لما شهدته فرنسا في الأيام الأخيرة يعود إلى التضخم. منذ عام 2021، ارتفعت أسعار السلع الغذائية بما يقارب 22 في المئة. ارتفاع انعكس سلبا على ذوي الدخل المحدود القاطنين في المناطق المذكورة آنفاً، أي الذين يخصصون 30 في المئة من دخلهم لشراء المواد الغذائية. 

اضطرابات دلت كذلك على فشل “السياسة الحضرية” (Politique de la ville) التي تقودها الدولة الفرنسية منذ الثمانينيات لتنمية تلك المناطق. خلال الأربعين سنة الماضية جرى تطبيق نحو 14 خطة تنموية بمجموع ميزانيات قدر بـ 200 مليار يورو. جهود ملحوظة أتت بثمارها على مستوى تحديث البنى التحتية وتطوير شبكة المواصلات لربط الضواحي بالمدن الرئيسية. بالمقابل يمكن تسجيل إخفاق على صعيد التصدي لأبرز مشكلة يواجهها سكان تلك المناطق: البطالة لا سيما في اوساط الفئات الشابة، إذ يبلغ معدل العاطلين عن العمل في تلك المناطق نحو 27 في المئة، فيما المعدل الوطني لا يتعدى الـ11 في المئة. 

كما يمكن تسجيل سبب رئيسي آخر ساهم خلال السنوات الأخيرة في ارتفاع منسوب الاحتقان: تنامي عنف الشرطة. 

بعد الاعتداءات الإرهابية التي عرفتها فرنسا في العام 2016 لا سيما هجوم نيس، صدر قانون في العام 2017 يمنح عناصر الشرطة مزيداً من المرونة في استخدام سلاحهم لا سيما لإيقاف المركبات غير الممتثلة لأوامر الدوريات. بحسب البيانات الصادرة عن الأجهزة الأمنية الفرنسية، تضاعف معدل إطلاق النار خمس مرات منذ صدور القانون المذكور ما يشير، بحسب منظمات حقوقية، إلى تطرف عناصر الشرطة وعدم إدراكهم استثنائية الظرف الذي دفع إلى إصدار القانون المذكور. بحسب صحيفة L’obs، بات نائل ثالث شخص يقتل منذ بداية هذا العام بذريعة عدم الامتثال لأوامر دوريات الشرطة، كما تم تسجيل 13 حالة مشابهة العام الماضي. تطرف تجلى في بيان صدر عن نقابة الشرطة اعتبر أنهم في حالة حرب.

الناشط الاجتماعي يزيد خرفي، رأى أن السلطات الحكومية والمحلية تسخر مواردها لبلورة خطط أمنية عوضاً عن تقديم حلول سياسية وتنموية. يضيف في تصريح لموقع Mediapart: تكلفة تركيب وصيانة كاميرتي مراقبة توازي توفير فرصة عمل لأحد سكان الضواحي. 

الاضطرابات الأخيرة دلت على نشأة جيل جديد أصغر سناً وأكثر عنفاً بفعل وسائل التواصل الاجتماعي.  لم يستوعب الشارع الفرنسي، عام 2005، ما حصل للشابين وظروف وفاتهما إلا بعد مدة زمنية. ففي الأيام الأولى تبنى وزير الداخلية في حينها نيكولا ساركوزي رواية عناصر الشرطة، ليتبين للرأي العام في وقت لاحق حجم المغالطات التي شابتها.

لكن الوضع اختلف على نحو جذري في حالة نائل. الانتشار السريع للمقطع الذي يوثق الحادث لم يترك أي خيار السلطات الفرنسية: إيمانويل ماكرون اعتبر أن ما جرى لا يغتفر، رئيسة الوزراء وصفت المقطع المصور بالمروع فيما أكد وزير الداخلية اتخاذ إجراءات عقابية بحق الشرطي، تصريحات لم تفلح في تهدئة الشارع.

 منذ اليوم الأول فاضت منصات Twitter  و Telegram و Snapchat و TikTok وInstagram  بفيديوات وصور توثق لحظة بلحظة مسار الأحداث في مختلف المدن الفرنسية. بخلاف العام 2005 لم يحتكر الصحافيون نشر المعلومة، سكان الضواحي وعبر هواتفهم محمولة تمكنوا بدورهم من تغطية الحدث ما كشف خطورة الوضع وحجم الاحتقان الشعبي. 

الجهات الرسمية الفرنسية كانت متنبهة إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في الاضطرابات وبما يتعدى التصوير والنشر: وفقاً لمصادر أمنية فرنسية، فإن ثلث الذين تم توقيفهم من المراهقين وهي شريحة متمرسة في استخدام تلك المنصات الرقمية، يتجمعون كل ليلة على شكل مجموعات يتراوح عددها بين 30 و50 شخصاً ولا يمكثون في كل نقطة أكثر من عشر دقائق، فيغادرونها سريعاً بعد افتعال الاضطرابات. مقارنة بالأجيال السابقة، لمست الشرطة قدرتهم التنظيمية اللافتة بفضل استعانتهم بمنصات رقمية، تسمح بتحديد موقع صاحب الحساب ومكان البث.  

الباحث في علم الاجتماع سامي زغناني اعتبر أن ما شهدته المناطق الفرنسية من عمليات تكسير وتخريب طاولت مدارس ومكتبات عامة ونوادي ثقافية ومؤسسات حكومية، عكس شعوراً بانتفاء الجدوى من تلك الصروح وخدماتها المقدمة، وأن انتفاء قنوات التواصل مع الدولة دفع بهم إلى ارتكاب أعمال العنف هذه لإيصال صوتهم.

كلام أكده عزيز حين توجه إلى كاتب هذه السطور بالقول: هل كنت لتنزل إلى الشارع وتبحث عن شبان لمقابلتهم لولا رد الفعل على مقتل نائل؟