fbpx

أثر الاحتباس الحراري في لبنان: “مآسي” تقنيات النجاة والتأقلم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ينقسم الناس بين محبين للصيف ومحبين للشتاء، ولكن هذه المشاعر لم تعد مرهونة في بلادنا لرغباتنا الشخصية فقط، فمع الأزمات التي نعيشها في لبنان، ومع التغيرات التي يشهدها المناخ العالمي، لم يعد لنا قدرة حتى على “مواجهة” الطقس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مع موجات الحرارة القاسية التي تضرب العالم، أجد نفسي عاجزة أمام هذا الحر الشديد، فالمروحة التي يمكن تشغيلها بالطاقة المحدودة التي استطعنا تأمينها خلال هذه الأزمة، تقف عاجزةً معنا أيضاً، ويبقى الحل الوحيد هو بتشغيل المكيفات التي لا يمتلكها كثيرون في منازلهم، ولا يستطيع كثيرون تأمين الكهرباء اللازمة لتشغيلها إن وجدت، فصارت مجرد فجوة بيضاء في الحائط، ينتظر أصحابها شفقة الدولة لتشغيلها ساعات قليلة، وإمتصاص القيظ الذي زرعته الشمس في حيطان منازلهم ومحالهم. 

أسبوع كاملٌ في غرفتي وأنا أحدق في مروحتي الصغيرة التي تنفخ هواءها الساخن في وجهي، أتصبب عرقاً، أغير ملابسي ثلاث مرات في اليوم، أغسل جسدي بالماء البارد مرات عدة، ولا شيء يتغير. لا يزال الحر ثقيلًا، وما زلت أشعر أنني غير قادرة على القيام بأي عملٍ، أو حتى الخروج من المنزل. 

أسبوعٌ كامل وأنا أحاول إنهاء عملٍ يسلتزمني في الأيام العادية بضع ساعات لإنهائه، لكنني في كل مرة أحاول البدء، أشعر بالعجز والتعب غير المفهومين، كأنني أتنفس الصحراء. في الليل، أتقلب في سريري ألف مرة حتى يستهلكني النعاس رغماً عني فأنام، أستيقظ مرات عدة، أبدل ملابسي، أغتسل، وأحاول من جديد. هكذا حتى ترغمني حرارة الشمس على الاستيقاظ وابتداء رحلة جديدة من المعاناة المتكررة.

تخبرني صديقتي في مصر أنها لم تذهب الى العمل يوم أمس، لم تنم طوال الليل، في حين كان يومها كارثياً، بعد قرار الحكومة المصرية تقنين الكهرباء لساعات عدة في كل المحافظات، لتولد لدينا معاناة جديدة مشتركة، تضاف إلى انهيار الجنيه المصري وخلق سوق سوداء، وارتفاع أسعار بشكل هستيري لا يزال أهل البلد يحاولون استيعابه. 

“معرفتش أنام في الليل، ومعرفتش أصحى الصبح”، قالت لمديرتها، لتجيبها “كلنا معرفناش ننام، اشمعنى انتي؟”، وتكتفي بإنذار شفوي لهذه المرة. 

هكذا تغيّرت حياتنا

منذ عامين، ومع استفحال الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، وانعكاسها على نمط حياتنا اليومية، وصحتنا النفسية، قررت عدم خوض الغمار بأي عمل بدوام محدد، وعوضته بالعمل الحر في مجال الكتابة والتحرير من المنزل، وحاولت تنظيم وقتي وقدرتي النفسية بما يتناسب مع المهام المتنوعة التي أتلقاها، بحيث لا أموت من الجوع، ولا أحتكم إلى وظيفة تقيّدني. 

لم يكن خياري هذا هو الأفضل على الصعيد المالي والمهني على حد سواء، فالعمل الحر لا يغني السيرة الذاتية، ومجال التطور واكتساب مهارات جديدة فيه أقل، لغياب العمل التشاركي والتراتبية الموجودة في مؤسسات العمل.  لكنه على الأقل جنّبني اصطدامات مهنية كانت ستحدث حكماً في حال عملي في أي مؤسسة لديها قواعد واضحة بما يخص الدوامات والعمل المتواصل، من دون أن تكون الحالة النفسية للموظف ذريعة كافية لعدم الحضور أو إتمام المهام في وقتها المحدد، ولا يكون الأرق وعدم القدرة على النوم حجةً لفقدان التركيز وضعف الإنتاجية في أيام معينة.

محاولات التأقلم

وجدنا كمواطنين ومقيمين على الأراضي اللبنانية، حلولاً هشة للمشاكل المستحدثة كافة التي جلبتها الأزمة وأضافتها إلى واقعنا، الذي كان يعج أصلًا بالأزمات، وفي ما يبدو من حالة السكوت العام إزاء الوضع الحالي، أننا في غالبيتنا اخترنا الانصياع للأمر الواقع، لأسباب عدة، في مقابل فئة ليست بالكثيرة ما زالت تبحث عن سبلٍ للتغيير، لكن عملها أيضاً محكوم بظروف قاهرة، لا سيما بعد فشل حراك 17 تشرين والانتخابات الأخيرة، ومعها وجوه تغييرية جديدة، في إحداث أي فرق في الأزمة المتفاقمة التي يعيشها لبنان.

تماشى السوق اللبناني مع واقع الأزمة، وانتشرت الأدوات الكهربائية التي تراعي جميع الأوضاع، هناك مراوح ولمبات “تشريج” لا تستهلك الكثير من الطاقة، ومنها ما يتم شحنه أيضاً من خلال الطاقة الشمسية. 

وقد عمد من استطاع إلى ذلك سبيلاً، إلى خلق ظروف حياتية أفضل تجنّبه المعاناة التي يعيشها اليوم الآلاف من المعدمين في لبنان، والعاجزين حتى عن تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة. فغياب الكهرباء على سبيل المثال عوّضته ألواح الطاقة الشمسية وكابلات الاشتراك، وارتفاع كلفة المحروقات جعل الناس يعمدون الى المواصلات العامة والمشي مسافات طويلة. 

ربما أعادت هذه الحلول البديلة الحياة إلى سياقها الطبيعي بشكل ما، إلا أن لها مشاكلها الكثيرة التي تبلغ ذروتها في حالات معينة.

بالإضافة الى الكلفة الثابتة لتركيب المحولات والبطاريات اللازمة لتشغيل الطاقة الشمسية، هناك تكلفة لوح الطاقة الذي يبلغ ما يقارب الـ 250 دولاراً. يستطيع لوح واحد أو اثنان تشغيل طاقة لا تتجاوز الأومبيرين، ويستلزم ما يقارب الـ 6 إلى 8 ألواح لتحصيل طاقة توازي الـ 10 أمبير. كما تترواح أسعار الاشتراكات بين 150 دولاراً للـ 5 أمبير و 300 دولار للـ 10 أمبير، في حين تعمل بعض المولدات على العداد، وفي جميع الحالات يختلف توزيع الساعات بحسب المولدات وقدرتها على التحمّل، لذا فالكثير منها يعمل بنظام التقنين، وغالباً ما يكون هذا التقنين خلال ساعات الليل الأخيرة، وبعض ساعات النهار.

تماشى السوق اللبناني مع واقع الأزمة، وانتشرت الأدوات الكهربائية التي تراعي جميع الأوضاع، فأصبحت هناك مراوح ولمبات “تشريج” لا تستهلك الكثير من الطاقة ويمكن استخدامها خلال ساعات من انقطاع التيار الكهربائي بأشكاله كافة، ومنها ما يتم شحنه أيضاً من خلال الطاقة الشمسية. 

هذا صيفاً، أما في الشتاء فتنوعت وسائل التدفئة التي استخدمها المقيمون في لبنان، بما يتماشى مع قدرتهم المادية، في حين ظل كثيرون يعانون من عدم قدرتهم على تحمّل تكلفة أي شكل من أشكال وسائل التدفئة، واكتفوا بالوسائل البديلة من إشعال الفحم داخل المنزل، وقد سُجلت خلال الأزمة حالات وفيات كثيرة اختناقًا أو حرقًا بسبب هذه الطريقة، وحالات من الموت برداً، كالمشرّد الذي مات في الضاحية الجنوبية منذ ثلاث سنوات، بعدما عثر عليه الناس جثة هامدة في الشارع.

الاحتباس الحراري أصبح حقيقةً يوميّة

لا أذكر خلال سنوات حياتي السادسة والعشرين، أنني عانيت من حرارة الصيف بهذا الشكل، رغم أننا لم نعمد في منزلنا إلى تركيب أجهزة تكييف، بل اكتفينا بالوسائل التقليدية من مراوح بطاقة محدودة، ولا أذكر أيضاً، شتاءً بقساوة الذي شهدناه في العامين الماضيين، إذ لم تشفع لنا كهرباء الدولة الغائبة وألواح الطاقة الشمسية التي لا تؤمن شتاءً، أكثر من 1.5 أمبير يتم استخدامها للاستعمالات البسيطة كالإنارة وشحن الهواتف وجهاز الإنترنت، فاكتفينا بمدفأة الغاز التي كنا نشعلها في ساعات قليلة من الليالي العاصفة التي لا تنفع معها كثافة البطانيات، أما في الأيام العادية فكنا نعاني من البرد طوال الوقت.

مأساة العمال “المياومين” والمهجرين في المخيمات

في حين نعاني نحن في منازلنا ومكاتبنا ومؤسساتنا، التي نستطيع بطريقة أو بأخرى تأمين حد معين من التبريد داخلها، يقبع في الشارع مئات وآلاف العمال المياومون، أولئك الذين يتقاضون مقابل أتعابهم الجسدية كل يوم بيومه، من سائقي سيارات أجرة إلى عمال نظافة وعمال بناء وغيرهم الكثير، من المهن التي لا يحظى العاملون فيها بأي استثناءات، وبأي مراعاة لما يمر به البلد من موجة حرارة خانقة قد تطول.

كيف لسائق سيارة أجرة أن يتحمل ساعات النهار الطويلة تحت أشعة الشمس الخانقة، في ظل زحمة سير تقتل أي متنفس هواء يمكن أن ينتظره السائق من شبابيك سيارته، وارتفاع سعر المحروقات لتشغيل المكيف إن وُجد، وكيف لعمال النظافة إكمال يومهم بردائهم الموحد الذي يحجب الهواء، وتحمّل الروائح التي تزداد سوءاً مع ارتفاع درجات الحرارة. وكيف لعامل البناء أن يتحمل رفع مواد ثقيلة ونقل معدات والحفر والخ. 

كيف أمضى هؤلاء أسبوعهم هذا، وكيف سيمضون ما تبقى من هذا الصيف، الذي يبدو أنه سيكون قاسياً أكثر بكثير مما تعودنا عليه. كيف يعيش أبناء المناطق المعدومة الذين لا يمتلكون أي وسائل طاقة بديلة أو تبريد في منازلهم، وكيف يعيش أبناء المخيمات السورية الذين يسكنون خيم القماش أو منازل بسقوف حديدية تحولت بفعل الشمس والحرارة المرتفعة إلى فرن كبير غير صالح للسكن؟

الفقراء يحبون الاعتدال

ينقسم الناس بين محبين للصيف ومحبين للشتاء، ولكن الحقيقة أن هذه المشاعر لم تعد مرهونة في بلادنا لرغباتنا الشخصية فقط، فمع الأزمات التي نعيشها، ومع التغيرات التي يشهدها المناخ العالمي، يمكن القول إن الفقراء يحبون الخريف والربيع، الفصلان اللذان يمكن لأي فرد التعايش معهما، أما الصيف والشتاء في وضعنا الراهن، فهما جميلان، لمن لا يضطرون للموت اختناقاً بالفحم، ولا تحرقهم الشمس أثناء عملهم، و تنقلاتهم، ومحاولاتهم  لعيش أبسط الأمور اليومية.