fbpx

حمدين صباحي في دمشق… ذاكرة الناصريين المثقوبة والعمياء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان اللقاء المباغت الذي تم، قبل يومين، بين صباحي وبشار الأسد، ضمن رئاسته وفداً من الأمانة العامة لـ”المؤتمر القومي العربي”، بعد مغادرة العاصمة اللبنانية، بيروت، ليس عماءً أيديولوجياً، أو فقدان بوصلة سياسية وأخلاقية، إنّما هو ذلك كله بالإضافة الى حالة التيه المتفشية، والتي تبدو في التناقض الفج على خلفية تباين المواقف السريع من دون أفق أو تحقيق نتائج. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في فيلم “الآخر” للمخرج يوسف شاهين، برز السياسي الناصري المصري، حمدين صباحي، في مشاهد محدودة في دور رئيس تحرير يساري، له مواقف انفعالية وعصبية متشنّجة من عولمة الرأسمالية وممثليها من طبقة رجال الأعمال التي تخلق صراعات بالمجتمع. وقد نجمت عنها، في ظل التناقضات الطبقية، مساحات هامش اختلط فيها الفقر بالإرهاب الديني بالفساد.

ثلاثية تقليدية يتقن الناصري بخلفيته الصحافية المسيّسة تأديتها في كادر ثابت بإضاءة تكاد تكون معتمة داخل جدران حزب “التجمع الوطني التقدمي الوحدودي” الذي يضم خليطاً يسارياً (بما فيه اليسار الإسلامي (!)). هذا الكليشيه السينمائي، وفي الواقع، يكاد لا يختلف عن المواقف المماثلة والعملية لصباحي الذي يتحدث كأنّما يهتف ويستدعي جماهيرية متخيّلة من حواف الذكريات المتهالكة، والانتصارات المتوهمة، في زمن الأحلام الكبرى، والمواكب العسكرية الضخمة. هذا الميراث الذي لم يكفل لنا سوى العنتريات والارتجالات السياسية الشعبوية، ثم الحداد والإحباط.

صباحي الشاب الجامعي الناصري، الذي أسّس “نادي الفكر الناصري”، في جامعة القاهرة، في سبعينات القرن الماضي، ونشط ضمن الحركة الطلابية، آنذاك، ضد الرئيس السادات الذي “مشى على خطى عبد الناصر بأستيكة (ممحاة)”، تبدو مواقفه السياسية تجاه الأنظمة العربية أبعد من كونها براغماتية أو انتهازية، بل إنّها محبطة للدرجة التي تصل حد الإفلاس، إفلاس النظرية (القومية العربية). هذه النظرية شهدت صراعاً، علنياً ومكتوماً، حول النسخة الصحيحة بين جناحيها البعثي في “القطر” السوري والعراقي، ثم كان الأخير ممتعضاً من الظاهرة الناصرية، ويرى أنّ النسخة “العفلقية” هي الأكثر شمولية ومتانة. 

ومنذ توقيع وثيقة الانفصال بين مصر وسوريا، خاض الطرفان حروباً إعلامية عنيفة، وتبادل كل منهما الاتهامات. ووصف عبد الناصر سياسة البعث بأنّها “طائفية” واعتمدت على “الأقليات”. فيما “قسمت سوريا إلى “بعثي وسوري”، الأول معه كل شيء، والثاني يتم تجريده من الحقوق كافة. وقال عبد الناصر إنّ “قيادة حزب البعث كانت دائماً قيادة انتهازية… قيادة حزب البعث كانت دائماً قيادة تريد أي غنيمة ولو فضلات الموائد… كانت قيادة حزب البعث تريد أن تتسلل ولو في الذيل، وعلى هذا لم تمنعها الشعارات المزيفة التي رفعتها بالوحدة والحرية والاشتراكية… لم تمنعها أبداً من أن تؤيد الانفصال وتدعمه، وأن تساهم فى انتخابات عهد الانفصال، وأن تقول فى منشوراتها إنّها تريد أن ترسي قواعد هذا العهد”.

ربما، لم يسعف الوقت صباحي في أن ينصت جيداً لهذه التسجيلات من أرشيف الخطاب الناصري. 

لذا، كان اللقاء المباغت الذي تم، قبل يومين، بين صباحي وبشار الأسد، ضمن رئاسته وفداً من الأمانة العامة لـ”المؤتمر القومي العربي”، بعد مغادرة العاصمة اللبنانية، بيروت، ليس عماءً أيديولوجياً، أو فقدان بوصلة سياسية وأخلاقية، إنّما هو ذلك كله بالإضافة الى حالة التيه المتفشية، والتي تبدو في التناقض الفج على خلفية تباين المواقف السريع من دون أفق أو تحقيق نتائج. 

فصباحي، الذي هاجم الأسد في حزيران/ يونيو عام 2012، وقال إنّ “الثورة السورية تسجّل بدماء أطفالها آخر سطر في نظام يتمسك بالحكم على جثث شعبه”، عاود حديثه بصيغة أخرى تطهرية تجعل من هذا النظام الدموي “قلب الأمة العربية”، والوقوف معه هو “ضد العدوان والاحتلال والحصار”. وأضاف: “نؤمن بدورها (أي سوريا الأسد) وموقعها في قلب الأمة العربية”. هذا الموقف أيضاً أضعف من كونه نفاقاً سياسياً، بل هو تهافت ساذج على كسب المواقف، واستجابة غرائزية وبدائية للأحداث، بما يجعل التراجع عن الأولى بعد انحسار الأخيرة، أو بالأحرى القدرة على كبحها وتصفيتها، أمراً تلقائياً وعادياً. 

مرة أخرى، نصطدم بالكليشيه الذي يفتقد أيّ إغراءات سياسية. فـ”الاحتلال” في سوريا ليس واحداً بل هو احتلالات، أولها في العاصمة دمشق التي زارها الناصري رئيس “المؤتمر القومي العربي”. دمشق التي تواجه “صدام الهمجيات” بتعبير الباحث اللبناني، جيلبير الأشقر. وذلك من خلال ولادة قسرية للعنصر الطائفي الجهادي و”دعشنة” الحراك الذي كان علمانياً ديمقراطياً ضد الحاكم العائلوي المافيوي. والاحتلالات في سوريا، تركية وإيرانية وروسية وأميركية، وحتى قاعدية بزعامة أبو محمد الجولاني. وكل منها لديه إقامة دائمة أو شبه دائمة. 

وفي دمشق، كما في عفرين بشمال غربي سوريا، تتبدل الشوارع إلى أسماء تبرز دلالاتها بما يتناسب والمقيمين الجدد، مثل شارع “الجيش” الذي تحول الى شارع “الإمام العباس”. وفي ما يبدو، أنّ صباحي تجاهل، في رحلته التي سبقت سوريا، عبارات لا يُخفى مغزاها في شوارع بيروت، تقول: “إيران برا برا”.

ووصف صباحي أمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، بأنّه يحمل “الراية العظيمة التي رفعها القائد العظيم جمال عبد الناصر”، صحيح أنّها تحمل شبهة نفاق ومجاملة سياسية فجّة ومريرة، إلا أنها تعكس، في المقابل، معضلة الأيديولوجيات الشمولية التي يظن المنتسبون إليها أنّ في مقدورهم توزيع ميراثها المعنوي ومنحه للآخرين مجاناً. 

غياب السياق وشحن الأشخاص والواقع بانفعالات انتهت شروطها، يجعلان السياسة لدى هؤلاء مثل مجالس العزاء. فنصرالله لم يعد هو الشخص “العروبي”، المطلوب تحقيقه في بيئة مهزومة كما حدث مع بزوغ نجم ياسر عرفات بعد هزيمة عبد الناصر في حزيران/ يونيو 1967، وملء فراغ نفسي ملح. بل هو ممثل “الولي الفقيه” في لبنان وسوريا واليمن. لكنّ ذاكرة الناصريين المثقوبة تصر على التعامي. التعامي نفسه عن مشهد كابوسي ممتد الى أكثر من عقد في سوريا بواسطة “الأسد” ووكلائه المحليين والإقليميين. 

وهنا، مراجعة مواقف صباحي من نظام صدام حسين أو معمر القذافي، اللذين لا يختلف أي منهما عن “الأسد” في القمع والقتل والتشريد ونهب الحقوق والثروات، تبدو تحصيل حاصل، أو تأكيداً لمقولة كارل ماركس أنّ “التاريخ يكرر نفسه مرتين، مرة في شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. وما نراه، الآن، هو المهزلة”. خصّص صباحي عام 2006، خلال رئاسته تحرير صحيفة “الكرامة” الناصرية، “ملحقًا خاصاً” لمناسبة ذكرى ثورة “الفاتح من سبتمبر”، وفي الصفحة الأولى صورة ضخمة للقذافي ومدّون عليها: “37 عاماً من الإنجازات”.

وفي زمن الهبات البعثية بعراق صدام حسين، والامتيازات التي كان يحظى بها المقربون أو المحظوظون في السياسة من “مكتب مصر”، وغيرها من فروع الأقطار العربية داخل الحزب وهيئاته الإعلامية والثقافية، بشّر صباحي الرئيس العراقي “بنصر من الله” بعد تلاوة آية قرآنية افترض تأويلها السياسي على “حارس البوابة الشرقية”. نفى صباحي الاتهامات المتداولة كافة، أكثر من مرة، بحصوله على أيّ أموال من صدام. لكن بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، فالواقع، الأكثر فداحة، تمويل السياسي المصري السلطة والأنظمة الأوليغاركية المتورطة في “جرائم حرب” بينما يتنقل بالميراث الناصري ويوزّعه بسخاء.