fbpx

كيف أنجو من ذاكرة ٤ آب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعيش إلى ما لا نهاية وسط مشهديّات مؤلمة وصدمة مستمرة تهدّد كلّ أيامي، تتردّد كأنها مسرحية تُعرض لمدى الحياة على مسرح رأسي. يغذّي هذه المشهديّات غضب مشتعل وعطش لا ينقطع الى العدالة المفقودة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلال مشاهدتي وثائقي Anxious in Beirut للمخرج زكريّا جابر، لفتني مشهد يجوب خلاله زكريّا شوارع بيروت المنكوبة، ورأيت حجم الفوضى والدمار في ليل بيروت 4 آب/ أغسطس 2020. كنت هناك لحظة الانفجار، ولكن جلّ ما فعلته في الدقائق الأولى التي تلت الانفجار كان السعي الى الخروج من بيروت، وفعلت. فعلاً عند الساعة السابعة إلّا ربعاً، كنت مع خالي في السيارة نتوجه نحو بلدتي شكّا التي تقع شمال لبنان.

لا أزال أسرد تجربتي الشّخصية في انفجار بيروت كأنني حكواتية تخبر قصة غيرها، ولكن بأدقّ التفاصيل. أتحدث مراراً عن شعور البقاء على قيد الحياة، وعن أشباح ذاك اليوم التي تطاردني. لم يكن مجرد تاريخ، بل كان تحولًا هائلاً في المشهد الوجودي الذي أعيشه. تشوّهت حواسي بشظايا هذا التاريخ الذي يستبيح ذاكرتي وذكرياتي:

صوت يصمّ الآذان.

حرارة شديدة.

رائحة دم قوية تحوّل النفس البسيط إلى رحلة عودة إلى ذلك اليوم المشؤوم.

زجاج مبعثر، شهادة حسيّة على هشاشة الحياة.

عويل لا ينقطع.

أعيش إلى ما لا نهاية وسط مشهديّات مؤلمة وصدمة مستمرة تهدّد كلّ أيامي، تتردّد كأنها مسرحية تُعرض لمدى الحياة على مسرح رأسي. يغذّي هذه المشهديّات غضب مشتعل وعطش لا ينقطع الى العدالة المفقودة.

عادةً ما أتوقف عن سرد التجربة عند لحظة خروجي من بيروت. بعد 3 سنوات، بعد استفحال الخوف، وبعد رحلات متعدّدة من العلاج النفسي، أعود اليوم وللمرّة الأولى إلى ما بعد الساعة السادسة والعشر دقائق يومذاك، وألحظ أنّني لا أتحدث أبداً عن الحبّ الذي غمرني به الأهل والأصدقاء يومها.

سيعود اليأس، سيعود ويرحل ويعود مجدّداً، ولكن اليوم أريد فقط أن أذكر هذه اللحظات البسيطة حين كان جميع من أحبّ يتحملق حولي. كنّا كلّنا معاً، وهذا ما كنت أحتاجه يومها فعلاً.

قابلت خالي الذي توجّه فوراً من بلدتي الشمالية إلى بيروت عند سماع خبر الانفجار بحثاً عني. أتى على عجلة في سيارة Renault 18 قديمة يستعملها فقط للعمل. أتى على عجلة في ثياب المنزل، سروال قصير و”فلانيل” بيضاء. تلاقت أعيننا مصادفة في منطقة الدورة بعدما أتيت من وسط بيروت سيراً وحذائي مهشّم بالزجاج. لم يسألني شيئاً ولم أقل شيئاً. صعدت، وساد صمت كامل من بيروت وصولاً الى بلدتي في الشمال. عند وصولنا، كان الجميع يقف خارجاً: أمي وإخوتي وأصدقاء إخوتي وأصدقاء طفولتي والجيران، وجدي وجدتي… كان جميع من أحب يقف على الشرفة منتظراً.

ترجّلت بصمت وجلست على أقرب كرسي. نزعت أمي حذائي الملطخ بالدماء ونفضت عنّي زجاج بيروت الذي حملته في طيّات ملابسي. أخيراً نطقت وقلت: “راسي.. في ضربة عا راسي”. أتى أخي الكبير وتحسّس رأسي. ساعدتني جدتي على الاغتسال وكانت تشهق بالبكاء. خرجت وجلست مع الجميع حول التلفاز. كان جدّي يقف في إحدى زوايا الشرفة ينفث سيجارته بصمت. سألته مرّة متى بدأ التدخين وأذكر أنه قال لي: “منذ هجوم شكّا”، أي إحدى معارك الحرب اللّبنانية الشّرسة التي طاولت بلدتي. تذكّرني سيجارته دوماً بلعنة هذه البلاد التي تنتقل من جيل إلى جيل بأشكال مختلفة.

كانت أمّي تحضّر القهوة التي فاحت رائحتها في أرجاء المنزل وذكّرتني بأنني عدت، أنني هنا في البيت.
نطقت مرة أخرى وقلت إنني أريد البيتزا. ركض الجميع لتلبية رغباتي، فأنا العائدة من موت بيروت المحتّم. أكلنا جميعنا سوياً، أكلت الوجبة الأولى في حياتي “الجديدة” مع جميع من أحبّ. كانت صديقتي تضع أكياس الثلج على رأسي.

نمت في غرفتي الى جانب إبنة خالتي، قريبتي المفضّلة. كان أخي الكبير يدخل الغرفة مراراً ينظر إلي ويخرج. عند منتصف الليل، ذهبت الى غرفة أمي. كانت مستيقظة وكأنها كانت تنتظرني. نمت الى جانبها كطفلة لم تبلغ عامها الثاني بعد. رنّمت ترنيمة ما ومسدت خصال شعري وغفوت.

أخبرت شريكي بتفاصيل التجربة، فقال لي “اكتبي”، شجعني على الكتابة، فالتقطت للمرّة الأولى ورقة وقلماً وكتبت، ونُشر المقال الأول لي يوم 9 آب 2020 في “درج” تحت عنوان “انفجار بيروت: يوم أسلمتُ الروح…”، تعرّفت يومها على الجزء الحكواتي منّي. أصبح الحكواتي الذي بداخلي صديقاً مقرّباً أزوره كلّما شعرت بحاجة الى البوح والعلاج.

ما كنت أذكر هذا كله من قبل. لحظة الانفجار استباحت ذكرياتي كلّها. أدوّن اليوم هذه التفاصيل، لا أريد أن أنساها. فليستبح تاريخ ٤ آب ذاكرتي وذكرياتي، ولكن بجزئه الثاني حيث الحبّ… أبتعد اليوم من السوداوية التي صبغت حياتنا في هذه البلاد، وأقول للمرّة الأولى إنني محظوظة. سيعود اليأس، سيعود ويرحل ويعود مجدّداً، ولكن اليوم أريد فقط أن أذكر هذه اللحظات البسيطة حين كان جميع من أحبّ يتحملق حولي. كنّا كلّنا معاً، وهذا ما كنت أحتاجه يومها فعلاً.

هذا ما أحتاجه كلّ يوم.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.