fbpx

لهذا رقصتُ حين رحلت جدّتي…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت جدتي تزرع الورود وتعشقها. علمتني هي ألا نقطفها. اتركوا الورد “ع أمه” أجمل. كانت تحب أن نصور الورود في حديقتها وردةً وردة. كانت تطلب أحياناً أن نلتقط لها صورةً بجانب ورودها، ولكنها لم تطلب أبداً أن ترى الصور. تطلب فقط إرسالها لأبنائها وحفيداتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان قد مضى أسبوع واحد على رحيلها. أقفلتُ باب غرفتي. وضعت سماعتي الأذن، ورقصت.

نشاط جدتي المفضّل كان أن نتحلق أنا وشقيقاتي حولها لنشغل الموسيقى التي تحب، ونرقص فيما تصفق لنا. كنتُ أخجل حينها من الرقص. أكتفي ببضع حركات، وأسارع لأجلس بجانبها محاولةً إلهاءها بنشاط آخر. 

رقصتُ بعد رحيلها، كما لم أرقص أبداً. 

ربما لأقول لها إنني لم أعد خائفة من الرقص. ها أنا أتحرر شيئاً فشيئاً من قيودي الوهمية. صفّقي لي.

بسبب ميلي الى فلسفة الفقدان كما كل شيء آخر، وفي محاولة لفهمه والتعايش معه، أدركتُ أخيراً أنه، قبل عقود من رواج مصطلح “المساحات الآمنة”، كان حضن جدتي مساحتي الآمنة الأولى. كان مطبخها مختبراً لكل تجاربي، وحديقتها زاويةً لتأملاتي المبتدئة، وبيتها ملجأً في كل مرة تضيق بي حدود الحياة. 

كنت أحوّل مناديل الرأس الخاصة بها إلى فساتين، وأعرض عليها آخر تصاميمي في عرض أزياء لا يحضره سواها.

لا أذكر أنها نهرتني ولو مرة واحدة، أو رفعت صوتها في وجهي مهما ارتكبت من حماقات. لا ممنوعات عند “تيتا”. “اطلبي روحي”. لم تقرأ جدتي كتب التربية الحديثة، ولا تعرف طبعاً أنه بات من الممكن تربية الأطفال بالاستعانة بتطبيقات عبر الإنترنت.

حملت فقط في قلبها كماً هائلاً من الحب المجاني. تمنحه هكذا، بكل تلقائية. كانت الأمان بكل أشكاله، من حيث لا تدري.

أعرف جيداً أننا، كبشر، نميل الى أن نحول من نحب إلى قديسين وقديسات بعد رحيلهم. قد يكون في ذلك، بعض من فعل ندامة نشعر بها لأننا، على عادتنا، نخفق في التعبير عن حبنا لهم أو قد لا ندرك حجمه فعلاً فيما هم موجودون بيننا.

في حالة جدتي، كان يكفيها أنها استطاعت منح ذلك الأمان كله لروح يافعة، حتى تصبح قديسة.

أثرها واضح الآن. أراه في تفاصيل صغيرة. 

كان قد مضى أسبوع واحد على رحيلها. أقفلتُ باب غرفتي. وضعت سماعتي الأذن، ورقصت.

كانت جدتي تزرع الورود وتعشقها. علمتني هي ألا نقطفها. اتركوا الورد “ع أمه” أجمل. كانت تحب أن نصور الورود في حديقتها وردةً وردة. كانت تطلب أحياناً أن نلتقط لها صورةً بجانب ورودها، ولكنها لم تطلب أبداً أن ترى الصور. تطلب فقط إرسالها لأبنائها وحفيداتها.

أرادت دائماً أن تخبئ لنا الدهشة، تماماً كما كانت تخبئ لكل منا حصته من الفواكه حتى لا يفوتنا الموسم.

أدهشتني أيضاً حين نادتني مرةً وأنا في السابعة من عمري، ووجدتها قد قطفت وردةً على غير عادتها. كانت من النوع الذي يحمل مادةً تشبه الصمغ، أحدثت شقاً صغيراً أعلاها، ووضعتها كقرط في أذناي. أنا اليوم، أشارف على الثلاثين، ولدي هوس بجمع أقراط الأذنين على أشكالها.

قد تكون جدتي أيضاً، النسوية الأولى في حياتي، من حيث لا تدري. 

أسريت لها باكراً بأنني أرغب في أن أصبح صحافية. كنت أجبرها على أن تجلس أمامي لساعات فيما أتلو عليها “نشرة الأخبار” من الصحيفة. كانت “تيتا” جمهوري الأول. 

أخبرتها برغبتي في محاورة كبار شخصيات العالم يوماً ما. “يلا حاوريني أنا”، قالت. 

أخبرتني مراراً عن ذكرياتها في مدارس البترون التي انتقلت إليها في وقت كان من النادر أو حتى من المستحيل أن يُسمح للنساء بترك قراهن لمتابعة الدراسة. كانت في كل مقابلة، تردد ما حفظته من أشعار خلال سنوات الدراسة. كانت فخورة جداً بأن ذاكرتها لا تزال تسعفها، لتتذكر “أجمل الأيام”. كانت أيام الدراسة أجمل أيامها.

أخبرتني أيضاً عن شاعر استوقفها فيما كانت تتنزه مع صديقاتها وهي في العشرينات من العمر، ليقول لها أبياتاً من الشعر حرصنا أن تُكتب على شاهد قبرها لأنها بقيت تردّدها بفخر على مدى ستين عاماً. يقول المطلع: “يا هادية طبعك هادي، زينة بنات الوادي”. 

كانت فعلاً اسماً على مسمى: “هادية”. هادئة أكثر من اللازم ربما. حتى اقتنعت بكل سذاجة بأنها لا تغضب أبداً، وإن اجتمعت في حالتها كل أسباب الغضب.

أخبرتني كيف أنها كانت توثق سفراتها عبر كتابة كل تفاصيلها في دفاتر صغيرة تحتفظ بها. بعد رحيلها، قرأتُ مذكراتها تلك. لفتني أنها، ورغم كل ما شاهدته من سحر لدى زيارتها والدي خلال إقامته في إيطاليا، حرصت على توثيق لحظة دون غيرها. اللحظة التي خرجت فيها هي ووالدي من أحد المحال التجارية، وهما يغنيان.

أنتبه الآن إلى أنها لم تخبرني خلال حواراتنا عن زواجها وإنجابها. وكأنها أرادت فقط استرجاع أشياء فعلتها هي. الطفلة والشابة. إنجازاتها الشخصية الضئيلة. قصتها هي وحدها قبل أن يقع عليها الاختيار لتكون زوجة، وأماً ثم جدة.

أود لو أُجري مقابلة معها اليوم. أنا المرأة التي صرتها. 

أود أن أسألها ما لم يسألها أحد إياه. أود لو أتعرف على جدتي، المرأة، لا “تيتا”. أود لو أعرف ماذا تحب فعلاً، وماذا تكره؟ متى شعرت للمرة الأولى بأنها جميلة؟ هل كان لها حب أول؟ هل تذكره؟  لو عادت بها الأقدار، هل كانت لتختار ما اختير لها؟ هل كانت لتكون “تيتا”؟ هل هي فعلاً “هادية”؟ ألا تحزن حين لا نبادلها حبها غير المشروط؟ ألا تلعننا حين نتذمر من مطارداتها المستمرة لنتناول الطعام الذي أعدته لنا؟ ألم تتعب من أن تحب أكثر؟

ألم تسأم يوماً من السؤال والاطمئنان عمن لم يسأل عنها؟ 

أتكفي بعض الدموع الصامتة التي كنتُ ألمحها على وجنتيها حين تغني العتابا لبلسمة الحزن المزمن؟ 

أين تذهب بكل ذلك الغضب الذي يولد مع نساء هذه البقعة من الأرض؟

هل أرادت الصراخ، ولو لمرة؟ 

أجزم أنه لو سنحت الفرصة لها ولبنات جيلها، لملأن الأرض صراخاً وآهات. 

لم تسألني جدتي يوماً “متى نفرح منك”؟ كانت دائماً فرحة بي. كان يكفي أن أصل من بيروت في زيارة أسبوعية، وشعري مرفوعاً عن وجهي كما تحبه لترى “القمر” وتفرح بي، وتقول لازمتها: “كتير ضعفانة، مش عم تاكلي منيح ببيروت؟”، وكأنها تعرف أنني سمعت بعض التعليقات المتطفلة على بعض كيلوغرامات كسبتها، وأرادت التخفيف عني.

أبتسم في كل مرة أنظر فيها إلى المرآة أخيراً، وألوم نفسي وأوبّخها لأنني كسبت بعض الوزن الزائد. أفكر في أنها لم تكن تريد التخفيف عني. كنت مثالية بنظرها لأنني أنا. أردتُ دوماً أن أراني بعينيها. كم كانت لتكون حياتي سهلة! 

سؤالها المعهود للاطمئنان عني: “عم تشتغلي؟ يعني أنت موظفة؟”. بالنسبة إليها، كانت وظيفتي أهم أسلحتي.

أذكر أيضاً كم كانت سعيدة بي لتعلّمي القيادة، وكيف أن أول مشوار لها بسيارتي، كان “أحلى مشوار في حياتها”. لا أنسى دهشتها في كل مرة أؤكد لها: “ايه يا تيتا، والله سقت من بيروت عالبقاع لحالي”.

“ليش زعلانة؟ يقطع الزعل، بعملك بوشار؟”، اكتشفت في ما بعد أيضاً أن البوشار لا يزال حتى الآن وجبتي المفضلة، وألجأ إليه كلما أردت أن “أقطع الزعل”. 

سقطت ورود جدتي أوائل خريف العام الماضي، ورحلت هي أوائل شباط/ فبراير من العام نفسه، لأن الورد “ع أمه أجمل”.

في أول زيارة الى منزلها بعد رحيلها، وجدتُ قطتها وقد أصيبت بندبة قرب عينها اليسرى. أخبروني أنها أُصيبت، وترفض تناول الطعام منذ موت جدتي.

جلستُ القرفصاء إلى جانبها، فيما تنهمر دموعي وكأنني أريدها أن تعرف أنني أشاركها شعورها باليتم. 

هربت القطة مني، ربما بحثاً عن أمان جديد.

بقيتُ أنا، وندبة مزمنة، وسؤال: “لماذا تموت الجدات؟”.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.