fbpx

أن تكون عدوًا مؤقتًا للجماهير الافتراضية 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثيرون ممن هاجموا نور حجار لم يقدموا طرحًا حقيقيًا، يشرحون من خلاله، كيف يمكن لدعابة مرّ عليها الزمن، أن تهدد السلم الأهلية. وكيف يمكن، لخلع حجابٍ أو مشاركة فردٍ في تظاهرة احتجاجية، أن تشكل أزمة لمجموعة كاملة من البشر؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اختبرتُ معنى التعرض للهجوم عبر مواقع التواصل الإجتماعية مرتين مختلفتين، الأولى خلال حراك 17 تشرين الاحتجاجي، من قبل محيطي الاجتماعي وبعض الأصدقاء القدامى وغرباء افتراضيين. 

كنت متحمسة ومنجرفة في حركة الاعتراض الواسعة ضد السلطة ولم تردعني الحملات. عزائي حينها بأن التجربة كانت جماعية إلى حد ما، فقد تعرض كثرٌ من المشاركين في المظاهرات، لا سيما الشباب اليافعون، إلى انتقادات لاذعة وهجوم من قبل عائلاتهم ومجتمعاتهم الضيقة، التي كانت بطبيعة الحال، تؤيد واحدًا من الأحزاب السياسية التي شملها الشعار الأوحد “كلن يعني كلن”. وما يزال كثر حتى اليوم، يتعرضون لهجوم مشابه بناءً على آرائهم السياسية المعارضة.

الحملة الثانية التي عشتها كانت على صعيد أكثر شخصية، وذلك بعد نشر صورتي الأولى دون حجاب منذ نحو عامين. 

كانت صورة عادية، لم أعنونها ولم ارفقها بنص طويلٍ عن الحجاب والقرار وما شابه، صورة عادية في مقهى عادي، وأمامي كوب قهوة عادي، وضبطت إعدادات البوست بحيث لا يمكن لمن هم خارج قائمة أصدقائي الإفتراضيين التعليق عليها، ساعيةً بذلك لاجتناب مناوشات قد تدور بين اصدقائي وآخرين.

خلال ساعات قليلة، تحولت هذه الصورة العادية جدًا، إلى “تريند” على فيسبوك، وتحول قراري الشخصي، العادي جدًا، إلى مادةٍ لنقاش حاد على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت أنا، من فتاة عادية، إلى “بطلةٍ” عند فئة، و”ساقطةٍ” عند فئة أخرى. واستمر الأمر كذلك لأربعة أيام أو خمسة، قبل أن يجد المهاجمون، مادةً أخرى، وصراعًا وهميًا جديدا ينخرطون فيه وينسوا قصتي.

عشرات المنشورات والصور والتعليقات والرسائل تناولني بها أشخاص، لا أعرف معظمهم، ولم أكن قبل تلك الصورة، أحدًا بالنسبة إليهم. شتائم وتهديدات وسخرية والحديث عن حياتي الشخصية والتطاول على عائلتي، وشفقةً من رجال دين معروفين في بيئتي، وكل ما يمكن أن يخطر في البال. ولعل أكثر تعليقٍ أتذكره حتى اليوم، كان من شابٍ لا أعرفه على منشور فتاةٍ لا أعرفها أيضًا، قال فيه أنه يتمنى فقط العثور عليَّ. “بس لو يلقطوني ياها” فجاوبته، “تفضل، هياني”.

لم أجد، صبيحة اليوم التالي، ردًا افتراضيًا على هذه الحملة الشعواء، أبلغ من صورةٍ لمشهد شهير في فيلم مصري، حيث يقف  محمد الهنيدي ببنيته الضئيلة ولباسه الأبيض وعقاله، أمام مجموعة من الرجال الضخام الذين يحملون عصيانهم ويهجمون عليه، فيصرخ بهم قائلًا :” ترا يا شباب كبرتوا الموضوع”.

والحقيقة، أن وجود العديد من الأشخاص ممن وقفوا معي في معركة لم اخترها بهذا الشكل، ساعدني على تجاوز الإساءات التي تعرضت لها بشكل أسرع، وجعلني أبتعد عن تأجيج هذا الصراع بأي ردٍ آخر، قد يجد فيه المهاجمون فرصة للاستمرار في حملتهم.

لم أكن الفتاة الوحيدة التي تعرضت لهجوم مماثل على خطوة مشابهة، فقد شهدت صراعات افتراضية لفتيات أخريات، استنفذن طاقتهن بالرد على المهاجمين، وتبرير ما لا يحتاج إلى تبرير، ضمن مجتمعاتهم المختلفة: “هذا خيارنا الشخصي ولا علاقة لأحد بذلك”.

تعلمت، من هذه التجارب، أن لا فائدة من الكلام في هذه الحالات، فالذي يجد نفسه وصيًا أو معنيًا بشكل أو بآخر، بخيارات غيره الشخصية، هو شخصٌ لن تقنعه الأبجدية بأكملها، بأنه وبالأصل، لا يحق له التعليق أو التدخل بما لا يضره ولا يمسه بأي شكلٍ من الأشكال، فما بالك بمن يعطي لنفسه الحق بالتهجم والإساءة لغيره، لمجرد أنه أقدم على ممارسة حقه الطبيعي بالإختيار.

دعابة تهدد السلم الأهلي

استرجع هذه الحادثة اليوم، وأنا أتابع ما مر به الكوميدي نور حجار، مع ما تحمله تجربتنا من اختلاف شاسع على عدة أصعدة، فأنا، وخلال هذه الأيام الأربعة، لم أشعر بأي تهديد حقيقي على سلامتي الشخصية، فقد كنت متيقنة أن اللاهثين خلف الشاشة لا يمتلكون الحافز الكافي لأذيتي، وأن هذا التهويل الإفتراضي هو وسيلة هؤلاء في إظهار فائض قوتهم وذكوريتهم، وأنهم في نهاية اليوم، سينامون ويحلمون، بمشاكلهم الحقيقية، التي يخشون الحديث عنها عبر مواقع التواصل الإجتماعي.

نور، الذي نام كإنسان عادي جدًا، يعمل في مجال تقديم العروض الكوميدية منذ سنوات عديدة، استيقظ ليجد نفسه، من خلال نكتة ألقاها في إحدى عروضه منذ 5 سنوات، تم اجتزاؤها وإعادة نشرها على نطاق واسع، قد هدد السلم الأهلي وأساء إلى ملايين المؤمنين وتطاول على المقدسات. لتسارع القوى الأمنية لاستدعائه واحتجازه والتحقيق معه لساعات طويلة، قبل أن تطلق سراحه بعد التحركات الداعمة التي نظمها ناشطون، على عكس ما جرت العادة من تباطئ متعمد أو غير متعمد، يتم به التعامل مع قضايا أخرى وفي ملفات حساسة أكثر.

فجأة، وجد نور نفسه بوجه إخبار ودعاوى قضائية، وبوجه المئات ممن يهاجمونه ويسخرون منه، ويهدرون دمه على مواقع التواصل الإجتماعية، و يطالبون بمعاقبته ليكون عبرةً لغيره. وقد بلغ الأمر بالبعض إلى النزول إلى الشارع حاملين المصاحف ومرددين شعارات “بالروح بالدم نفديك يا قرآن”. حتى المدافعون عن نور، تلقوا رسائل تهديد ووعيد بملاقاة نفس مصيره. ولا يوجد، بطبيعة الحال ما يعطي شرعية للعنف، أكثر من وضعه في إطار الدفاع عن المعتقدات والقيم الإجتماعية.

تزامن هذا، بعد أيام قليلة من استدعاءه للمثول أمام المحكمة العسكرية بتهمة الإساءة للسلك العسكري عبر “نكتة” أيضًا، ومع فترة، يعيش لبنان خلالها أسوأ أنواع الإنتهاكات والتضييق على صعيد الحريات الفردية.

أقدم نور على نشر بيان إعتذار في اليوم التالي، مؤكدًا فيه أنه لم يقصد، ولا يقصد بأي شكل من الأشكال التعرض للمقدسات ومشاعر المؤمنين، وبأن النكتة خرجت عن سياقها الحقيقي عبر اجتزائها. لم يكن هذا الإعتذار موجهًا للدولة ومؤسساتها التي تحركت لمحاسبته، بل كان لحماية نفسه وأفراد عائلته من التهديدات التي تعرضوا لها، ووضع حدٍ لهذا الهجوم الذي لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن ينجم عنه.

الفرد خارج الجماعة

تتحرك الجماعات ضمن إطار موحد، سواء في التعبير عن غضبها أو فرحها أو حزنها،  ويربطها ببعضها البعض مجموعة من المعتقدات والعادات والتقاليد والمبادئ. وقد يجد الفرد نفسه ملزمًا للانصياع ضمن جماعته التي لم يخترها، بل ولد فيها بالصدفة البحت، وكان يكفي تفصيل واحدٌ ليولد في جماعة أخرى، ويتغير شكل حياته ومنظومته الإجتماعية ومعتقداته.

في حين، يختار واحد من كل عشرة، وهذه ليست إحصائية دقيقة بل مجرد مثال، أن يخرج من جماعته ويمتلك طريقته الخاصة بالتفكير والاقتناع والتعبير عن الأشياء، وفي بلادٍ يعيش فيها الفرد تحت مجهر جماعته، يكون هذا الخروج مكلفًا وشاقًا، وكثيرًا ما يدفع الفرد ثمن هذا الخروج من رصيده الإجتماعي والنفسي والمعنوي.

فالجماعة، التي تحافظ على نفسها من خلال التشبث بهويتها، تشعر بالخطر من كل ما يمس هذه الهوية، ويخرج عن إطارها المحدد الصارم، لذا، فإن أي تصريح واضح ومعلن، يعبر فيه الفرد عن اختلافه، يدفعها لمهاجمته دون ذريعة واضحة. وتنساق الجموع مع بعضها في هذا الهجوم بطريقة عشوائية، كنوعٍ من التضامن وتقديم صك البراءة للفئات الأعلى، التي قد تتمثل بزعيم سياسي أو ديني، أو إلهٍ ربما.

كثيرون ممن هاجموا نور حجار لم يقدموا  طرحًا حقيقيًا، يشرحون من خلاله، كيف يمكن لدعابة مرّ عليها الزمن، أن تهدد السلم الأهلي، وما معنى السلم الأهلي في بلدٍ هو أصلًا على كف عفريت منذ سنوات أربعة. وكيف يمكن، لخلع حجابٍ أو مشاركة فردٍ في تظاهرة احتجاجية، أن تشكل أزمة لمجموعة كاملة من البشر، الذين يفوقونه أضعافًا، وما يزالون، محافظين على ما ورثوه من معتقدات دينية وقناعات سياسية. ولعل معظم من هاجموا نور لم يشاهدوا “النكتة” كاملة، ولا مجتزأة حتى، ولو أنهم فعلوا ذلك لشعروا أيضًا بأنه :”ترا يا شباب كبرتوا الموضوع”.

الهشاشة الإجتماعية

يمكن الحديث، عن أكثر من جريمة وقعت في الآونة الأخيرة، من جرائم قتل واغتصاب وتحرش وسوء معاملة طالت أطفالًا صغارًا، وكان ينبغي لها أن تتحول إلى قضية رأي عام، وأن تسترعي غضب الجميع، جيشًا وشعبًا ودولةً، وأن يتم التعامل معها بكل هذه الصرامة والحزم، ومعاقبة مرتكبيها عقابًا رادعًا، يجعلهم عبرةً لمن اعتبر، لكن هذا، لسببٍ أو لآخر، لم يحصل بعد. 

نعيش تحت وطأة صمت مطبق حول قضايا وأسماء كبرى كان لها الدور في انهيار البلد فوق رؤوس أبناءه، وتحويل حياتهم إلى جحيم يومي لا يوجد أي بادرة أمل بتحسينه في المدى القريب.

يقول غوستاف لوبون في كتابه ” سيكولوجية الجماهير”: “الجماهير ليست كالفرد يبحث عن الحقيقة بالأدلّة والبراهين، بل هي كتلة تبحث عن البساطة لتسير حسبها نحو الهدف الّذي تتوق إليه، ولن يكون ذلك الهدف إلّا نتاج ذكاء شخص أو مجموعة عرفت كيف تحرّك تلك الجماهير فزرعت ذلك الهدف في عقولها”.

 ولعل ما يجري اليوم في بلادنا، من انشغال حقيقي واحتقان مؤقت ومتكرر ناتج عن أحداث عابرة وهامشية، ورضوخ مطلق للحوادث الكبرى التي هي بلا شك، تشكل خطرًا حقيقيًا أكبر على هذه الجموع، هو نتاج مجموعة من القيادات السياسية والدينية الكبرى، التي أرادت أن ترمي عن عاتقها، ذنب سرقة وتفقير وتجهيل وقتل هذه المجتمعات وتأخيرها عن العالم.

ديانا مقلد - صحافية وكاتبة لبنانية | 13.05.2024

قضية شادن فقيه: لسنا جاهزين للسخرية لكننا مستعدون لهدر الدم!

في بلدنا، يتم إعلاء شأن الانتماء الطائفي وجعله محوراً للحياة السياسية والاجتماعية، ما يجعل لتهمة ازدراء الأديان حساسيتها وسطوتها في آن، فيسهل إشهارها في وجه أي شخص يخرج عن السياق العام الخاضع لتلك المنظومة، فكيف إذا كان هذا الشخص "امرأة" لها هويتها الجنسية المثلية المعلنة لتكون هدفاً سهلاً يودّ كثيرون رجمه.