fbpx

مستشفى “تشرين” العسكري… بيروقراطيّة القتل في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تُحيل خرائط “غوغل” حين البحث عن مستشفى “تشرين” العسكري بكامل برود الذكاء الاصطناعي، إلى موقع يتوسط معربا والتل وحرستا ودوما وبرزة. تلك مناطق في ريف دمشق كان يُفترض ألا تتعدى كونها أسماءً على الخريطة، إلى أن غيّر أقدارها نظام “بطل التشرينين” ووريثه، فتصدرت عناوين الأخبار لسنوات طويلة. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تمتلك تسمية “تشرين” قصة في التاريخ السوري الحديث. “بطل التشرينين” أحد ألقاب حافظ الأسد الكثيرة، ويحيل إلى تاريخ الانقلاب الذي قاده الأخير في العام 1970 وتاريخ الحرب السورية – الإسرائيلية 1973، تلك التي بنى عليها الرجل أسطورته الدعائية العسكرية داخل سوريا. تسكن هذه التسمية ذاكرة السوريين لأنها كانت تحيط بهم في كل حين، من أحياء وشوارع وضواحي مدن، مروراً بالمدارس والمرافق العامة والملاعب والأندية الرياضية وليس انتهاءً بالمستشفيات.

تُحيل خرائط “غوغل” حين البحث عن مستشفى “تشرين” العسكري بكامل برود الذكاء الاصطناعي، إلى موقع يتوسط معربا والتل وحرستا ودوما وبرزة. تلك مناطق في ريف دمشق كان يُفترض أن لا تتعدى كونها أسماءً على الخريطة، إلى أن غيّر أقدارها نظام “بطل التشرينين” ووريثه، فتصدرت عناوين الأخبار لسنوات طويلة. 

كانت هذه المناطق حتى وقت قريب ذات كثافة سكانية عالية، تنمو وتتسع باضطراد على تخوم العاصمة التي غصّت بسكانها. لكنها أضحت اليوم في غالبيتها ركاماً يطمر تحته آلافاً من سكانها الذين قُتلوا خلال تظاهرة احتجاجية أو قصف أو اشتباك مسلح أو بسبب جوع تحت حصار خانق أو مرض لنقص العلاج والدواء أو حتى كمداً لانعدام أسباب العيش، أو أنهم اعتقلوا بداخلها أو على حواجز عسكرية وأمنية تحيط بها، وأحياناً فقط لأن بطاقاتهم الشخصية تحمل اسم مناطقهم هذه، ثم اختفوا ولم يُعرف لهم مصير بعدها. رُحِّل من بقي من سكانها على دفعات، وصولاً إلى التهجير الإجباري الأخير في بداية العام 2018 باتجاه مناطق سيطرة الاحتلال التركي والفصائل المسلحة المعارضة لنظام الأسد في شمال شرقي البلاد.

وسط جغرافيا الخراب والموت هذه، يقبع مستشفى “تشرين” العسكري الذي شكّل مادة التقرير المعنون “دَفَنوهُم بِصمت” الصادر حديثاً عن “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”.

يعرض التقرير أحد المسارات الرئيسية للإخفاء القسري في سوريا، اعتباراً من لحظة الاعتقال وصولاً إلى المقابر الجماعية. ويتوقف تفصيلياً عند مستشفى “تشرين” العسكري كمرحلة عبور مهمة في هذا المسار الرهيب، عارضاً بشكل دقيق هيكلية المستشفى الإدارية ودور كلّ من عناصر هذه الهيكلية الأمنية والطبية والخدمية والإدارية في تحويل حيوات السوريين إلى لحم جثث عارية تتراكم فوق بعضها في برادات المستشفى وشاحنات النقل والمستودعات القذرة ثم في العراء، لتبدأ بالتفسّخ والتحلل قبل أن تدفع بها مقدمة جرافة عسكرية إلى حفر وخنادق أنشئت على عجل، ويردم تالياً التراب (الوطني) فوقها تاركة أسئلة أبدية مفتوحة لأمٍّ لا تزال تنتظر منذ سنوات عودة ابنها من الجامعة، أو زوجة لا تزال تحتفل بعيد زواجها وحيدةً ومنتظرةً عودة غائبها يوماً، أو ابن نبتت لحيته وشاربه، بينما كان يمشي خطوته الأولى عندما لم يبق من أبيه إلا صورة على جدار ربما انهار بدوره تحت برميل متفجر.

امتدت مقابلات التقرير على 230 ساعة سُجِلت خلال 154 مقابلة مع طيف متنوع من ضباط وصف ضباط من عاملين وإداريين سابقين، وطواقم طبية مدنية عاملة في المستشفى، ومعتقلين مروا به ونجوا من أطبائه. على رغم أن التقرير قد لا يذيع سراً أو يقدم جديداً لجهة أن مستشفى “تشرين” العسكري كان إحدى محطات كثيرة للإخفاء القسري، لكنه يقدم مادة نوعية في تفاصيل العمل وآلياته داخل هذا المستشفى المقصلة.

يُعين التقرير كلّاً من الرأي العام والمتخصصين على فهم بيروقراطية القتل والإخفاء القسري في سوريا. كما يساهم في فهم أنماط التفكير الرسمية خلف هذه البيروقراطية ودوافعها والغاية المرجوة منها، والأجهزة والشخصيات المسؤولة المنفّذة أو تلك التي صممت آلة القتل والإخفاء هذه ووضعت أسس عملها وغاياته. هذا  كله يمكن الركون إليه واستخدامه من جانب أي آليات عدالة دولية أو محلية أو مختلطة مستقبلية، سواء الجنائية المباشرة منها أو تلك الانتقالوجية حاملة وصفات وعناوين التعويضات ومعرفة الحقيقة وتخليد الذكرى وخلافه.

وسط جغرافيا الخراب والموت هذه، يقبع مستشفى “تشرين” العسكري الذي شكّل مادة التقرير المعنون “دَفَنوهُم بِصمت” الصادر حديثاً عن “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”.

توزّع طائفي… وطبقات للموتى 

يشرح التقرير كيف تمّ فرز الأطباء بحسب موقفهم السياسي من الحدث السوري في العام 2011. ولأن الموقف هنا يدخل في دائرة النوايا في البلد المرعب، فإن الفرز كان يتم على أساس طائفي واضح بهدف التقليل من هامش الخطأ داخل صرح (وطني) كمستشفى “تشرين” العسكري، الذي كان يعدّ في حينه ليضطلع بدور مهم في ماكينة القتل المنفلتة من كل عقال، والأهم انخراطه في كيفية تنظيم سير الجرائم وتدمير الأدلة وطمر الحقيقة.

ترتّب على هذا الفرز الطائفي المتعمد، توزيع معيّن للمناصب الإدارية والصلاحيات داخل المستشفى بحسب انتماء الكادر الطبي طائفياً. فالطبيب (العَلوي) مأمون الجانب وكامل الصلاحيات حتى يثبت العكس، والطبيب (السنّي) مشكوك في أمره حتى يَثبُتَ ولاؤه، وسوى هذين من الطوائف هم في منزلة بين المنزلتين، يُنظر بأمرهم كحالات فردية. ويخضع الأطباء وعناصر الكادر الطبي لمراقبة أمنية عرّضت بعضاً منهم للاعتقال والتعذيب عند الشك في ولائهم أو احتمال تسريبهم ما يحدث في المستشفى إلى جهات خارجه. لم تعرف مصائر هؤلاء حتى اللحظة بحسب المعلومات التي جمعتها “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” على رغم مرور أكثر من 11 عاماً على بعض الحالات، كحالة الطبيب الشاب لؤي الخطّاب من مدينة طيبة الإمام في حماه (29 عاماً عند اعتقاله).

ليس هذا الفرز آنف الذكر إلا نسخة مصغّرة عن الفرز الرئيسي الأهم بين نزلاء المستشفى. فهناك  فئة من مصابي الجيش وقوات الأمن وتشكيلات مدنية مسلحة تقاتل إلى جانبهم، يتمتعون بالحق بالعلاج ومعاينة الطبيب وإجراء العمليات الجراحية وزيارة العائلة، وفي حال موتهم يتم توثيق سبب وفاتهم بإجراءات رسمية لائقة ويبلّغ أهلهم وتُجرى مراسم دفنهم أصولاً بعد تسليم جثامينهم لذويهم. 

هناك أيضاً الفئة عاثرة الحظ من نزلاء المستشفى الذين تم تحويلهم من السجون إلى المستشفى كمرضى، لا يتم عرضهم على طبيب إلا في حالات شديدة الندرة وبشكل عابر، ولا يحصلون على عناية طبية لائقة، ويتعرضون لإهانات وإذلال الطواقم الطبية العاملة حتى بعد موتهم وتكديس جثثهم. إذ يسجل التقرير حالات عدة من ضرب الجثث في برادات ومشارح المستشفى والدعس عليها. المنتمون إلى هذه الفئة يُصار إلى تلفيق أسباب موتهم بتقارير جاهزة مكرّرة تُنسخ من تقرير لآخر، ويُنقلون مكدّسين إلى مقابر جماعية حيث تنتهي مصائرهم في حفرة جماعية، ثم تمر سنوات طويلة من دون أن يتسلّم ذووهم شهادة وفاة، ناهيك باستلامهم أي جثمان. 

كان يتم نقل جثث هؤلاء بشاحنات مخصصة لنقل مواد البناء، ويتم تفريغها في مواقع المقابر الجماعية تماماً كما رمل البناء وحجارته. يشير التقرير أيضاً، الى شهادة سابقة لـ “المركز السوري للعدالة والمساءلة” أدلى بها سائق جرافة تلقى أمراً من ضابط في موقع مقبرة جماعية بأن يصعد بجرافته فوق أكوام جثث كانت تعيق وصوله إلى الحفرة التي أعدّها بعرض 10 أمتار وطول 15 متراً وعمق 3 أمتار، فصعد بآليته الثقيلة فوق تلك الأجساد ساحقاً عظامها تحت عجلات العربة الضخمة التي تزن 40 طنّاً، قبل أن يجرف هؤلاء المسحوقين، فعليّاً ومجازاً، إلى قاع الحفرة ثم يردمها.

شادي هارون، أحد الباحثين الذين جمعوا معلومات التقرير وحلّلوها وأجروا المقابلات مع الشهود على مدى أكثر من عام ونصف العام، يخلص إلى أنه “على رغم كل ما قد توحي به تفاصيل الدفن من إجراءات عشوائية أو اعتباطية لا تعير اهتماماً للبيانات الخاصة بالمعتقلين، إلا أن الآلة البيروقراطية للنظام السوري كانت توثق وتحفظ كل الإجراءات والوقائع الخاصة بنقل المعتقل وتحويله من مكان لآخر أو تلك الخاصة بوفاته أو محاكمته أمام محاكم الميدان العسكري. تعتبر هذه المحاكم مع الشرطة العسكرية البنك الأهم لهذه البيانات، وذلك حتى لحظة نقل الجثث بشكل جماعي إلى الخنادق المقابر التي تم حفرها مسبقاً”. في حين يعمد النظام السوري في كل حين إلى نفي معرفته بمصائر هؤلاء، ناهيك بمسؤوليته عن ذلك.

طريق المستشفى باتجاه واحد

يورد التقرير شهادات متواترة لتعرّض معتقلين مرضى لعمليات تعذيب كانت تنفذها عناصر مفرزة أمنية للحراسة بمشاركة كوادر طبية عاملة في المستشفى. قبل ذلك، يكون قد مات بعض هؤلاء المعتقلين على الطريق إلى المستشفى بسبب سوء ظروف اعتقالهم ونقلهم، قبل أن تتم تصفية آخرين منهم فور وصولهم إلى المستشفى.

 يُجبر المعتقلون المرضى الأحياء منهم على نقل الأموات إلى العربات المعدّة لنقل الجثث إلى المقابر، بل إنّ ثمة شهادات تشرح كيف أُعدم مرضى معتقلون خنقاً حال وصولهم، وطُلب من معتقلين آخرين رفع الجثث إلى سيارات النقل. 

هذا يعني في المجمل، أن دخول معتقل مريض إلى مستشفى “تشرين” العسكري وخروجه تالياً على قيد الحياة في وقت لاحق، هو احتمال المعجزة. يوثّق التقرير شهادات عدة لمعتقلين سابقين شهدوا وفاة زملاء لهم بعد إعادتهم أحياءً من مستشفى “تشرين” إلى السجون بأيام قليلة. عددٌ قليلٌ ممن نجوا من السجن والمستشفى، وشاءت أقدارهم أن يصلوا إلى ضفاف حياة آمنة، قدّموا شهاداتٍ مفزعةً. 

تحدّث أحدهم عن استيقاظه بين أكوام من أجساد القتلى في المستشفى ليبدأ بالصراخ بشكل هستيري أرعب الحرس، فانهال هؤلاء عليه ضرباً بجنون، باكين لشدّة فزعهم منه، في مشهد قد يعجز المرء عن إكمال حياة طبيعية لمجرد تخيله، أو أقلّه إنكار الحدث كخط دفاع أول في المناعة النفسية الذاتية.

شكّل مستشفى “تشرين” العسكري، بحسب التقرير، محطة رئيسية لعبور جثث القتلى من سجن صيدنايا وفروع ومراكز اعتقال في دمشق وريفها إلى حفر المقابر الجماعية التي تنتهي فيها مصائرهم. ولا يبدو في المتناول الحصول على أرقام واضحة بخصوص الجثث التي دخلت مستشفى “تشرين” العسكري أو خرجت منه. بالنسبة الى دياب سرّية، المدير التنفيذي لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، “ليس من الممكن ضمن المعطيات والظروف الحالية التأكد من أي أرقام للضحايا في مستشفى تشرين العسكري. لكنّنا نقدّر أعداد من دخلوا سجن صيدنايا بين العامين 2011 و2021 بحوالى 39 ألف معتقل، بقي منهم حوالى 6 آلاف على قيد الحياة. جزء غير يسير ممن فقدوا حياتهم تم تحويلهم إلى مستشفى تشرين العسكري أحياءً، ثم ماتوا هناك. استطعنا توثيق 80 حالة فقط لأشخاصٍ عادوا من المستشفى إلى سجن صيدنايا على قيد الحياة، وذلك من أصل 1160 حالة موثقة داخل السجن. نتحدث هنا فقط عن عدد الأشخاص الذين تمكنّا من التحدث إليهم والوصول إلى معلوماتهم من أصل مجموع معتقلي السجن الإجمالي”.

مسار العدالة عن بعد

يخلص التقرير إلى مجموعة توصيات خجولة للأمم المتحدة ودوائر الهجرة الأوروبية والمنظمات السورية ودعوات للتوثيق والتدقيق في جهاز الشرطة العسكرية وفرض عقوبات دولية فردية على أسماء بعينها. في حين تغفل التوصيات أي إشارة إلى ضرورة الدعوة للمحاسبة الجنائية الدولية المباشرة على جرائم كبرى من هذا النوع. قد يرجع هذا أصلاً إلى مزاج سوري عام محبط من قدرة آليات العدالة الدولية على التدخل والمحاسبة في الملف السوري. يدعم ذلك توجه دول أوروبية لتبني محاسبة أفراد موجودين على أراضيها ضمن محاكمات هزيلة أمام قضاء محلي تمنحه الولاية القضائية العالمية صلاحية التحقيق والمحاسبة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت خارج حدود هذه الدول. يحدث هذا فيما لا يُتَوقع من محكمة محلية في مقاطعة غربية نائية أن تتمتع بالخبرات اللازمة والمعرفة الضرورية للسياق والوصول الى البيانات والمعلومات اللازمة للتعاطي مع قضايا كبرى بهذا الحجم حدثت على بعد آلاف الأميال. إضافة الى تورط مؤسسات سورية في الترويج لهذه العدالة المسخ والتعمية على الرأي العام السوري حول جدواها وفاعليتها وحجم تأثيرها الحقيقي، ثم عدالتها أصلاً طالما أنها لا تستطيع الإحاطة بالسياق والأدلة.

أنشأت الأمم المتحدة حديثاً، بتوصية من لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا، آلية دولية جديدة للبحث عن المفقودين والمختفين قسراً في سوريا. تضاف هذه الآلية إلى شقيقتها “المستقلة والمحايدة” التي تم إنشاؤها في العام 2016 “للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة في الجمهورية العربية السورية”، والتي يتابع المتحدثون باسمها منذ سنوات تكرار ذكر الإنجازات نفسها حول التوثيق وتقديم الأدلة للمحاكم المحلية المذكورة أعلاه. 

من غير الواضح كيف سيعمل هذا النوع من الآليات الدولية الهجينة في ظل عدم قدرتها على الوصول المباشر الى مصادر المعلومات ودخول البلاد والبحث والتحليل المباشر في المقابر الجماعية وعينات الحمض النووي للجثث. سيجيبك المتحمّسون لإنشاء هذه الآليات بأنها قد تفعل ذلك في المستقبل بعد عقود من الآن. حتى ذلك المستقبل، فإن حاضر السوريين هو مستقبلٌ شاءه لهم “بطل التشرينين”، ومستقبلهم هو ما يشاؤه لهم اليوم ابنه، وتهافت “الآليات الدولية” والمحتفون بها كذلك.

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.