fbpx

ازدواجيّة المعايير… أوروبا التي “تحتار” أمام مآسينا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ازدواجية المعايير يعني أن تتبنى جمعية حملة لجمع تبرعات للاجئة مصابة بالسرطان، يرافقها التشديد على وحشية المعتدي الروسي الذي يحرم المرأة من علاجها، لكن يعم الصمت عندما تطالب إسرائيل بإخلاء مستشفيات من مرضى السرطان ليموتوا بصمت وألم. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يعيش العالم اليوم ازدواجية المعايير أو ما يُعرف بالإنكليزية بـ Double Standards، المصطلح الوحيد الذي ينطبق على ما تختبره أوروبا على وجه الخصوص، التي تقدم نفسها على أنها حامية حقوق الإنسان والمدافعة عن الإنسانية، أو هذه على الأقل الصورة التي تريد أن تظهر بها.

 لن نغوص في تاريخ استعمال هذا المصطلح لأن شرحه يطول، لكنه ببساطة “تطبيق مجموعة مبادئ مختلفة لمواقف مماثلة، أي هناك مفاهيم معينة مقبول تطبيقها على مجموعة واحدة من الأشخاص، ولكنها تعتبر غير مقبولة – محرمة – عند تطبيقها على مجموعة أخرى”. يتضح الأمر  على سبيل المثال، حين نقوم بمقارنة بسيطة بين رد الفعل الأوروبي إزاء ما يحصل في فلسطين ومقارنته بما يحصل في أوكرانيا. تكفي مقارنة تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين التي وصفت الحرب الروسية على أوكرانيا بأنها إرهاب، كما صنفت الهجمات الروسية على البنى التحتية المدنية وقطع المياه والكهرباء والتدفئة عن الرجال والنساء والأطفال على رغم الشتاء البارد، بجرائم حرب خصوصاً، ولكنها لم تعلق على وصف وزير الدفاع الإسرائيلي سكان غَزة بـ”الحيوانات البشرية” وتهديده بقطع الوقود والغذاء والمياه عن مليوني فلسطيني والتهديد بتهجيرهم.

أكدت فون دير لاين “وقوف أوروبا الى جانب إسرائيل في هذه المأساة”، وازدادت حدة التصاريح بعد إعلان الاتحاد الأوروبيّ أنه بصدد إيقاف المساعدات التنموية للفلسطينيين، التي تبلغ قيمتها 730 مليون دولار، الأمر الذي زاد من موجة الارتباك والانقسام في المواقف الأوروبيّة، القرار الذي سرعان ما تم التراجع عنه بعد تعبير عدد من الحكومات الأوروبيّة عن معارضتها هذا القرار. 

ازدواجية المعايير، وإن كانت مفهومة في السياسة وذلك نظراً الى تداخل العوامل الاقتصاديّة والتجارية والمصالح الدولية، تبقى مستغربة لدى المنظمات والجمعيات الإنسانيّة وحتى الشعوب. هذه المنظمات التي سارعت إلى التحذير من الحرب الروسية على أوكرانيا والتبعات الإنسانية لهذه الحرب حتى قبل حصولها بأيام عندما كان هناك مجرد حديث عن احتمال وقوع حرب، هذه المنظمات نفسها انتظرت أياماً لإصدار بيانات عما يحصل في غزة. بعض تلك البيانات كُتب بلغة محايدة تماماً، الى درجة يصعب فهم المغزى منها من دون تحديد مسؤوليات، بعكس بياناتها في أوكرانيا التي كانت تسارع الى توثيق الانتهاكات، وترفع الصوت عالياً حتى عندما يكون الحدث بسيطاً، إذ كانت تتم الإضاءة عليه كخرق كبير لقوانين الحرب من جهة روسيا. 

ازدواجية المعايير أتذكرها جيداً حين زار وفد دولي وممثلون عن المنظمات الدولية مركز إيواء للاجئين الأوكران، وبكوا عند سماع قصص الأطفال عن أصوات الحرب وعن فقدانهم ألعابهم وعن اشتياقهم لآبائهم – لا أقول ذلك تهكماً أو أحاول التقليل من هذا المصاب أو مقارنة حرب بحرب-  أذكر هذه الحادثة للإشارة إلى سكوت هؤلاء الموفدين أنفسهم عما يحصل في غزة.

أتذكر جَيداً صراخ أحد هؤلاء “الإنسانيين” حين خرج من إحدى الجلسات لأنه لم يعد يحتمل الاستماع الى مآسي الحرب، خرج صارخاً:”لا ينبغي لأيّ طفلٍ أن يرى ما رأوه على الإطلاق”. منذ بدء الحرب على غَزة، أدخل يومياً الى صفحة هذا “الإنساني”، ولا أراه مهتماً لما يعيشه أطفال غزة. هو مهتم أكثر بتفادي الخسائر من الجانبين. ليس مهتماً بأشلاء أطفال تناثرت على جدران مستشفى أو طفل يرتمي في أحضان والدته المقتولة أمامه، يريد فقط تفادي الخسائر، قصة الطفل الأوكراني أبكته ولكن أشلاء طفل فلسطيني اعتبرها “خسائر”.

يعيش العالم اليوم ازدواجية المعايير أو ما يُعرف بالإنكليزية بـ Double Standards، المصطلح الوحيد الذي ينطبق على ما تختبره أوروبا على وجه الخصوص، التي تقدم نفسها على أنها حامية حقوق الإنسان والمدافعة عن الإنسانية، أو هذه على الأقل الصورة التي تريد أن تظهر بها.

ازدواجية المعايير تتّضح عندما ينهار زملاؤك في العمل لمشاهد صاروخ أصاب شرفة (ولحسن الحظ لم يصب أحداً بأذى)، وتتناقص إنتاجيتهم ويجلسون طوال اليوم في المكتب متوتّرين معلنين “موت الإنسانيّة”، لكنهم في الوقت ذاته يتصلون لنصحي بالتزام الحياد وألّا أنسى أني عامل في المجال الإنساني ويجب ألّا أكون طرفاً أو متحيزاً الى أحد جانبي “الصراع”،  بالنسبة إليهم “لم تمت الإنسانيّة” عند قصف مستشفى وتجميع بقايا الجثث بأكياس بلاستيكية. 

تتضح ازدواجيّة المعايير عندما تشاهد أشخاصاً يبررون حق شعب بأرض، لأن أحد الآلهة وعد نبياً بـ”أرض ميعاد”، لكنهم يتوجسون من مقاومة شعب لمحتلّه، فقط لأن قتلى هذا الشعب يصرخون “الله أكبر” عند موتهم.

ازدواجية المعايير يعني أن تتبنى جمعية حملة لجمع تبرعات للاجئة مصابة بالسرطان، يرافقها التشديد على وحشية المعتدي الروسي الذي يحرم المرأة من علاجها، لكن يعم الصمت عندما تطالب إسرائيل بإخلاء مستشفيات من مرضى السرطان ليموتوا بصمت وألم. 

ازدواجية المعايير هي بالسماح لآلاف الأوروبيين بالتظاهر أمام السفارات الروسية وطلائها بالأحمر للتنديد بالحرب الروسية على أوكرانيا. وفي المقابل، مُنع  أي شكل من التضامن مع فلسطين ومُنع الناس من الاقتراب من السفارات الإسرائيلية. 

ازدواجية المعايير أن تستقبل أوروبا ملايين النازحين الأوكران مقدمة لهم كل التسهيلات، وفي المقابل يموت اللاجئون من أفغانستان والعراق وسوريا وأفريقيا من الصقيع والبرد والأمراض على مداخل أوروبا. ازدواجية المعايير أن يأتي الأوروبي إلى بلداننا ليعلمنا القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان ويعطينا الأمثلة ويخبرنا كيف للعالم أن يكون مكاناً أفضل. لكنه اليوم، ونحن بأمس الحاجة الى تطبيق هذه القوانين، يصبح متريثاً وعليه أن يستمع الى كل جوانب القصة. 

ازدواجية المعايير أن ترسل مليار دولار إضافية إلى أوكرانيا لتغطية الحاجات الإنسانية خلال فصل الشتاء، وأن يكون العجز مليار دولار في مهمتك الإنسانية في الصومال. في تقرير نشرته منظمة “أطباء بلا حدود” بعنوان” أوكرانيا: حرب المعايير الإنسانيّة المزدوجة، 5 أمثلة”، نقرأ أن اهتمام وسائل الإعلام والتغطية الإعلامية طوال الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا كانا كبيرين مقارنة بقضايا وأزمات أخرى تم تجاهلها.

يضيف التقرير أيضاً، أن الاهتمام الدولي اختفى في ما يخص مآسيَ أخرى تحصل في جميع أنحاء العالم. أعطى التقرير مثالاً عن الأزمة في أفغانستان، والتي اختفى الحديث عنها في وسائل الإعلام على الرغم من تدهور الوضع الإنساني في البلاد إلى حد كبير. قارن التقرير أيضاً  بين أعداد القتلى في أوكرانيا الذي بلغ بحسب الأمم المتحدة 5827 قتيلاً، بينما في إثيوبيا هناك ما يقارب نصف مليون قتيل بسبب الحرب منذ أيلول/ سبتمبر 2022.

أمر آخر تطرق إليه التقرير، وهو الازدواجية في التعامل مع اللاجئين الأوكران الذين لم يُنظر إليهم باعتبارهم يشكلون “مخاوف أمنية”، أو “حاملين للأمراض”، أو “مهاجرين اقتصاديين يبحثون عن الفرص” كما يتم تصوير اللاجئين الفارين من أماكن صراع أخرى. ازدواجية المعايير ظهرت أيضاً في الاستجابة الإنسانيّة من أجل أوكرانيا، إذ اعتبرتها الأمم المتحدة واحدة من الأكبر والأسرع والأكثر سخاء من حيث التمويل، الذي بلغت قيمته تسعة نداءات سابقة أطلقتها الأمم المتحدة لحالات طوارئ أخرى.

استشهد التقرير بكلام منسق الشؤون الإنسانية السابق للأمم المتحدة مارك لوكوك، الذي قال إن “تحويل المساعدات إلى أوكرانيا سيؤدي إلى تفاقم الوضع في أماكن أخرى ذات احتياجات إنسانية”. في مقابل هذا التمويل السخي لأوكرانيا حيث هناك 15.7 مليون شخص محتاج، تقلّص تمويل استجابات في مناطق أخرى في العالم مثل سوريا والمناطق ذات الصلة بأزمتها، حيث هناك 34.1 مليون شخص محتاج، وبلغ العدد 30.1 مليون في أفغانستان، و29.4 مليون في جمهورية الكونغو الديمقراطية، و 25.9 مليون في إثيوبيا.

 أشار التقرير أيضاً، الى أن حماية المدنيين في أوقات النزاع المسلّح تتطلب أن يُدعم حق السكان في البقاء بالقربمن منازلهم قدر الإمكان، كما لهم الحق في المغادرة، منتقداً عمليات الإجلاء وبخاصة تلك التي قام بها الروس، إذ نقلوا المدنيين الى مناطق تحتّلها روسيا أو إلى روسيا نفسها. 

كذلك، تطرق التقرير الى استهداف المرافق الصحية وقصف المستشفيات، إذ أبلغت منظمة الصحة العالمية عن وقوع 503 هجمات على مرافق الرعاية الصحية، أدت إلى مقتل 100 شخص وإصابة 127 آخرين، وتصدرت هذه الهجمات الأخبار مقابل تعتيم على استهدافات أخرى لمستشفيات حصلت في سوريا وإثيوبيا.

 المعايير المزدوجة لا تكمن فقط، حسب التقرير، في التغطية الإعلامية لحوادث استهداف المستشفيات في أوكرانيا، بل في كيفية تصوير التفجيرات واعتبارها “متعمدة، وجرائم حرب”، بينما وفي صراعات مسلحة أخرى، هناك حالات لا تتم فيها إدانة هذه الهجمات بشدة، بخاصة إذا كان مرتكبوها متحالفين مع الغرب، مع تطبيع الخطاب لخطأ محتمل، أو حتى تحميل إدارة المستشفى المسؤولية، وهذا ما حصل بالفعل عند استهداف إسرائيل مستشفى المعمدانية في غزة. 

في ظل هذا الجنون الذي يعيشه العالم منذ أسبوعين، من الجيد العودة إلى القانون الدولي الواضح في تعبيره عن حق الأشخاص الخاضعين للاحتلال بالمقاومة عبر استخدام أي وسيلة متاحة لهم لحماية أنفسهم.  هذا القانون الدولي الذي تمسكت به أوروبا ودعمت المقاومة الأوكرانية بالمال والعتاد في وجه الاعتداء الروسي، تقوم اليوم بالتغاضي عنه، وتدعم الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، من دون أن تطرح سؤالاً حول “حق الدفاع عن النفس” الذي تردده إسرائيل، والذي تقصف غزة باسمه.