fbpx

“أسرار قبرص”: كيف اخترق ضابط في الموساد وزوجته اللبنانية هواتف العابرين في مطار لارنكا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
ICIJ

تُقدم “أسرار قبرص” نظرة ثاقبة على مدى السهولة التي تتهرب بها شركات المراقبة السيبرانية في الجزيرة من الرقابة. وتوضح كيف استغل ضابط الموساد السابق تال ديليان وشريكته في الأعمال وزوجته السابقة، سارة حمو (لبنانية الجنسية)، هذه الثغرات لإنشاء واحدة من أشهر شركات برامج التجسس في العالم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

  ديفيد كينر (الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين)

خلال صيف وخريف عام 2019، ربما فوجئ المسافرون الذين مرّوا عبر مطار لارناكا الدولي بنظام الواي فاي الذي تم تحديثه مؤخراً في المطار. بيد أن هذا الإنترنت السريع حمل بين طياته فخ: فقد وضعت الشركة التي قامت بتركيب المعدات الجديدة أيضاً ثلاث نقاط وصول استخدمت لسرقة المعلومات الشخصية من أكثر من 9 ملايين جهاز محمول مرت عبر مركز السفر الرئيسي في قبرص خلال تلك الفترة.

تعود ملكية الشركة المسؤولة عن سرقة هذه البيانات إلى تال ديليان، القائد السابق لوحدة النخبة في الاستخبارات الإسرائيلية الذي انتقل إلى العمل في القطاع الخاص وبيع برامج التجسس. من خلال إقدامه على اعتراض البيانات من مطار لارناكا، كان ديليان يعض اليد التي أطعمته: فقد أصبح فاحش الثراء بشكل خيالي بفضل شركته المتخصصة في المراقبة السيبرانية التي أسسها في قبرص، واستخدم الجزيرة لتصدير برامج التجسس إلى جميع أنحاء العالم.

يرتبط صعود ديليان ارتباطاً وثيقاً ببروز قبرص كمركز لشركات المراقبة السيبرانية في أوروبا. إذ تفتقر الدولة الجزيرة إلى إطار تنظيمي فعال يحكم تطوير أو تصدير منتجات المراقبة السيبرانية، الأمر الذي يسمح لهذه الشركات بالعمل في ظل قدر ضئيل من الرقابة. وبينما توجد لدى الاتحاد الأوروبي قوانين مكثفة تنظم نقل برامج التجسس، يبدو أن السلطات القبرصية لم ترغب في فرض هذه القواعد. لدرجة أن أحد المسؤولين القبارصة صرح أمام البرلمان هذا الصيف أن وزارته لم تصدر على الإطلاق ترخيصاً لتصدير برامج التجسس قبل أن يُجبر على التراجع عن هذا التصريح أثناء الاستجواب.

تُقدم “أسرار قبرص” نظرة ثاقبة على مدى السهولة التي تتهرب بها شركات المراقبة السيبرانية في الجزيرة من الرقابة. وتوضح كيف استغل ديليان وشريكته في الأعمال وزوجته السابقة، سارة حمو (لبنانية الجنسية)، هذه الثغرات لإنشاء واحدة من أشهر شركات برامج التجسس في العالم. راجع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (ICIJ) أكثر من 1,800 رسالة بريد إلكتروني كتبتها حمو في كل من “أسرار قبرص” و”وثائق باندورا” المسربة. تكشف الوثائق عن جهودها لإخفاء أنشطة هذه الشركات ومالكيها، بينما كانوا يبيعون تقنيات التجسس – التي استخدمت لتكميم أفواه الصحافيين ومعارضي الحكومات – في جميع أنحاء العالم. وتظهر أيضاً تورط حمو في التعامل مع القضايا القانونية المتعلقة بتنفيذ مشاريع معينة للمراقبة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

حساب سارة حمو على منصة “لينكد إن”

في حين كان ديليان شخصية معروفة في القطاع الخاص للمراقبة السيبرانية لأكثر من عقد، فإن حمو، وهي محامية تقيم في قبرص، قد تجنبت إلى حد كبير الخضوع للتدقيق على الملأ. بيد أن عملها مكن ديليان من تأسيس شركته ذات الوجود المؤسسي في الاتحاد الأوروبي، والتحايل على القيود المفروضة على التعامل مع منتهكي حقوق الإنسان. تظهر مراجعة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين للوثائق المسربة في “أسرار قبرص” و”وثائق باندورا” والوثائق العامة أنها كانت عضوة في مجالس إدارة أكثر من 20 شركة لها علاقات بديليان. وتمتلك أسهمًا في ما لا يقل عن ثلاث من هذه الشركات، وامتلكت أيضًا ثلاث شركات أخرى لها علاقة به. وفي مايو/أيار 2023، وصفها تقرير صادر عن لجنة PEGA، التي أنشأها البرلمان الأوروبي للتحقيق في انتهاكات برامج التجسس، بأنها “شخصية محورية” في “شبكة معقدة من الشركات” مرتبطة بديليان، وهو تحالف شركات يعرف باسم “إنتيليكسا” (Intellexa).

لم يرد ديليان وحمو على الطلبات المتكررة من ICIJ للتعليق على هذه القصة.

تال ديليان

برنامج التجسس الذي تنتجه شركة “إنتيليكسا”، المعروف باسم “بريداتور”، يحول هاتف الشخص المستهدف إلى جهاز يتجسس على مالكه. وهو مصمم للوصول إلى أي بيانات مخزنة على جهاز المستخدم، أو المرسلة منه، بما في ذلك الرسائل والمكالمات والصور وكاميرا الهاتف والميكروفون. وفقاً لتحقيق نشر في أكتوبر/تشرين الأول، فقد عُثر على برنامج التجسس الخاص بشركة “إنتيليكسا” فيما لا يقل عن 25 دولة حول العالم. وقد تم بيعه إلى بعض أكثر الأنظمة دكتاتورية في العالم، بما في ذلك جماعة شبه عسكرية قوية في السودان وأجهزة المخابرات المصرية والحكومة الفيتنامية، التي استخدمت التكنولوجيا لمحاولة اختراق هواتف المسؤولين الأميركيين.

ومن بين عملاء شركة “إنتيليكسا” أيضاً دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي استخدمت برنامج “بريداتور” لتكميم المعارضة في الداخل. وبعد أن أُجبر على نقل عمليات شركة “إنتيليكسا” إلى اليونان في أعقاب الكشف عن سرقة البيانات في مطار لارناكا الدولي، سرعان ما تورط ديليان في فضيحة أخرى: فقد تبين أن برنامج “بريداتور” استخدم لاختراق هواتف صحافي يوناني بارز وسياسي معارض. وقد أثارت هذه الفضيحة ضجة عامة وتحقيقات برلمانية، ودفعت الولايات المتحدة إلى إدراج شركتين تبيعان برامج التجسس الخاصة بديليان في القائمة السوداء هذا الصيف.

تجنب ديليان العواقب الناجمة عن هذه الفضائح، بفضل جهود حمو إلى حد كبير. وتظهر “أسرار قبلاص” أنها استحوذت على شركة تبلغ قيمتها أكثر من 2 مليون دولار من ديليان في العام الماضي. وتوضح أيضاً كيف تمكنت من بناء شبكة شركات واسعة لتطوير وبيع برامج التجسس تمتد عبر أوروبا – من شمال مقدونيا إلى المجر واليونان وأيرلندا – والتي حمتهم حتى الآن من الخضوع للتدابير المحتملة للجهات التنظيمية. ونتيجة لذلك،  تواصل شركة “إنتيليكسا” القيام بعملها المتنامي.

يبدو أن تعقيد هذه الشبكة المؤسسية هو نهج يُستخدم للإفلات من تشريعات الاتحاد الأوروبي. فقد قالت المشرعة في الاتحاد الأوروبي، صوفي إينت فيلد، وهي عضو في لجنة PEGA، التي أصدرت تقرير الاتحاد الأوروبي حول برامج التجسس، “إن الأمر أشبه بتمويه، إنها طريقة يتبعونها لكي يظلوا في الخفاء”.

لم تنتهك أدوات المراقبة الخاصة بالشركات خصوصية الأفراد فحسب، بل قوضت أيضاً المؤسسات الديمقراطية في أوروبا وخارج حدودها. ونتيجة لذلك، تشعر إينت فيلد بالقلق من فشل أوروبا في الالتزام بالقيم التي تعلنها علناً – وتصبح أكثر تخلفاً تدريجياً عن حلفائها الديمقراطيين.

وصرحت أنه “من غير المقبول أن تكون شركة “إنتيليكسا” على القائمة السوداء في الولايات المتحدة وتحظى بمعاملة فاخرة في أوروبا”. مضيفةً، “ستضيق عليهم الأفق. ولكن ليس اليوم، هذا واضح للغاية”.

صعود إمبراطوريّة التجسس

أسست حمو شركة لمنتجات العناية بالبشرة تحمل اسم “ميدوفي” عام 2019، والتي تروج لنفسها على أنها تمزج بين حكمة الطب الصيني التقليدي والبحوث العلمية المتقدمة. وأكدت في مقابلة مع مجلة “ذا سكسسفول فاوندر” أنها استثمرت كل مدخراتها في “ميدوفي” وأشادت بتأثيرات منتجاتها الفعّالة على حياة العملاء الذين يعانون من حالات مثل الصدفية أو الأكزيما. وقالت: “إنها أكثر من مجرد عمل تجاري. ثمة بُعد روحي لما نقوم به”.

لم تكن جهود حمو في خدمة شركات المراقبة التابعة لديليان معنية بالرفاهية الروحية بالقدر نفسه. فقد وقعت في شراكه بعد وقت قصير من انضمامها إلى “ترايدنت تراست”، وهي شركة عالمية لتقديم الخدمات للشركات، في ديسمبر/كانون الأول 2008. فقد كانت شركة “ترايدنت تراست” هي المسؤولة عن تأسيس شبكة مؤسسات لشركة ديليان الأولى لبرامج التجسس المعروفة باسم “سيركلز” (Circles). وبينما كان مقر الشركة في قبرص، تظهر الوثائق المسربة في “باندورا” كيف أنشأ المحامون في شركة “ترايدنت تراست”، بما في ذلك حمو، شراكة معقدة بين سبع شركات تقع في جزر فيرجن البريطانية لإخفاء هويات مالكيها – وهو شكل من الهياكل الغامضة المتعمد التي سيعتمد عليه ديليان أيضاً لاحقاً مع شركة “إنتيليكسا”.

مثل الشبكات المؤسسية التي تقوم بإنشائها، قد يكون من الصعب تحديد هوية حمو: فقد وُلدت في وارسو، بولندا، لأم بولندية وأب لبناني، التحقت حمو بكلية الحقوق في إنجلترا قبل أن تنتقل إلى قبرص، حيث أمضت معظم حياتها المهنية. وفي المقابلات، وصفت طموحاتها في ريادة الأعمال بعبارات نسوية: فقد قالت خلال مقابلة مع إحدى المجلات، “نشأت في بيئة شرق أوسطية، حيث لم تكن النساء في العادة رئيسات تنفيذيات، وأرغب في أن أظهر أننا مؤهلات تماماً لهذا المنصب بالقدر نفسه”.

جعلت شركة “سيركلز” من ديليان رجلاً فاحش الثراء. فقد باعت الشركة برامج التجسس الخاصة بها إلى دول في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الجيش التايلاندي والإمارات العربية المتحدة، وأفادت التقارير بأنها حققت مبيعات سنوية في ذروتها بلغت أكثر من 100 مليون دولار. باع ديليان وشركاؤه شركة “سيركلز” مقابل 130 مليون دولار لشركة أميركية للاستثمار الخاص عام 2014، وحقق ديليان أكثر من 20 مليون دولار من الصفقة. واحتفظت الشبكة المكونة من سبع شركات بحصة قدرها 12% في الشركة، التي اندمجت مع مجموعة “إن إس أو” الإسرائيلية وأعيد تسميتها إلى “كيو سايبر تكنولوجيز”. وقد زادت قيمة هذه الحصة ملايين الدولارات عندما بيعت شركة “كيو سايبر تكنولوجيز” مرة أخرى في صفقة عام 2019 قدرت قيمة الشركة بنحو مليار دولار.

كان مقر ديليان في قبرص عاملاً مهماً في نجاح شركته. فقد بدأ أنشطة شركته هناك عام 2008 – وتظهر الوثائق المسربة أنه كان يمتلك أيضاً منزلاً في إحدى القرى السويسرية للتزلج على الجليد تعرف باسم “شاليه بيل أير” (Chalet Bel Air). تحتاج الشركات الإسرائيلية المتخصصة في المراقبة السيبرانية، التي يديرها إلى حد كبير خبراء من الجيش وأوساط المخابرات الإسرائيلية، إلى الحصول على تصاريح تصدير من إحدى فروع وزارة الدفاع الإسرائيلية التي تقيِّم ما إذا كانت المبيعات الأجنبية قد تضر بالأمن القومي الإسرائيلي أو مكانتها الدولية. بالنسبة إلى ديليان، قدمت قبرص أفضل ما في العالمين: فقد استطاع بيع برامج التجسس الخاصة به دون أن يضطر إلى الحصول على موافقة الجهات التنظيمية الإسرائيلية، ولا يزال بإمكانه العودة بشكل متكرر إلى وطنه لتجنيد خبراء القرصنة عند رحيلهم عن مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلية.

جعلت العلاقات الوثيقة بين قبرص وإسرائيل الجزيرة وجهة جذابة بشكل خاص للمسؤولين التنفيذيين الإسرائيليين. ووفقاً لما ذكره صحفي استقصائي قبرصي ومستشار رئاسي سابق، فقد أخبره رئيس أجهزة الاستخبارات القبرصية عام 2019 أن هناك 29 شركة لتقنيات المراقبة مملوكة لإسرائيل تعمل في الجزيرة.

عندما كان ديليان مستعداً لإطلاق “إنتيليكسا” – التحالف التجاري الذي يبيع برامج التجسس “بريداتور” – اصطحب حمو معه. وفي عام 2017، استحوذت على نصف أسهم شركة “سينسورا|  Censura”، وهي شركة قبرصية أنشأها ديليان، ثم في عام 2019، أصبحت حمو المالك الوحيد لها. وفي الوقت نفسه، تلقت الشركة مئات الآلاف من الدولارات في شكل رسوم “استشارية” من شركة “إنتيليكسا” والعديد من الشركات الأخرى المرتبطة بديليان، حسبما تظهر السجلات الداخلية. يتضمن ذلك مدفوعات من كيانات شركة “إنتيليكسا” المختلفة، والتي دفعت منها “سينسورا” ما يقرب من 40 ألف دولار بين عامي 2019 و2021.

 وفي قبرص، أقامت حمو علاقة وثيقة مع شركة محاسبة تُدعى DJC Accountants، والتي على ما يبدو كانت صمام الأمان الذي يمنع التدقيق في أنشطة وملكية عملاء “سينسورا”. فخلال صيف عام 2019، على سبيل المثال، أخبرت الشركة حمو أن المعايير القبرصية تتطلب منها الكشف عن ملكية إحدى شركات ديليان كجزء من تدقيق شركة “سينسورا”. وحذر المحاسب من أن عدم القيام بذلك سيؤدي إلى رأي سلبي في عملية التدقيق، يشير فيه المدقق إلى وجود غموض ومعلومات غير كافية في البيانات المالية للشركة.

سأل أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة حمو: “هل من الممكن ألا يكشف أمرنا؟”.

 فأجاب المحاسب: “بالطبع ذلك ممكنًا”.

ولم تتضمن عملية التدقيق المحاسبي اللاحقة لشركة “سينسورا” أي معلومات حول ملكية الشركة، أو الرأي السلبي للمدقق الذي كان من المحتمل أن يسلط الضوء على غياب هذه التفاصيل.

لم ترد DJC Accountants على طلب ICIJ للتعليق بخصوص علاقتها مع حمو وديليان.

قامت حمو ببناء شبكة مؤسسية لشركة “إنتيليكسا” امتدت إلى ما هو أبعد من قبرص. حيث زعمت دعوى قضائية مرفوعة في محكمة تل أبيب في عام 2020 من أحد شركاء ديليان التجاريين السابقين، آفي روبنشتاين، أن حمو، إلى جانب آخرين، كانت تعمل مع ديليان على “تهريب” أصول من شركة “إنتيليكسا” بهدف الإضرار به. ووفقاً لروبنشتاين، فقد فعلوا ذلك من خلال إنشاء شركات في جزر فيرجن البريطانية، وأيرلندا، واليونان، وسويسرا، وإيطاليا، وجمهورية التشيك، وإسبانيا. كانت هذه الدعوى القضائية بمنزلة أول إشارة علنية للعلاقة الرومانسية بين الزوجين: “الزوجان لديهما طفل، وقد أُدرجا على أنهما يقيمان في العنوان نفسه في قبرص”، كما ادعى روبنشتاين؛ ثم تمت تسوية الدعوى في النهاية خارج المحكمة.

 ومع تزايد الضغوط على ديليان نتيجة الفضائح في قبرص واليونان، قام أيضاً بنقل شركة ثمينة إلى ملكية حمو. يظهر من إحدى الوثائق المرسلة إلى محاسبي شركة “سينسورا” – عن طريق الخطأ على ما يبدو – رسالة موقعة من ديليان إلى بنك قبرص تسمح بإصدار شيكين بقيمة إجمالية تُقدّر بنحو 800 ألف دولار من شركة تدعى “لوساتا للاستثمارات”. وتظهر المراجعة السنوية للشركة التي يقع مقرها في قبرص أن الشركة لديها أصول تزيد قيمتها عن 2.6 مليون دولار. اشترك ديليان وحمو في ملكية شركة “لوساتا للاستثمارات” عند تأسيسها في عام 2019، إلى أن انتقلت الملكية الكاملة إلى حمو في عام 2023.

يبدو أن حمو تميل بشكل طبيعي إلى أسلوب الحياة المتنقل المتمثل في العمل بجانب ديليان. حيث تُظهر سجلات السفر من ذلك الوقت أنها نادراً ما كانت تمكث في مدينة لأكثر من أسبوع؛ فقد كانت تتنقل بانتظام بين زيوريخ ودبلن وجاكرتا ودبي، وغيرها من المدن، وكلها أماكن أوجدت فيها شركة “إنتيليكسا” لنفسها موطئ قدم فيها بوجود مؤسسي أو باعت برامج التجسس الخاصة بها. ورداً على سؤال من محاسبها حول مساهمات شركة “سينسورا” في صندوق الإجازة السنوية، أجابت ببساطة: “أنا وتال مالكان، نحن لا نأخذ عطل”.

“جنّة العصابات”

في الوقت الذي أتقن فيه ديليان استخدام قبرص باعتبارها مركزاً لأعمال المراقبة الإلكترونية الخاصة به، سرعان ما انتشرت العديد من الشركات الأخرى المماثلة في جميع أنحاء الجزيرة. وقد انتشرت هذه البرامج إلى حد أن أحد المشرعين القبرصيين رأى في العام الماضي أن بلاده تحولت إلى “حاضنة للشركات التي تنتج برامج التجسس”.

لعبت حمو دور مهم في تحول قبرص إلى مركز للمراقبة السيبرانية؛ حيث تظهر الوثائق المسربة كيف ساعدت الكثير من المديرين التنفيذيين الإسرائيليين – الذين كان للعديد منهم علاقات تجارية واضحة مع ديليان – في نقل حياتهم وأعمالهم إلى الجزيرة.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كانت حمو تسعى جاهدة لتسجيل شركة جديدة في قبرص. وكتبت إحدى زميلاتها إلى أحد البنوك، أن شركة “Maravilhas Solutions Limited”، سوف “تتخصص في تحسين المركبات وتزويدها بما تحتاجه من كماليات”، مثل توفير خدمات الهاتف والإنترنت. وتوسعت زميلة حمو في الحديث عن أنشطة الشركة في مراسلاتها مع شركتها المحاسبية في عام 2020، فكتبت أنها “تصمم منتجات لمشروع معين”، مثل “تركيبات السيارات” أو “تطوير حقائب لحمل الأجهزة”.

 تجسد شركة “Maravilhas” الدور الذي لعبته قبرص في مساعدة شركات المراقبة الإلكترونية المملوكة لإسرائيل على نشر برامج التجسس في جميع أنحاء العالم. فقد كان أحد مؤسسيها يائير تمير، الذي كان يعمل في ذلك الوقت في شركة “كيو سايبر تكنولوجيز”، وهي الشركة التي أنشئت من خلال اندماج شركة ديليان “سيركلز” مع مجموعة “إن إي أو”.

تمير لم يرد على الأسئلة المُرسلة إليه من قبل ICIJ بخصوص عمليات Maravilhas.

بعد فترة وجيزة من تأسيس شركة “Maravilhas”، وقعت اتفاقية خدمات مع شركة تابعة لشركة “كيو سايبر تكنولوجيز”. اللافت للنظر أن حمو عملت مديرة لكلتا الشركتين في الوقت نفسه، في إشارة واضحة لمركزية حمو بالنسبة لشبكات الشركات تلك. ونصت الاتفاقية على أن شركة “Maravilhas” ستقوم “بتوريد وشحن الأجهزة وتركيبها في مواقع العملاء وستقدم خدمات الدعم والصيانة”.

 وسرعان ما أرسلت شركة “Maravilhas” مجموعة من الفواتير إلى شركة “كيو سايبر تكنولوجيز” المتعاقدة معها؛ وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت فاتورة للشركة بقيمة 40,800 دولار للفنيين المتخصصين والخدمات اللوجستية من أجل “مشروع التركيبات في سنغافورة”. وبعد يومين، أرسلت فاتورتين أخريين يبلغ مجموعهما أكثر من 100 ألف دولار “لمشروع التركيبات في الإمارات العربية المتحدة”.

 “شكرا لكم على عملكم!” قُرئت الفواتير.

 ولا تقدم الوثائق المسربة أي تفاصيل أخرى حول طبيعة عمل “Maravilhas” في الإمارات وسنغافورة. وكلا البلدين لديه سجل متقلب في حقوق الإنسان، ولكنهما يتمتعان بعلاقات قوية مع صناعات الدفاع والاستخبارات الإسرائيلية.

ادعت مجموعة “إن إس أو” أنها تصدر منتجاتها من قبرص، على الرغم من نفي الحكومة القبرصية أنها منحت ترخيص تصدير للشركة. ومن الممكن أن تساعد ترتيبات مثل تلك التي أسستها Maravilhas ــ حيث تقوم شركة مملوكة لموظف بإكمال مشاريع لصالح الشركة ــ في تفسير هذا التناقض الظاهري.

 ساعدت شركة Maravilhas أيضاً في إكمال المشاريع في دول الاتحاد الأوروبي. وفي أوائل فبراير/شباط 2019، أبلغت حمو محاسبيها أنها كانت تشتري بضائع من شركة إسرائيلية لمشروع “كيو سايبر تكنولوجيز” في بلغاريا. وفي الوقت نفسه، في سبتمبر/أيلول من ذلك العام، أبلغها محاسبو حمو أن سلطات الضرائب القبرصية، بناءً على طلب دولة أوروبية أخرى، استفسرت عن صفقة مايو/أيار التي اشترت فيها Maravilhas بضائع من شركة إسرائيلية وشحنتها إلى بلجيكا بقيمة تقارب الـ120 ألف دولار.

بالنسبة للشركات الإسرائيلية، قد يكون من الأسهل العمل مع شركة مُسجَلة في الاتحاد الأوروبي مثل Maravilhas لبيع السلع إلى دول أوروبية أخرى. يمكن أن تكون هذه الطريقة الملتوية لشحن المعدات هي تكتيك يستخدمه المسؤولون التنفيذيون في مجال المراقبة الإلكترونية للتهرب من قوانين التصدير. ففي مراسلات مسربة من تحقيق منفصل، كتب محامي شركة فرنسية كانت جزءاً من تحالف “إنتيليكسا” أنه إذا دُمِجت معدات المراقبة الإلكترونية مع سلع أخرى، ووُجهت إلى دولة ثالثة قبل الذهاب إلى وجهتها النهائية، فإن الشركة غير ملزمة بالإفصاح عن المستخدم النهائي لسلطات التصدير.

 وتُظهر “أسرار قبرص” أيضاً كيف كانت Maravilhas متجذرة بعمق في صناعة المراقبة الإلكترونية في إسرائيل؛ ففي يناير/كانون الثاني 2019، دفعت شركة إسرائيلية متخصصة في مراقبة واعتراض الهواتف الخلوية، تدعى Septier Communication، لشركة Maravilhas أكثر من 100 ألف دولار مقابل “تثبيت النظام”. كما وقّعت Maravilhas أيضاً اتفاقيات سرية مع سبع شركات إسرائيلية على الأقل، منها شركة “إسرائيل كارغو لوجيستيكس | Israel Cargo Logistics”، وهي شركة لوجستية للشحن مقرها في مطار بن غوريون؛ وPICSIX، وهي شركة أسسها ضباط استخبارات سابقون توفر تكنولوجيا اعتراض الهاتف؛ ومجموعة Rayzone، التي تروج لخبرتها في “تصميم وتطوير حلول الاستخبارات المتطورة”.

ومن الواضح أن Maravilhas عملت مع بعض هذه الشركات الإسرائيلية لتنفيذ مشاريع المراقبة السيبرانية. وعند علمها بتحقيق مصلحة الضرائب في شحنة الشركة الموجهة إلى بلجيكا، أرسلت حمو بريداً إلكترونياً إلى ممثل شركة “إسرائيل كارغو لوجيستيكس”، تطلب منه فيه “توضيح كل شيء…في أسرع وقت ممكن”. كما يمتد شركاء Maravilhas التجاريون إلى خارج إسرائيل.

 دفعت الشركة أكثر من 25 ألف دولار لشركة Byron Lawn Ranger، التي تعلن عن نفسها على أنها شركة تنسيق حدائق في بلدة صغيرة على الساحل الشرقي لأستراليا. وجاءت الدفعة في نهاية عام 2018. ويدرج دفتر حسابات الشركة القبرصية الدفعة تحت عنوان “تركيب المشروع”، لكنه لا يقدم أي تفاصيل أخرى.

 ويبدو أنه لا محاسبي شركة Maravilhas ولا الجهات التنظيمية القبرصية قد طرحوا أي أسئلة حول أعمال الشركة مع مثل هذا الشريك غير المتوقع. ومع عمل Maravilhas الدؤوب بشكل واضح على إخفاء هوية شركائها وعملائها التجاريين، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه عاجزاً إلى حد كبير عن فعل أي شيء حيال ذلك. تحتوي قوانين الخصوصية في الاتحاد الأوروبي على استثناءات واسعة النطاق للأمن القومي، والتي استندت إليها العديد من الدول الأعضاء لتبرير استخدامها لبرامج التجسس. ويبدو أن الكثير من الحكومات الأوروبية تنظر إلى عمالقة صناعة المراقبة الإلكترونية على أنهم حلفاء أقوياء، وليسوا تهديدات داخلية؛ فقد أفادت التقارير أن قبرص، على سبيل المثال، حصلت على إمكانية الوصول إلى أدوات برامج التجسس من الشركات المرتبطة بشركة ديليان مقابل السماح للشركة بممارسة أعمالها في الجزيرة.

وترى صوفي إينت فيلد – مقررة لجنة PEGA – أن افتقار الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بمعارضة مبررات الأمن القومي التي تقدمها الدول الأعضاء لاستخدام برامج التجسس يشكل تنازلاً عن مسؤوليته عن حماية ديمقراطيته وسيادة القانون. وقالت: “إن ما تقوله لجنة الاتحاد الأوروبي في الأساس هو أننا لن ننفذ القانون؛ وهذا يعني أن أوروبا أصبحت أكثر فأكثر جنة رجال العصابات”.

نشرت النسخة الإنجليزية من هذا التحقيق على موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين على الرابط هنا.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.