fbpx

حين قال السوريون “حريّة”… مرةً أخرى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 في اللحظة التي بدأت كلمة “حُريّة” تتردد على لسان بعض السوريين، كانت تثير توتراً لدى البعض، لكن الوقت منحنا تجربة أوضح وأكبر لنفكك هذه العبارات والخوف المزروع داخلنا، لنفهمها أكثر ونختار تلك التي تعبر عنا وتشبهنا فقط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في بداية الثورة السورية، كنا كطلاب مدارس مجبرين على المشاركة في مسيرات تنظّمها إدارة المدارس والجماعات الحزبية المشرفة. كنا كأطفال، نشعر بالحيرة تجاه معنى كلمة “مسيرة” ومفهومها، ولكن في المقابل سنفرغ حصتين دراسيتين ونشارك في رحلة سير مع الأطفال، ونخرج من أجواء الصفوف الدراسية الخانقة.

كانت الأعلام واللافتات توزَّع علينا، وكان يُرسم عَلَم النظام على وجوهنا باستخدام أقلام “الفلو ماستر”، وأثناء سيرنا في المدينة، كنا نهتف بصوت عالٍ ونردد الشعارات التي يقولها أحد الأساتذة أمامنا، كانوا يحثوننا على رفع أصواتنا عالياً، يقتربون منا ويهددوننا بأنه سيتم الحسم من درجات سلوكنا إذا لم نرفع أصواتنا أكثر.

 لطالما تعرضت للتهديد بسبب صوتي المنخفض، كنت أحاول جاهداً رفع صوتي إلى حد الصراخ لأعود إلى المنزل في نهاية اليوم بألم في حلقي بسبب الصياح تحت أشعة الشمس، بينما أضع وجهي تحت صنبور الماء وأبدأ بفركه لإزالة الألوان الملتصقة بجلدي.

ترسّخ مشهد صوتي المنخفض في ذاكرتي لسنوات طويلة، مترافقاً مع التهديد، ما أحدث آثاراً نفسية كبيرة داخلي، كنت أعتقد أن صوتي الضعيف يعني عدم قدرتي على أن أكون شخصاً جيداً، فالتهديد بحسم درجات السلوك يعتبر مشكلة بالنسبة إلي، لذلك كان عليّ أن أقدم اعتذاراً في بداية دوام اليوم التالي للأستاذ المشرف، قائلاً: “آسف… هذا هو صوتي، هل ستحسمون من درجات السلوك فعلاً؟”، تعبيراً عن الظلم الذي تعرضت له.

 كان عليّ أن أعتذر لسبب لم أكن أستطيع التحكم به، تلك الحادثة تُجسّد بشكل واضح قسوة النظام واستملاكه أدواتنا وأصواتنا تحت التهديد والإرغام، وبالطريقة ذاتها تم سلب أصواتنا جميعاً لسنوات طويلة، لذلك استغرق السوريون وقتاً طويلاً حتى تمكنوا من الخروج وقول ما يريدونه لا ما يريده النظام!.

العصا وأصواتنا 

كان الحديث عن السياسة ولا يزال أمراً غاية في الحساسية داخل سوريا، علّمنا النظام أن الصمت هو لغة التواصل الآمنة والمقبولة، وعلى مدار أكثر من 50 عاماً من حكم الأسد أصبحنا نتحدث بألفاظ مستعارة ولا تشبهنا، فأبسطها إذا سألنا أحدهم عن حالتنا: “كيفك؟” نكتفي بإيماءة من الرأس، ونجد صعوبة كبيرة في محاولة قول عما يدور داخلنا.

 اعتدنا الأمر حتى نسينا أنفسنا، فلم نعد قادرين على التعبير حتى مع ذاتنا، لم يعلمونا في صغرنا كيف نصف مشاعرنا وأفكارنا مثلاً!، وبالتالي أصبحنا غير قادرين على فهم أنفسنا من الداخل، بخاصة في ظل الظروف الصعبة التي تؤول إلى رضوض نفسية مؤلمة لا يمكن وصفها. في المقابل، كان النظام يفرض علينا قول عبارات تخصه، مثل: “منحبك يا بشار”، في حين كنا نفكر في أمور أبعد من هذه الجملة تماماً.

في تمام الساعة الثامنة صباحاً بتوقيت سوريا من كل يوم، هو الموعد الرسمي لسماع صوت مكبرات الصوت في المدارس السوريّة وهي تهتف بأشعار تابعة لحزب الطلائع والبعث، التي لم ولن تمثلنا يوماً. 

يمكنك سماع أصوات الطلاب وهم يصرخون بصوت مرتفع ويهتفون مُجبرين قبل دخولهم إلى صفوفهم، وكأنها “صلاة مدرسية موحّدة”، صلاة للقائد الأسد وعائلته. هذه إحدى أخطر الاستراتيجيات التي ساهمت في تأليه النظام داخلنا عن غير قصد، يحمل المشرفون عصياً خشبية ويسيرون بين صفوف الطلاب المترادفة بخطوات متوازية ورؤوسهم مرتفعة أمام صورة الأسد ووالده، يأمروننا برفع أصواتنا تحت التهديد. تخيل كيف ستشعر في الصباح وأنت طفل تكافح النعاس والتعب، تُرفَع عصا فوق رأسك لتنطق بجملة لا تفهم معناها!

يبدأ تكرار الشعار الصباحي كل يوم بكلمة “انتباه”، ثم “استعد”، ثم “ترادف”، ثم “آسبل”، ثم “استرح”، وبعد كل حركة نردد كلمتي “بعث وطلائع”. وفي الجزء الثاني من الشعار يقولون: “أمة عربية واحدة”، لنرد بـ” ذات رسالة خالدة”، ويكملون: “أهدافنا” ونحن نرد: الوحدة والحرية والاشتراكية، ثم يختمونها بـ”رفيقي الطليعي كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد والدفاع عنه”، لنردد بدورنا “مستعد دائماً”.

لكن، ماذا تعني هذه الكلمات لأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاماً؟ فمعظم البالغين اليوم لا يدركون معنى هذه الكلمات، رغم أنها تلتصق في أذهانهم كالأغنية، كلما سمعوها أو تذكروها، يتخيلون العصا فوق رؤوسهم وصوتاً من خلفهم يأمرهم: “ارفع صوتك أكثر”.

يعيش أطفال سوريا منذ الصغر في بيئة محاطة بالقيود والرقابة، حيث يتم فرض الانضباط العسكري والاندماج في النظام القائم. ويجب أن يكونوا منصاعين كي لا يتعرضوا للعقاب أو التبغيض، وبالطريقة ذاتها يحاول النظام اليوم تجنيد طلاب الجامعات في مسيرات وفعاليات رسمية لإظهار دعمنا له ولحليفته روسيا، وإلا فإننا نواجه تهديداً بالفصل أو تسجيل غياب عن الدوام الرسمي. 

عندما كتبنا صوتنا

عند السير بجانب أي مؤسسة حكومية تابعة لنظام الأسد في سوريا، ستلفت انتباهك الجدران الملطّخة بخربشات وخطوط عشوائية من الدهان، حيث توجد تحت هذه الخطوط الكلمات التي تخيف النظام، معظم هذه المفردات تُكتب في الليل، بعيداً من أعين الرقابة والجواسيس وأجهزة الأمن. لقد حاول الكثير من الأفراد إيصال رسائلهم على مر الزمن، حتى قبل اندلاع الثورة السورية، من خلال كتابة كلماتهم التي تستهدف النظام السائد والطبقة الديكتاتورية الحاكمة.

العامل المشترك بين معظم مؤسسات الدولة السورية هو جدرانها الخشنة والعالية ذات الألوان الباهتة، ما يجعل إزالة الكتابة عنها أمراً صعباً لا يمكن محوه سوى بواسطة الرسم فوقه أو إعادة تصحيح العبارة أو طمسها بالدهان وتشويه الجدار إن استدعى الأمر، فالنظام لا يكترث للشكل أو للمكان بقدر ما يهتم بإخفاء أي مظهر ينتقد سلطته الحاكمة.

في الواقع، كانت هذه محاولة مخفيّة لنا لإعادة صوتنا عبر الكتابة، من خلال استخدام الكلمات والعبارات لنوصل رسالتنا وصوتنا الذي كتمه النظام لسنوات. نكتب على جدران المدارس والمراكز الصحية ومباني البلديات والفرق الحزبية والأماكن العامة الأخرى.

في المقابل، كانت الشعارات الحزبية تلتفّ حول أسوار هذه المراكز بأحجام كبيرة وواضحة، مثل (إلى الأبد القائد الخالد حافظ الأسد_ الأسد أو نحرق البلد_ مكملين معك_ لن تغمض الجفون حتى نقول نعم لطبيب العيون…) وغيرها من الشعارات التشبيحيّة التي كتبت بصيغة الشعب رغم أنها لا تمثله، كما لو أنهم يمتلكون صوتنا ورأينا، وكرد فعل محق بدأ بعض الأحرار بكتابة عبارات وجمل لتعيد جزءاً من صوتنا المفقود، مثل (يسقط حكم بشار)، لنجد الحكومة في اليوم التالي قد كتبت كلمة (يعيش) فوق كلمة (يسقط) بطريقة مكشوفة وساخرة، لتصبح العبارة: (يعيش حكم بشار).

اليوم وعلى رغم حرص النظام على إخفاء ومحو أي أدلة تدينه، بخاصة أمام منظمات السلم الدولية التي أدانته وأثبتت تورطه في مجازر بحق شعبه، بدأ تدريجياً يفقد السيطرة على ممتلكاته العامة، وبالتالي لم يعد قادراً على تعديل الشعارات الموجّهة ضده. 

 في محافظة السويداء، تجوب الشعارات الحُرّة الجدران والساحات ومراكز الدولة التي أغلقها الشعب عنوة، بخاصة المراكز الحكومية كشعبة الحزب، التي لم تقم بأي دور منذ وجودها سوى إقامة المسيرات وتعليق صور لعائلة الأسد، فاقتحم أهل منطقة شهبا منذ أيام المبنى وحرقوا كل ما يتعلق بالشعارات والصور والتقارير الأمنية التي تحوي أسماء متهمين بالمعارضة ضد النظام تعبيراً عن صوتهم الموجوع.

هل قلنا “حُريّة” حقاً؟

أمام كل هذه الاستراتيجيات، انصاع الشعب مجبراً ، وقال الكلام الذي أراد النظام إسماعه للعالم، من التربية المدرسية كان من السهل على النظام إخراج شعبه بداية الأزمة في مسيرات لصالحه وإجبارهم على قول الكلام الذي وضعه في أفواههم منذ الصغر، وفي المقابل كان من الصعب علينا اختراع عبارات غيرها، أي كلمة جديدة تشكل استغراباً لكثير منا، وكلمة “حُريّة” أول هذه الكلمات.

 في اللحظة التي بدأت كلمة “حُريّة” تتردد على لسان بعض السوريين، كانت تثير توتراً لدى البعض، لكن الوقت منحنا تجربة أوضح وأكبر لنفكك هذه العبارات والخوف المزروع داخلنا، لنفهمها أكثر ونختار تلك التي تعبر عنا وتشبهنا فقط.

لذلك وبعد مضي 51 عاماً من الحكم القمعي لعائلة الأسد في سوريا، نجح الشعب السوري أخيراً في قول كلمته “حُريّة” بصوت واضح وعالٍ، نقف اليوم جميعنا سواء كنا في تظاهرة أو دوام جامعي أو أي عمل آخر ونحن نعرف أننا بدأنا نفهم خوفنا ونتخلص منه، من ساحات السويداء وريف دمشق وغيرهما من المحافظات السورية… نردد كلمتنا بكل إرادة من دون أن يحمل أحدهم عصا علينا أو يهددنا بتقليل علاماتنا، نصرخ ونتذكر أن علو صوت حناجرنا اليوم هو ألمنا العالق في حلقنا منذ الطفولة، وإن لم يقل البعض هذه الكلمة بصوت واضح بعد فإنه يتبناها من داخله ويهز رأسه لها من بعيد.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.