fbpx

هل تحاكم فرنسا مواطنيها الملتحقين بالجيش الإسرائيلي؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يطالب النائب الفرنسيّ توماس بورت وزير العدل والمدعي العام في فرنسا بفتح تحقيق للكشف عن احتمال توّرط فرنسيين، يقاتلون إلى جانب الجيش الإسرائيليّ، في ارتكاب جرائم حرب في غزة، ومحاكمتهم إذا ثبتت هذه التهمة، حتى ولو كانوا من مزدوجي الجنسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“من غير المقبول أن يشارك مواطنون فرنسيون في ارتكاب جرائم حرب إلى جانب الجيش الإسرائيلي”، عبارة وردت في تغريدة للنائب عن حزب فرنسا الأبية توماس بورت

استند النائب الفرنسي في تغريدته إلى تحقيق لإذاعة Europe1 ذكرت فيه أن 4185 فرنسيا جرت تعبئتهم على جبهة غزة من قبل الجيش الإسرائيلي، ما يضع بلاده في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة لجهة عدد مواطنيها المنضمين للجيش الإسرائيلي، ناهيك بانتشار فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لجنود على الجبهة في إسرائيل، يبدو أنهم فرنسيون، يرددون النشيد الفرنسيّ، وهم يرتدون الزي العسكريّ الإسرائيلي.

طالب بورت وزير العدل والمدعي العام بالتحقيق في تورط فرنسيين في ارتكاب جرائم حرب ومحاكمتهم إذا ثبتت هذه التهمة، حتى ولو كانوا من مزدوجي الجنسية. مطلب يحتمل التمعن مع تسجيل سقوط عدد من القتلى والجرحى الفرنسيين، سواء خلال الحرب على غزة في العام 2014، أو على الجبهة اللبنانية إبان حرب العام 2006. حالات تعني أن المتطوعين الفرنسيين ليسوا بمنأى عن الخدمة في الصفوف الأمامية والانغماس في الأعمال القتالية بشكل مباشر. 

يتمسك توماس بورت بالتذكير بغايته الفعلية تجنباً لأي افتراء بحقه “لا أسعى إلى محاكمة كل فرنسي التحق بالجيش الإسرائيلي، ما أطالب به هو تحقيق معمق لمحاكمة من تثبت عليه تهمة ارتكاب جرائم حرب”.

أشار بورت لـ”درج” عدم تلقيه أي رد من وزير العدل، أو من المدعي العام، على رغم مرور شهر على تقديم طلبه. لا يحيل بورت حالة المراوحة إلى غايات سياسية معتبرا أن إطلاق هذا المسار يتطلب فترة زمنية ليست بقليلة.  

ليست المرة الأولى !

ما دفع بورت إلى اتخاذ هذه المبادرة هو الواقع الميداني، فبحسب النائب اليساري، صدر نحو 20 تقرير عن الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية وحقوقية حذرت جميعها من “خطر الإبادة الجماعية” في قطاع غزة. 

يضيف بورت أن هذا التحذير لم يصدر عن فراغ، بل استند إلى قرائن أكدت مقتل 21000 شخص غالبيتهم من النساء والأطفال، يضاف إليها الحصار المفروض على غزة والسعي للقضاء على سبل الحياة، لا سيما عبر استهداف المستشفيات، إلى جانب الرغبة الإسرائيلية المعلنة بترحيل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة. 

صحيح أن مطلب توماس بورت كان له وقع خاص بسبب الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة والانقسام الفرنسي حيالها، لكنها ليست المرة الأولى التي يثار فيها هذا الملف.

عام 2014 طالب النائب عن الحزب الشيوعي الفرنسي جان جاك كوندولييه باتخاذ إجراءات قضائية ضد الفرنسيين الذين يخدمون في “جيش استعماري أجنبي”. من جهته، طالب النائب الاشتراكي بوريا أميرشاهي بتوضيحات حول آلية تطويعهم. 

قدرت مجلة L’obs حينها أعداد الفرنسيين الملتحقين بالجيش الإسرائيلي بنحو 500 شخص، ما يعني أن وتيرة هذه الظاهرة في ازدياد لتخطيها عتبة الأربعة آلاف خلال السنوات العشر الأخيرة. 

والحال أن رقم الـ 4185 فرنسي الذي ذكرته إذاعة Europe1، واستند إليه توماس بورت ذكر قبل خمسة أعوام خلال تناول صحيفة Liberation لهذا الملف. بالتالي، يفتقر الرقم المذكور للدقة والتحديث ليس فقط للأخذ بعين الاعتبار العامل الزمني، بل أيضا لما ورد على لسان الناطق العسكري الإسرائيلي في حينها أنه يشمل حصراً المجندين الذين صرحوا طوعا عن هويتهم الفرنسية. 

هؤلاء المجندون هم إما من مزدوجي الجنسية، أو من الفرنسيين الملتحقين بأحد برامج تطويع الأجانب، أبرزها برنامج ماهال. من شروط الالتحاق بالبرنامج المذكور، أن يكون أحد أجداد المتطوع يهودي الديانة. الغاية من فرض هذا الشرط الإيحاء بوجود رابط مشترك يجمع بين اليهود المنتشرين أيا تكن جنسيتهم، تجنبا لوصف المتطوعين بالمرتزقة.

شرط غير تفصيلي إذا ما أسقط على الواقع الفرنسي: تعاقب المادة 436-1 من قانون العقوبات بالسجن خمسة أعوام وغرامة مالية تصل إلى 75000 يورو على كل شخص “يجري تجنيده خصيصا للمشاركة في نزاع مسلح، دون أن يكون من رعايا البلدان المتنازعة، أو مجندا في قواتها المسلحة قبل اندلاع النزاع، أو مجندا في جيش آخر، وأرسل في مهمة عسكرية”. بمعنى آخر، يحظر القانون الفرنسي المشاركة في الحروب بغية الحصول على مكاسب مادية أو مزايا شخصية خاصة إذا تجاوزت ما يتقاضاه جنود هذه البلدان. 

وعليه، قد يشكل هذا الشرط حصانة سواء لمزدوجي الجنسية أو للمرتزقة الفرنسيين الملتحقين في صفوف الجيش الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر: الحساسية المفرطة حيال معاداة السامية ووجود خطاب سياسي يعتبر معاداة الصهيونية وجها من وجوه معاداة السامية، قد يشكلان رادعا أمام تفعيل هذه المادة عبر تصدير حجج مفادها أن لا شأن لفرنسا بهذا الملف كونهم خدموا في الجيش الإسرائيلي بصفتهم مواطنين إسرائيليين، أو أن هويتهم وتاريخهم العائلي شكلا دافعا للالتحاق بالجيش الإسرائيلي.

على الرغم من ذلك، تعلو أصوات سياسية وصحفية فرنسية تعتبر الالتحاق بالجيش الإسرائيلي، وبغض النظر عن خلفية المجند ودوافعه، بمثابة مشاركة في احتلال أراضي الفلسطينيين، ما يستوجب المحاسبة تحت عنوان انتهاك القانون الدولي.

مبررات قانونيّة لطرح السؤال

لا تشكل الاعتبارات السياسية رادعاً أمام توماس بورت المتمسك بالمحاسبة. يستند بورت إلى المادة 1-461 من قانون العقوبات الفرنسي الخاصة بتعريف جرائم الحرب، إلى جانب المواد 6 و7 و8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. هذه المواد الثلاث تعنى بتعريف الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، كما بادر المشرع الفرنسي إلى دمج نظام روما بالقانون الجنائي الوطني. وعليه، يؤكد بورت إمكانية محاكمة أي شخص يحمل الجنسية الفرنسية بمجرد إثبات هذه التهم. 

يضيف بورت أن النجاح في محاكمة بضعة أفراد يفتح باب مثول سياسيين وقادة عسكريين إسرائيليين أمام القضاء، متوقفاً في هذا الصدد عند الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، واصفا إياها باللحظة حاسمة التي تستوجب توفير كل الدعم الممكن. 

لا يخفي توماس بورت أن جانباً من مطلبه يندرج في سياق الضغط على الحكومة الفرنسية لتعديل موقفها الدبلوماسي: المقارنة بين المشهدين الفلسطيني والأوكراني تدفع بالنائب الفرنسي للمطالبة بالكف عن سياسة الكيل بمكيالين وفرض عقوبات على إسرائيل على غرار ما جرى مع موسكو بعد غزوها لأوكرانيا.

وإذا كان بورت يطالب فرنسا بقطع علاقتها الدبلوماسية مع تل أبيب ووقف تبادلاتها التجارية، لا سيما بيع الأسلحة، حتى تحقيق وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة وإنهاء الاستيطان، فإنه يطالب أيضاً الاتحاد الأوروبي بمراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل.

  يشير بورت أيضاً أن حركة فرنسا الأبية، التي ينتمي إليها، كانت الجهة السياسية الوحيدة التي دعمت موقفه إلى جانب تأييد شعبي واسع من مواطنين فرنسيين ابدوا قلقاً من تورط أقرانهم بالإبادة التي يشهدها قطاع غزة. 

هل نحن أمام شرخ داخلي فرنسي؟

يثير هذا الملف أسئلة داخلية، ففرنسا التي تضم أكبر جاليتين إسلامية ويهودية في أوروبا، تسعى لتجنب ارتدادات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أراضيها. من هنا يجدر التساؤل ما إذا كان التحاق فرنسيين بالجيش الإسرائيلي يزيد الشرخ بين الداعمين لحقوق الفلسطينيين، وأولئك المتعاطفين مع الجانب الإسرائيلي. 

يوافق توماس بورت على وجود هذا الشرخ وإمكانية تعميقه. يضيف أنه تلقى رسائل تهديد من مجموعة يمينية متطرفة كما بادر عدد من الجنود الفرنسيين الملتحقين بالجيش الإسرائيلي إلى تهديده عبر مقاطع مصورة وحتى كتابة اسمه على القذائف المستخدمة في قصف غزة. 

عملية 7 أكتوبر دفعت بالقضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، وأعادت الاعتبار للقيم العالمية المشتركة، وحركت الرأي العام في العديد من الدول بغية التصدي للدعاية الإسرائيلية وهو ما يزعج أنصار إسرائيل، وفقاً لبورت. 

كما ينطوي هذا الملف على بعد آخر: رغم الاختلاف في الخلفية والهوية وآليات التجنيد بينهم وبين الجهاديين الفرنسيين، لكن المقارنة تظهر بعض الدوافع المشتركة وإن كانت شكلية. 

في مقالته الأكاديمية المعنونة “الجهاد الأوروبي الجديد” والمنشورة عام 2017، استعرض عالم الاجتماع فرهاد خسروخاور سمات الجيل الحالي من الجهاديين الأوروبيين. من جملة ما أشار إليه خسروخاور كان إحساس “الجهادي” بالعيش في “مجتمع فارغ من أي مضمون”.  بالتوازي، يدفع الواقع الاجتماعي المعاصر الأفراد إلى بذل مجهود مضاعف للتميز ما يصل إلى حد الرغبة في الظهور في لباس بطولي.  خسروخاور أشار في مقالته أيضا إلى فقدان الأجيال الشابة ثقتهم بالآليات السياسية التقليدية وبقدرتهم على التغيير من خلالها. 

نقاط يمكن إسقاطها على بعض الفرنسيين الملتحقين بالجيش الإسرائيلي الذين سردوا تجربتهم للإعلام الفرنسي، إذ  لم يشيروا إلى ترعرعهم في بيئة مهمشة أو في عزلة اجتماعية، بل كانوا من أبناء الطبقة الوسطى. على الرغم من الاستقرار الاجتماعي والآفاق المهنية المتاحة في فرنسا، اختاروا تغيير مسار حياتهم “خدمة لقضية يؤمنون بها”، لا سيما الذين ترعرعوا في بيئة يهودية متدينة تشكك بقدرة السلطات على حمايتهم من “الخطر الوجودي المتربص بهم”. هذه شهادات يمكن ربطها بما ورد في مقالة خسروخاور لجهة الرغبة الإحساس أنهم فاعلون في محيطهم، ما يشير إلى هويتهم المركبة.  

يشكل الجهاديون الفرنسيون من جهة والمتطوعون الفرنسيون في الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى نموذجين بالغا الرمزية. نموذجان يعكسان ديناميكية ثقافية واجتماعية وسياسية تدفع أفرادا للبحث عن ذاتهم خارج حدود فرنسا.