fbpx

نحن “أبناء الجنوب”  الذين لجأنا إلى العاصمة قبل الحرب بسنوات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لماذا لم نغادر كما فعل الجميع عام 2006؟ وكبرت وأنا أغبط صديقتي مايا على الذكريات التي عادت بها بعد حرب تموز، وكنت أتساءل ما كان ينقصنا لنحظى بذكريات الأطفال تلك، لا التي تُسمع بخلفياتها أصوات القذائف والغارات والموت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أذكر جيداً عودة مايا، صديقة طفولتي وابنة جارتنا، كانت ممتنة لصداقاتها الجديدة، وكان لديها الكثير لتحدثني عنه. عدنا لنلعب معًا كما كنا نفعل قبل الحرب. أحدثها عن الفتاة التي أُخرجت من ثلاجة الموتى على قيد الحياة بعد أن أخطأ المسعفون، وهي تحدثني عن صديقها الجديد طوني وسماحه لها باستخدام الكمبيوتر الخاص به. تحدثني عن الأطباق الجديدة التي جربتها. أما أنا، أتذكر تمامًا كيف أصبحت أحب البازيلا؛ نظرًا لعدم توفر الأطعمة الأخرى. 

 مايا لم تعرف مرارة الموت، ولم تكن على دراية بقصص الأطفال الذين قتلوا في القرية المجاورة. ولم تطلب من الله يومياً الحياة. أما أنا فقد قدمت له وعداً بأن أضع الحجاب إذ أبقاني على قيد الحياة. لم أكن مفتونة به، كنت أحب شعري أكثر. لكن في الحرب، لم أُشغل به كثيرًا، لذا كنت أربطه دائمًا، وكانت أمي تنسى دائمًا أن تضفره. ولهذا السبب، كان من السهل علي أن أتنازل عنه من أجل الحياة.

لطالما سألت نفسي: لماذا لم نغادر كما فعل الجميع عام 2006؟ وكبرت وأنا أغبط مايا أيضاً على الذكريات التي عادت بها بعد حرب تموز، وكنت أتساءل ما كان ينقصنا لنحظى بذكريات الأطفال تلك، لا التي تُسمع بخلفياتها أصوات القذائف والغارات والموت. 

في حرب 2006 لم تُسنح لنا فرصة مغادرة قريتنا، بقينا مع آخرين من جيراننا في الحي، وكنا نواسي بعضنا، وننتظر الحصص الغذائية معاً قبل أن تقصف غالبية الجسور المؤدية إلينا. نحن “الصامدون” الذين لم يفكر أحد بنا كثيراً، كنا ننتظر الحصص الغذائية، ونتوسل الحصول عليها أحياناً، بسبب تجار الأزمة الذين باعوا أغلبها في الحرب، ثم بعدها عرضت للبيع في دكاكينهم. وعند انقطاعي من دواء الربو، اضطر أبي أن يدفع ضعف ثمنه لأحد رجال الأحزاب في المنطقة، ولا بأس بذلك أي أنه لم يكن أمراً صادماً، فالحرب تكشف شوائبنا نحن البشر. 

 بقينا لمدة 33 يوماً تحت القصف، على غرار جارنا “الحاج” الذي أمن الطريق لهروب عائلته إلى سوريا، ولا بأس بذلك أيضاً، فلم ينعتهم أحد بالجبناء، وبعد الحرب فوراً حدث تغيير عجيب في طبقتهم الاجتماعية، أما نحن فتحدث عنا الشعراء والمغنون وقادة الأحزاب الذين صمدوا هم أيضاً في مكانٍ ما آمن… ووصفونا بـ “الصامدين والأبطال”.

ولكن ذلك لا يكفي ابنة التاسعة التي كبرت وعرفت أن كل ما تريده هو مسحاً لذاكرتها هي وباقي الأطفال في الجنوب. اليوم أريد فقط أن تختفي الأصوات من ذاكرتي، وأريد أيضاً أن أنسى كيف يبدو صوت أم كامل (MK) أو تلك الحربية، أريد ألواناً ولعبة والكثير من الفرح. رغم أني أعلم أن ذلك يستحيل هنا، لكني لا أريد الاحتفاظ أكثر بقصص الأطفال الذين استشهدوا بالقرية المجاورة. وأريد مجدداً الحديقة التي لعبنا فيها لأيامٍ معدودة فقط قبل أن يأتي الإنذار بأنها ستقصف، بعد أن وُجد على أحد جدرانها “اكس ملون”، مما يعني في عام 2006، بأنها باتت هدفاً للعملاء، يومها توقفنا عن اللعب، وصرنا نتسلى بالأحاديث التي يلقيها علينا جارنا الحاج “أبو علي” عن الموت وطائر أبي ذر الغفاري.

لست أكتب هذه المدونة لأقف على أطلال حرب تموز، أساساً عام 2020 استبدلت تلك المشاهد بصور انفجار بيروت؛ وهكذا تجددت الأصوات في ذاكرتي. ورغم أني ظننت أني ابنة بيئة “لن تخاف الحرب” والأصوات والموت، لأن الخوف من حيث أتيت للجبناء. اكتشفت اليوم أنني أريد أن أخاف الحرب، وأني أريد حياة لي ولجميع أطفال العالم، وأن لمايا حق في أن تسعى للنجاة ليس من الموت فقط، بل من الذكريات والمشاهد والأصوات!

لفترة طويلة كنت أحسد مايا، التي عادت بعد الحرب، من جونيه، سعيدة جداً، إذ كانت قد قضت أجمل أيام حياتها، وإقامة صداقات جديدة ولعبت. مايا التي نزحت مع عائلتها إلى جونيه، فاستقبلهم المسيحيون هناك. ورغم أننا كنا في البلاد نفسها، وفي الفترة الزمنية ذاتها، إلا أننا عشنا ذكريات مختلفة تمامًا. 

منذ الثامن من أكتوبر أعود إلى مايا، وإلى شعوري ذاك تجاهها. وأنا أكتب هذه المدونة بهدوء في أثناء جلوسي على أريكتي في بيروت، تحديداً في فرن الشباك حيث يعتبر الجميع أن إسرائيل لن تقصف المسيحيين هنا في حال توسعت رقعة الحرب. وكأني “مايا” عام 2006، أحاول أن أعيش يوماً عادياً وأحياناً أحاول أن أنقطع عن الأخبار، محاولةً مني بالنجاة، وطبعاً بالنسبة للبعض هذه خيانة. ولكن كل ما أسعى إليه أن أنجو من هذه الحرب بصدمات نفسية أقل، ويا لهشاشتي، لا أنجو.

أعيش ترفاً لا بد أن أحسد عليه، وبالمقابل أراسل صديقتي “بتول” التي تطل شرفتها على القرى المجاورة التي تقصفها إسرائيل يومياً وبشكل متواصل في جنوب لبنان. أطلب منها باستمرار أن تأتي إلى بيروت، لكن الأزمة لم تبقِ لها خياراً ولا عملاً يؤمن لها حياةً في المدينة، وهذه السريالية، لا تحدث كثيراً إلا هنا، حيث تكون النجاة رفاهية، النجاة إلى القطب الآخر من البلاد لا خارجه حتى، على عكس “الطبيعي” في الدول الأخرى التي تسعى إلى تأمين طرق النجاة لمواطنيها في الحرب، والتي لا تدَعي فقط أنها تمتلك خطة طوارئ، بل تبدأ فوراً بتنفيذها.

أفكر الآن في نهاية هذه الحرب التي يبدو أنها ستمتد خارج حدود الزمن. وأتساءل عن الصور والأصوات التي ستحملها ذاكرتنا، وعن الذاكرة التي سنتحدث عنها، إذ أصبحت لدينا أكثر من ذاكرة واحدة. وكيف سنكوّن نحن أبناء البلد الواحد ذاكرتنا الجمعية، التي تتفاوت بين القرى الشمالية والقرى الجنوبية التي نزح سكانها منها وآخرون بقوا فيها؛ لأن الدولة لم تؤمن لهم سوى صفوف مشتركة في المدارس الرسمية لا تقيهم من البرد. وماذا عنا نحن “أبناء الجنوب” الذين لجأنا إلى العاصمة قبل الحرب بسنوات؟ أين سنذهب بـ “عقدة الذنب” التي نسقطها على أنفسنا كلما حاولنا النجاة؟

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.