fbpx

غزة : بين راديكاليّة الموت و تطبيع تغيب فيه فلسطين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“قضية العرب الكبرى”، كما يتم وصفها، لم تمت، لكن دُولاً عربية، افترضت ذلك قبل السابع من تشرين الأول، حين عمدت الى التطبيع مع إسرائيل من دون ثمنٍ سياسي لضحايا الاحتلال، وكأن فلسطين وأهلها قد اختفوا بالفعل. الأمر هنا أبعد من المبادئ والأخلاق، إذ تبقى القضية الفلسطينية ركناً أساساً للشرعية السياسية في العالم العربي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تدخل الحرب في غزة شهرها الخامس، عدد القتلى والجرحى قارب المائة ألف. وبينما هناك أحاديث عن هدنة طويلة الأمد، وعلى رغم تصريحاتٍ متكررة من الإسرائيليين تنفي نيةَ الإخلاء والتهجير، لا يزال مصير الفلسطينيين مجهولاً، فمن لم يُقتل فقد سكنه وحُرم من مقومات الحياة الأساسية (زاد الوضع سوءاً وقف تمويل منظمة الأونروا). هذا عدا عما يردده اليمين اليهودي-الصهيوني المتطرف جهاراً ليس فقط عن مخطط لطرد أهل غزة فحسب، بل أيضاً لإعادة بناء مستعمرات (التسمية الأدق “مستوطنات”) فيها. إضافة الى ذلك كله،  ما كان يحصل قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من تهجيرٍ واستعمار ممنهجين في الضفة يصاحبهما عنفٌ لا محدود  وتهويد متواصلٍ للقدس.

المأساة الأكبر، هو أن الوضع هذه المرة أشدّ عنفاً ودمويةً ودماراً للحجر ولمقومات الحياة كافة، فإسرائيل “تحُرز” من الفلسطينيين أضعاف قتلاها، من دون تمييزٍ بين مقاتلٍ وغير مقاتل، و”تحقق” دماراً هائلاً لا مبرر عسكري له، في ظل عجز وتخبّط عربيين، إن لم يكن عدم اكتراثٍ، وحضور راديكالية في صيغة الإسلام السياسي لا تبدو عابئةً بالثمن الإنساني الباهظ لما يجري. ربما ستنتهي هذه الحرب شديدة الدموية خلال أسابيع،  لكنها ستبقى محفورة في الأذهان.

هرولة الى التطبيع

“قضية العرب الكبرى”، كما يتم وصفها، لم تمت، لكن دُولاً عربية، افترضت ذلك قبل السابع من تشرين الأول، حين عمدت الى التطبيع مع إسرائيل من دون ثمنٍ سياسي لضحايا الاحتلال، وكأن فلسطين وأهلها قد اختفوا بالفعل. الأمر هنا أبعد من المبادئ والأخلاق، إذ تبقى القضية الفلسطينية ركناً أساساً للشرعية السياسية في العالم العربي.

 مثالاً لا حصراً، التزمت مصر، وهي أول دولة عربية عقدت اتفاق سلام مع إسرائيل، ببنود “حكم ذاتي”  للفلسطينيين، كذلك ربطت مبادرة السلام العربية التي طُرحت في قمة بيروت عام 2002 بين العودة الى حدود الرابع من حزيران/ يونيو  1967 والتطبيع مع إسرائيل. ربما ذلك كله هو غير كافٍ (مفاوضات الحكم الذاتي بين مصر وإٍسرائيل، بمشاركةٍ أميركية، لم تشمل فلسطينين، وتعثرت مراراً حتى توقفت من دون نتيجة ملموسة)، لكن هذه المبادرات على الأقل أشارت إلى جذر المشكلة.

أخيراً، توارى هذا الالتزام بحقوق الفلسطينيين ولو في حدها الأدنى، إذ هرولت دول عربية الى تطبيع كامل مع إسرائيل تحت حكم اليمين الإسرائيلي تحت زعامة نتانياهو الذي عمل بجد طوال حياته السياسية لوأد أي احتمال لنشوء دولةٍ فلسطينية. هذا التطبيع مع حكومة إسرائيلية تضم أمثال إيتمار بن غفير ويسرائيل سموتريتش، ليس فقط استهانةً مطلقة بالفلسطينيين وحقوقهم بل هو تغافل عن الواقع في غزة والضفة والقدس فقط أيضاً وعن حقيقة السياسة في بلادنا. 

لذلك، وعلى رغم أن الحقائق على الأرض لا تُشعر إلا بالقهر والعجز،  هلّل ملايين في المنطقة العربية لما حدث يوم السابع تشرين الأول، ورأوا فيه نصراً مؤزراً. الاحتفال رد فعل، تنفيسٌ عن غل وغضب، لا رؤية بعيدة المدى أو حل قابل للتحقيق. الواقع البائس الذي آلت إليه الأمور كفيلٌ بخلق عاطفة كهذه.

لذلك أيضاً، ربما من الطبيعي أن يتصدر الإسلام السياسي المشهد، فهذه  هي صيغة الراديكالية السائدة اليوم (بديلاً عن ماركسية وقومية سادتا قبل ذلك في صيغٍ مختلفة). ما نراه هنا (في الإسلام السياسي) أفكاراً  “كُليانية”،  لا تقبل إلا بكل ما تريد حتى وإن رضخ أصحابها في الواقع للحلول الوسط. ويغيب عن البال هنا، أن السعي الى الحصول على كل شيء مرجح أن يُفضي إلى لا شيء، وأن الراديكالية-الكليانية والعدمية صنوان، وجهان لعملة واحدة، هذا ما يخبرنا به تاريخ القضية الفلسطينية خصوصاً، والكثير مما جرى ويجري حول العالم عموماً. لكن من يشعر بالعجز الكامل، سيطربه سماع من يحدثه عن الانتصار التام الموعود، سواء كان قابلاً للحدوث فعلاً أم لا.

رفضاً للواقع، تسود رغبة في الحلول القصوى، رغبة مهووسة برد الفعل ومشغولة بالحركة قبل التفكير أو التدبّر، بدءاً من شعارات جماعة الإخوان المسلمين، التي خرجت من رحمها حماس، “الله غايتنا، الرسول قدوتنا، الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”. ما من مؤمن سيضيره أن الخالق غايته، و بداهةً، الرسول هو قدوة لكل مسلم، لكن فهم الرسول هنا (تحديداً) يختصره باقي الشعار: “الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”. يُلاحظ هنا غياب ذكر النصر، وتهميش جانب أساس من شخصية الرسول محمد التي يعرفها غير المسلم وليس المسلم فقط: السياسي الماهر ، صاحب النجاح المبهر، ذو الكاريزما الطاغية، الذي لا يلجأ الى الحرب إلا بعد حسابٍ دقيق، طلباً للنصر لا للفناء. لكن بدلاً من قراءة دقيقة للتاريخ والواقع، يسود اليوم المنطق نفسه الذي عرفته قوميات وفاشيات عدة، والذي يختصره بيت أبي فراس الحمداني  “وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا لنا الصّدرُ دونَ العالَمينَ أوِ القَبرُ”.

استخفاف بالأرواح

وإن كانت اللغة حدّ التفكير، كما أخبرنا فلاسفة من قبل، فلا عجب أننا في العربية لا نملك مرادفاً لـ  Pyrrhic Victory أو ما يترجم اصطلاحاً “النصر البيروسي”، نسبة  الى “بيروس”، أحد ملوك الإغريق القدامى الذي حقق نصراً على روما، وصفه، أي الملك صاحب الانتصار، بالمدمر لكثرة ما تحمّله من خسائر لإنجازه. لهذا (أي لهذا الغياب اللُغوي)، اعتبر “حزب الله” حربه مع إسرائيل عام 2006 “نصراً إلهياً، وستعتبر حماس مجرد بقائها بعد هذه الحرب نصراً مؤزراً أياً كانت التكلفة. لا تشابه هنا مع اعتراف الملك “بيروس” بالتكلفة الباهظة لما حقق، ولا الاستخفاف بالأرواح قَصرٌ على إسرائيل وإن كانت هي القاتل المجرم الذي نعرف. ناهيك بأن معيار النصر هنا ليس المكسب على الأرض فقط، بل أيضاً فشل العدو في تحقيق أهدافه المعلنة.

تُرى، هل توقعت حماس هذا الرد؟ هل سعت إليه لاستدراج إسرائيل الى كارثة علاقات عامة لها بثمنٍ باهظ ولتتصدر هي وحدها، أي حماس، مشهد “المقاومة” كما تعرّفها؟

من جهة، تقول البداهة إن ما جرى يوم السابع من تشرين الأول، في ضوء تاريخ الصراع، ومع حكومة كحكومة نتانياهو، كان محتماً أن يستجلب رداً بهذه القسوة والجنون، ومن ثم يبدو قرار حماس استخفافاً مرعباً بأرواح الفلسطينيين، استحفافاً يطابق منطق “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، وإن كانت الغالبية الكاسحة ممن ماتوا لم يسعوا الى حتفهم. لكن من جهة اخرى، استُدرجت إسرائيل أو لم تُستدرج، تبقى المجرم الأول المسؤول، لا فقط عن إبادة وتدمير نراهما بثاً حياً كل يوم، بل عن واقع خلقته، وتخلى عن تغييره من يجب أن يعنيهم أمره، واقع لا يترك أملاً. فمهما انتقدنا حماس والجهاد، ماذا لدى الغزاوي ليخسره؟ ألم تكن حياته قبل السابع من تشرين الأول موتاً بالفعل (علماً أن الأحوال بالضفة أخيراً كانت  كارثية أيضاً)؟ وإن كان خطاب الإسلام السياسي لا واقعياً، سياسياً، فأي طريق آخر للفلسطيني في هذا الواقع؟ الواقع نفسه الذي خلقه إهمال القضية،  والذي يبرز فيه الإسلام السياسي دون غيره كالبديلٍ المحارب. 

حتى تتغير الحقائق على الأرض بالنسبة الى فلسطين وأهلها، سيبقى المشهد على حاله، وعلى من يريد لجم حماس ومن لف لفها، أن ينظر إلى ما أنتج شعبيتها وحضورها، إلى الفراغ والخواء اللذين فيهما ترعرعت.