fbpx

“أعلى نسبة مشاهدة”: النساء يدفعن فاتورة الوعظ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يُحسب للمسلسل عرض الفقر والحديث عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة والفئات المعدمة، وهو أمر أصبحنا نفتقده على الشاشة المصرية، إذ حلّ محلّه ما يمكن تسميته بدراما الكومباوندات، الهاربة من الحديث عن أي موضوع حقيقي، ولأن مصر يجب أن تظهر فقط كمكان لامع بلا مشكلات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُحسب لمسلسل “أعلى نسبة مشاهدة”، أنه يخوض في منطقة لم تُعرض على الشاشة سابقاً، وهي قضية فتيات التيك توك. لكن منذ تتر المسلسل الذي صاحبته أغنية للمطربة بوسي، تعلم أن الإطار الحاكم هو الوعظ والإدانة الأخلاقية.

تقول كلمات الأغنية: “ليه كده مش واخدين بالنا من حالنا ووضع عيالنا عمال بيسوء، ده زمانهم عكس زماننا ركز احنا كارثة مش هنفوق، الدنيا خلاص ماشية ترندات، فضايحنا تجيب أعلى مشاهدات، التربية بقت موضة سودا جوه الأوضه ابنك ضاع”.

نلاحظ في  حلقات المسلسل لجوءاً مفرطاً الى الميلودراما، ناهيك بالتفضيل السيئ للمخرجة ياسين أحمد كامل، في تجربتها الإخراجية الثانية، بإغراق المسلسل بالموسيقى الحزينة في كل مشهد تقريباً، كأنها تخبر المشاهد هنا  أنه “عليك أن تحزن”، وعوضاً عن الوسائل الدرامية تستدرّ الشفقة.

توظّف في المسلسل وسائل ميلودراميّة متهالكة، كإطالة مشاهد الصراخ والبكاء والتفجع بشكل مبالغ فيه، وهي نفسها خيارات مخرجين كخالد يوسف ومحمد سامي، في أفلامهما ومسلسلاتهما لتغطية ضعف إنتاجهما، ومن المؤسف أن تُستخدم هذه الوسائل في مسلسل كانت تكفيه قوة موضوعه وتعقيداته وحبكته الجيدة.

المسلسل ليس سيئاً في النهاية، لكن يبدو أن من الصعب فهم الفقر أو عرض بؤسه إلا عبر هذا التعاطف البرجوازي، فشرط نجاة شيماء، بطلة الحكاية، الوحيد هو أن تكون ساذجة، أما غير الساذج، فهو مدان أخلاقياً.

 الخيارات الإخراجيّة قوّضت الزوايا الجيدة التي أدركتها بذكاء المؤلفة سمر طاهر، من دون أن أعفيها من الميل إلى الميلودراما المرتبكة بين التعاطف والإدانة، بين الفن والوعظ، بين فهم أبعاد الشخصية الدرامية وبين الأمثولة والعبرة.

الفقر على الشاشة

يُحسب للمسلسل عرض الفقر والحديث عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة والفئات المعدمة، وهو أمر أصبحنا نفتقده على الشاشة المصرية، إذ حلّ محلّه ما يمكن تسميته بدراما الكومباوندات، الهاربة من الحديث عن أي موضوع حقيقي، ولأن مصر يجب أن تظهر فقط كمكان لامع بلا مشكلات.

صورة مصر اللامعة مرحّب بها على منصة “شاهد” السعودية، علماً أن المسلسل ليس من إنتاج “المتحدة”، التي حتى لو عرضت شيئاً ما عن الفقراء، فلن يكونوا إلا فانتازيا من نوع آخر، إذ تشكّل صورتهم عبر تماهي الفنانين مع صورة الفقراء “أولاد البلد” بطريقة تزين الفقر بربطه الدائم بالجدعنة والشهامة.

هناك أيضاً صورة أخرى للفقر مرتطبة بـ”الأشقياء”، الذين يسمح لهم إلى جانب “العضلات”، بتمثيل النبل، ليس وفق مفهوم الفقير، بل بحبسه في قفص تصوّرات الطبقات الوسطى والسيادية والناجية.

ما يلتقطه المسلسل هنا يتجاوز مسألة الفقر، إذ يبيّن أن ما يدفع فتيات التيك توك إلى هذا العالم، هو التطلع إلى عالم خيالي وافتقاد الانتباه.

 الانتباه هنا والكلمات الحلوة هي المكافأة الأولى في عالم لا يرى بطلته أو فقراءه من الأساس، يحدث ذلك لشيماء بطلة الحكاية على المستويات كلها، العائلة والمجتمع، حتى إن الشخص الذي تحبه لا ينتبه إليها إلا عندما تنتشر فيديواتها على تيك توك.

لا تملك البطلة سوى نافذة  نحو “العالم الخيالي”، الذي لا وجود له، ومنذ المشهد الأول، وهي تحلم بفتى أحلام يشبه بطل المسلسل التركي الذي تشاهده، وما يصاحب ذلك من حياة مترفة ملونة، كل ما فيها جميل.

مشاكل  “العالم الخيالي” الدراميّة تتعلق بالعوائق التي تقف أمام الحب، عوائق يمكن أن نقول عنها إنها أرقى، إذ لم تعد لقمة العيش وضغط الفقر أكبر همومها، وهو ما سنراه في عالم الطبقة الثرية في المسلسل.

 عالم كاميليا الثريّة، المرتبط أيضاً بالسوشال ميديا، كل ما يعيق تحقيق المتخيل فيه، هو مشكلة التردد في إتمام علاقة عاطفية، وكاميليا هي النافذة الواقعية على العالم الخيالي الذي تتمناه شيماء، هي مثل أعلى ومن دون أي أحقاد طبقية من أي نوع.

على رغم أنها رُسمت كشخصية رومانسية حالمة، لكن شيماء التي لعبت دورها سلمى أبو ضيف أكثر استعداداً للقبول بوضعها والاستسلام له، على عكس شقيقتها “نسمة الكاريزما” التي لعبت دورها ليلى زاهر، والتي تمثل نقيض سلمى، الشر المطلق، شخصية نرجسية استعراضية يحركها الحقد والرغبة في الأضواء، وهي التي ستقود شقيقتها إلى هذا العالم.

 يبدأ بينهما صدام عنيف ومروع، بسبب نجاح شيماء الفطري والذي يأتي من تفاعل الناس مع براءتها، على عكس شقيقتها التي لا تنجح فيديواتها على تيك توك.

البراءة بمواجهة فساد العالم

البراءة أو السذاجة هي الدافع لدى مشاهدي المسلسل للتعاطف مع شيماء في رحلتها نحو عالم مدان أخلاقياً من مشاهديه، وهي في ذلك تذكرنا بشخصية الأبله في رواية دوستويفسكي، حيث تكشف براءتها شراسة وفساد وقسوة العالم من حولها، وهو شرط خادع أيضاً، فماذا لو أن شخصية غير ساذجة وغير بريئة بشروط المسلسل، قررت أن تلج هذا العالم.

يمثل عالم التيك توك فرصة للخلاص من ضغط الفقر القاهر، وينقل من ينجح فيه إلى عالم الطبقات الأعلى. منصة تيك توك هي فرصة تتّسم بالمساواة بين الطبقات في فرص الصعود، قد يتفوق فيها الفقير على الغني، ويتقدّم من لم يحظ بسبب الفقر بفرصة تعليم جيدة على الحاصلين على أفضل فرص التعليم. رأسمالية من نوع جديد تتشكل، الثروة والفقر فيها يُحسبان بعدد المشاهدات، على عكس الرأسمالية التقليدية التي بإمكانها دائماً استيعاب المزيد.

صك البراءة أو السذاجة، هو الصك الذي يعفي البطلة من إدانة المشاهدين الأخلاقية، لكنه يصبّ في مصلحة الإدانة الأخلاقية لباقي المستخدمين الذين لا يتحلّون بالبراءة الكافية، إذ إن كل أفعال شيماء مدانة، لكنها لا تقصد فعلها بسبب براءتها، التي تجعلها عرضة للاستغلال من شبكة تتاجر في البشر والدعارة المقننة من خلال التطبيق، وهو ما يتوافق مع تتر الأغنية وإطارها الحاكم عن أطفال خاطئين وآباء يجب أن يفرضوا المزيد من الرقابة.

طبقات الفقر

يُحسب للمسلسل أيضاً، تمييزه بين نوعين من الفقر، الأول هو الفقر المرتبط بالأصول القديمة والشعبية، والذي كانت أهم صفاته التحلي بشيء من الكرامة وعفة النفس. لكنه أيضاً مرتبط بمجموعة من القيم التقليدية التي لم تعد صالحة لهذا الزمان، والتي تدفع فاتورتها النساء بوصفهن الحلقة الأضعف.

من بين تلك القيم التقليديّة، وضع خط مستقيم ضيّق للمرأة، وربط الأخلاق بالشرف وانكسار المرأة التقليدي، وهو ما يضاعف من كابوسية ما تفعله شيماء، إذ إن مجرد ظهورها على شاشة ترقص في فيديو كليب في ملابس ليست مثيرة، أو ظهورها وهي ترقص في حنة من دون علمها، يجعلها مارقة على تلك الأخلاق، وهو أمر عادي بالنسبة الى الطبقات الأعلى.

النوع الثاني من الفقر، وهو الذي شُوّه فعلاً على يد السياسات الاقتصادية والتعليمية السيئة، ولم تعد قيمة الكرامة تعني له الكثير أمام فرصة كالتي يتيحها التيك توك، فهبة تاتو واحدة من شخصيات ذلك العالم في المسلسل تبني شهرتها كلها على وضع الزيوت وتكسير البيض على وجهها، أو تزييف زواج لصالح المشاهدات.

هبة تاتو لا تحصل على الانتباه الذي يترجم إلى ربح إلا بتحويل نفسها إلى أراجوز، وهو ما نشاهده فعلاً على قنوات التيك توك ليس فقط من الطبقات الفقيرة، بل أيضاً من الطبقات المتوسطة التي تتفكك وتتفتت، مع تحوّل الكرامة إلى ثقة مزيفة بالنفس، تعتمد على الغطرسة الكلامية التي تحقّر الآخر، وتختزل أي عداء في فكرة الحقد.

“الأراجوز” وسيلة للنجاة

التحوّل الى أراجوز، هو حيلة الفقراء الأخيرة، الفارق أن التيك توك جعلها مسألة مربحة مادياً، بينما يأتي هذا التحول للأب والأم مقابل ملاليم، وفي النهاية لا ينجح سوى واحد في المائة على التيك توك، ولا توجد قاعدة واضحة للشهرة والنجاح.

 عالم التيك توك قائم على دورات انتباه قصيرة من المشاهدين، يحكمهم الملل سريعاً، ويبحثون عن تصعيد أكثر إثارة أو وجوه جديدة، إذ يحظى أي شخص وفقاً لنبوءة آندي وارهول، بخمس دقائق من الشهرة، وعليه أن يستغلّها بأقصى درجة.

وتنشأ عن التنافس الشرس على الانتباه في الواقع وفي المسلسل، صراعات عنيفة قد تصل إلى التهديد بالفضح أو حرق المنازل، كما حدث مع شيماء وهبة تاتو، أو بين شيماء وشقيقتها التي حولت كل مآسي حياتها الى فرجة، بما فيها حريق منزلها وضربها أختها في الشارع.

الإنفلونسر، وهو الاسم الذي يُطلق على الطبقات الأعلى من المنتشرين على السوشال ميديا، لا يواجه المحاكم، وحدهم الفقراء يقعون تحت طائلة القانون، بعدما وجدوا لأنفسهم منفذاً سحرياً يمكّنهم من الهروب من وحش الفقر الذي لا يرحم، هو بتعبير نسمة التي لا تتمتع ببراءة شقيقتها “رزق المجانين من عند ربنا”.

هنا، حكمة الفقراء على رغم إطار الإدانة الأخلاقية، كالرضا أو “مالناش دعوة بالخير أو بالشر” محلّ محاكمة وفحص، فالعائلة نفسها التي تمسكت بقيمها التي أصبح بعضها بالياً، هي التي عاملت شيماء بعنف وتحقير، قيم لا مساحة فيها للرحمة أو التفاهم مع الابنة، إذ حادت عن الخط المستقيم المتخيّل.

ربما يأتي هذا على عكس ما أراده المسلسل، إذ عرضت العائلة بهذا المنطق بحثاً عن أسباب للتعاطف مع شيماء، لا فحصاً لتلك القيم، فبسببها صارت ضائعة بين عالمين، لا مكان لها في الأسفل، أو في الأعلى، دفعت فيه فاتورة الإدانة؛ لأنها الحلقة الأضعف.

النساء يدفعن فاتورة الوعظ

تنتهي الحلقة ما قبل الأخيرة للمسلسل بما بدأه، مشهد ميلودرامي مفجع من خيال الأبيض والأسود، حيث تقبض الشرطة على شيماء من قصر زوجها الثري الذي تزوّجها استغلالاً لعدد معجبيها، بينما يظهر الأب الذي قاطعها ولا يعرف مكانها في الخلفية، وهو يمد يده من بعيد في أسى موجّه إلى المشاهدين بمنطق الوعظ ودق جرس الإنذار.

وإن كان صناع المسلسل قد أشاروا بوضوح إلى الفقر، فقد ضيعوا فرصة لعمل جيد عبر الإدانة والوعظ، العذر الوحيد لصنّاعه أنه لا يمكنهم في النهاية الإشارة بثبات وبوضوح إلى منبع المشكلة – وهو القوانين التي يجب أن تحدث في مواجهة ظاهرة جديدة، والمجتمع الذي “يخدش حياءه”.

 المجتمع الذي لا يفرّق بين الدعارة المقنّنة وبين ظهور فتاة على تطبيق تيك توك، اللهم إلا في مشهد عابر ناقش مسألة الخصوصية ثم سرعان ما نسيها، لينتهي المسلسل بارتكاب ما أدانه، وهو أن تدفع البطلة فاتورة الوعظ وحدها، بمواصلة الهبوط في القاع، لا لشيء إلا لأنها تجرّأت على الحلم.

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.